ملخص: في هذا المقال، نناقش 4 أنواع من التحيزات الشائعة التي يمكن أن تؤثر في عملية صناعة القرارات المؤسسية، إلى جانب بعض الحلول الممكنة للتعامل معها.
- التفكير الجماعي (Groupthink)
- الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias) والتفاؤل المفرط (Excessive Optimism)
- الجمود (Inertia) أو الانحياز للاستقرار (Stability Bias)
- تجنب الخسارة ( Loss Aversion)
تؤثر التحيزات المعرفية (Cognitive Biases) في القرارات البشرية. في هذا المقال، نقدم لمحة عن التحديات الأكثر شيوعاً التي تواجه عملية صناعة القرارات، بالإضافة إلى الممارسات التي يمكن للمؤسسات تنفيذها للتغلب عليها.
يمتلك البشر تحيزات فطرية تؤثر في عملية صناعة القرار، وينطبق الأمر ذاته على الشركات وغيرها من المؤسسات. ويمكن أن تؤدي هذه التحيزات إلى عرقلة صناعة القرارات الواضحة والرشيدة، التي تمثّل جوهر الإدارة الاستراتيجية، أو تحريفها أو حتى منع صدورها تماماً. لتحقيق التكامل بين الاستراتيجية وخلق القيمة بطريقة فعالة، يجب على الإدارة بذل جهود ملموسة للتغلب على هذه التحيزات.
وضع عالم النفس والخبير الاقتصادي الراحل الحائز على جائزة نوبل، دانيال كانيمان، أُسس ما نسميه اليوم "الاقتصاد السلوكي" (Behavioral Economics) و"التمويل السلوكي" (Behavioral Finance). وعلى الرغم من أن تركيزه كان منصباً في المقام الأول على عملية صناعة القرارات الفردية، فقد أتيحت لنا الفرصة للتساؤل عن كيفية تطبيق مبادئه على مستوى المؤسسات. فوجهنا له السؤال التالي: "إذا كان الناس لا يتصرفون بطريقة عقلانية من الناحية الاقتصادية، فهل هناك أمل في أن تتمكن المؤسسات من التصرف بطريقة أفضل؟" فأجاب: "أنا أكثر تفاؤلاً بشأن المؤسسات مقارنة بالأفراد؛ لأنها تستطيع إنشاء أنظمة تساعدها على اتخاذ قرارات أفضل". يستطيع المدراء وضع قواعد وإجراءات تسهم في التغلب على التحيزات المتأصلة التي تؤثر في عملية صناعة القرار.
استناداً إلى رؤى كانيمان، اقترح بعض الزملاء في شركة ماكنزي مجموعة من الأساليب التي تساعد المؤسسات على فهم عملية صناعة القرارات المتعلقة بتخصيص الموارد وتحسينها (أو استلهموا هذه الأساليب من مصادر أخرى). في هذا المقال، نناقش 4 أنواع من التحيزات الشائعة التي يمكن أن تؤثر في عملية صناعة القرارات المؤسسية، إلى جانب بعض الحلول الممكنة للتعامل معها.
1. التفكير الجماعي (Groupthink)
يتبع صنّاع القرار غالباً نمط التفكير الجماعي، وهو التركيز المفرط على تحقيق الانسجام والتوافق في الآراء. من الممكن أن يعوق هذا النمط من التفكير القدرة على دراسة الخيارات المطروحة جميعها بموضوعية، ما يؤدي إلى اتخاذ قرارات أقل جودة وغير مدروسة وكارثية في بعض الأحيان. يقول أحد مستشاري الرئيس جون كينيدي، آرثر شليسنجر جونيور، عن مشاركته في النقاش حول الغزو الفاشل لخليج الخنازير في كوبا: "في الأشهر التي تلت هذا الحدث، كنت ألوم نفسي بشدة لأنني التزمت الصمت في قاعة مجلس الوزراء".
يتجلّى شكل آخر من هذا التحيّز عندما يمتنع المشاركون عن إبداء آرائهم لأنهم يشعرون أن الموضوع المطروح لا يندرج ضمن نطاق مسؤولياتهم أو خبراتهم. في إحدى الشركات الزراعية العالمية، كان أعضاء اللجنة التنفيذية يشاركون في المحادثات الاستراتيجية فقط إذا كان النقاش يدور حول مجالات عملهم. أدى الافتراض الضمني، الذي يتمثل في عدم تدخل الأعضاء في المجالات التي تقع ضمن نطاق مسؤولية زملائهم الآخرين، إلى عدم استفادة اللجنة من وجهات نظرهم وأفكارهم.
تؤكد الدلائل القاطعة أن جودة القرارات تكون أفضل عند إجراء نقاشات دقيقة وعميقة ومنفتحة؛ إذ كشفت إحدى الدراسات أن المناقشات العالية الجودة تزيد احتمالية نجاح القرارات الكبيرة والمصيرية بمقدار 2.3 مرة. وقد تناولت دراسة مستفيضة أهمية النقاشات الفعالة والبنّاءة في تحسين عملية صناعة القرار.
من الناحية المثالية، يجب أن تمتلك الشركة التي تسعى لتحقيق نجاح استراتيجي طويل الأمد ثقافة تتقبّل تعدد الآراء والاختلاف في وجهات النظر، حيث يكون النقاش المنفتح والعميق والبنّاء أمراً طبيعياً وجزءاً أساسياً من أسلوب العمل. لكن يجب على غالبية الشركات اتخاذ خطوات فعالة وملموسة لتحفيز النقاش؛ وتتمثل الخطوة الأساسية في نزع الطابع الشخصي عن النقاش وتعزيز الاختلاف في الآراء بوصفه أمراً مقبولاً وطبيعياً داخل المجتمع المهني. فيما يلي بعض الأساليب المفيدة لتحقيق ذلك:
- عيّن شخصاً بدور "محامي الشيطان" يتبنى موقفاً معارضاً ويقدم وجهات نظر مختلفة في النقاشات الاستراتيجية، واحرص على أن تتضمن مساهمته دلائل وتحليلات مدروسة ولا تقتصر على مجرد إبداء آراء شخصية. يجب أن يركز على لفت الانتباه إلى السيناريوهات البديلة المحتملة أو تسليط الضوء على المعلومات الناقصة التي قد تكون مهمة للنقاش.
- احرص على طرح وجهات نظر متنوعة في النقاش. منذ أكثر من 150 عاماً، قال المفكر جون ستيوارت ميل في كتابه "عن الحرية" (On Liberty): "لا يمكن للإنسان فهم موضوع معين إلا من خلال الاستماع لوجهات النظر المختلفة حوله". وقد أثبتت الأبحاث الحديثة صحة ما طرحه ميل، فالتنوع يعني الاستفادة من آراء أشخاص مختلفين ينتمون إلى تخصصات وأدوار ووأعراق مختلفة في المناقشات المهمة. احرص على الاستعانة بالموظفين المبتدئين ممن يمتلكون خبرات ومهارات متميزة ومتخصصة، ووفر لهم بيئة آمنة تتيح لهم التعبير عن آرائهم واطلب منهم طرح أفكارهم.
- اعتمد أسلوب التصويت السري (Secret Ballots) لتشجيع النقاش. استخدم هذا الأسلوب في بداية النقاش وليس في نهايته. بمجرد عرض المقترح وقبل مناقشته، اطلب من المشاركين التصويت عليه سراً. يمكن أن يتضمن الطلب تصويتاً بالموافقة أو الرفض على أحد المشاريع، أو ترتيب الأولويات الاستثمارية. عند عرض النتائج، إذا اكتشف المشاركون أن هناك شخصاً واحداً على الأقل يشاركهم وجهة النظر نفسها، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى تعزيز ثقتهم وشعورهم بالارتياح والأمان، ما يشجعهم على التعبير عن آرائهم.
- أنشئ نشاطاً يعتمد على أسلوب تقسيم المشاركين إلى فريقين من أجل مناقشة الاستثمارات الكبرى، بحيث يتبني كل فريق وجهة نظر مختلفة عن الآخر. على الرغم من ارتفاع تكلفة التحضير والتحليل لهذا الأسلوب، فمن الممكن أن يؤثر بدرجة كبيرة في القرارات الكبيرة والمهمة التي تتخذ في ظروف شديدة الغموض.
2. الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias) والتفاؤل المفرط (Excessive Optimism)
هما نوعان مختلفان من التحيزات، لكن يمكن التعامل معهما باستخدام الأساليب نفسها، لذلك سنناقشهما معاً.
يشير الانحياز التأكيدي إلى السعي نحو البحث عن دلائل تدعم فرضيتك أو تفسير البيانات الغامضة بطريقة تحقق النتيجة نفسها وتؤكد ما تؤمن به. بالنسبة للقرارات التجارية، يتجلى هذا التحيز في عبارات مثل: "أشعر بأن الاستثمار في هذا المشروع سيؤدي إلى خلق قيمة، لذلك، دعونا نبحث عن بعض الحقائق التي تدعم حدسنا". تعتمد القاعدة الأساسية العالمية للنهج العلمي في التعامل مع الفرضيات على مبدأ معاكس تماماً؛ إذ يجب البحث عن دلائل تدحض الفرضية.
يشير التفاؤل المفرط إلى توقع نجاح المشروع دون عراقيل، على الرغم من أن التجارب والمشاريع السابقة تظهر أن مثل هذه النتائج المثالية نادرة الحدوث. ومن الأمثلة التقليدية على ذلك بناء دار الأوبرا الشهيرة في مدينة سيدني، إذ كانت التقديرات الزمنية والمالية شديدة التفاؤل، وتأخر إنجاز المشروع 10 سنوات عن الموعد المحدد وتضاعفت تكلفته لتصل إلى 14 ضعف الميزانية المقدّرة في البداية.
يمكن أن تسهم بعض الأساليب المستخدمة للتغلب على التفكير الجماعي، مثل تشكيل فريقين متضادين بوجهات نظر متعارضة، في معالجة هذا النوع من التحيّزات أيضاً. تتمثل أبسط طريقة لتجنب الانحياز التأكيدي والتفاؤل المفرط في عدم وضع الفرضيات في وقت مبكر جداً من العملية والبحث بطريقة فعالة عن دلائل تناقضها. وهناك أيضاً طريقتان إضافيتان قد تساعدان على تصحيح هذه التحيزات:
- نفّذ "استراتيجية ما قبل الفشل" (Premortem)، وهي تمرين يتخيل فيه أعضاء فريق المشروع بعد اطلاعهم على الخطة المقترحة أن هذه الخطة قد فشلت بالفعل. تساعد هيكلية هذا التمرين وطبيعته على إنشاء بيئة آمنة لتحديد المشكلات التي قد تؤدي إلى الفشل.
- احرص على تقييم المشروع وتحليله من منظور خارجي. أنشئ رؤية إحصائية للمشروع بالاعتماد على مشاريع مماثلة سبق تنفيذها. على سبيل المثال، كُلّف فريق في إحدى شركات الأسهم الخاصة بإنشاء توقعات لاستثمار جارٍ بدءاً من أصغر التفاصيل، عبر تحليل مساره من البداية حتى النهاية، مع تحديد الخطوات والإجراءات والمراحل الرئيسية المطلوبة لتحقيق الأهداف المقترحة. ثم طُلب من الفريق مقارنة هذا الاستثمار الجاري بفئات الاستثمارات المماثلة، مع مراعاة عوامل مثل الجودة النسبية للاستثمار ومتوسط العائد في تلك الفئة الاستثمارية. باستخدام هذا التقييم من منظور خارجي، لاحظ الفريق أن متوسط معدل العائد المتوقع يعادل أكثر من ضعفي العائد الذي حققته استثمارات مماثلة.
3. الجمود (Inertia) أو الانحياز للاستقرار (Stability Bias)
هو الرغبة الطبيعية لدى المؤسسات في مقاومة التغيير. أظهرت دراسة أن مخصصات الإنفاق بين الأقسام المختلفة في الشركات التي شملتها الدراسة كانت متشابهة بمعدل يزيد على 90% من عام إلى آخر. بعبارة أخرى، لم تتغير مخصصات الإنفاق بين أقسام الشركة تقريباً. وأظهرت الدراسة نفسها أن الشركات المصنفة ضمن الثلث الأعلى من العينة التي شملتها الدراسة أعادت تخصيص المزيد من الموارد،، وحققت عوائد إجمالية للمساهمين أعلى بنسبة 30% سنوياً مقارنة بالشركات المصنفة ضمن الثلث الأدنى من العينة.
يكمن حل مشكلة تحيز الجمود في أمر بسيط نسبياً، وهو ترتيب المبادرات على مستوى المؤسسة بأكملها بحسب قدرتها على خلق القيمة. بالإضافة إلى ذلك، تأكّد من أن إعداد الميزانية الجديدة يستند إلى الخطة الاستراتيجية الحالية، وليس إلى ميزانية العام الماضي. تتمثل الفكرة الأساسية في تجاهل أثر التخصيصات أو الميزانيات السابقة قدر الإمكان. من الناحية العملية، قد لا تتمكن من إعادة تخصيص الموارد بالسرعة أو بالقدر المطلوب، ولكنّ محاولة تجاهل الماضي تمثل خطوة أولى فعالة تساعدك على تقليل الجمود.
4. تجنب الخسارة ( Loss Aversion)
تشير الأبحاث إلى أن معظم المسؤولين التنفيذيين يحرصون على تجنب الخسارة، بالإضافة إلى أنهم غير مستعدين لتنفيذ مشاريع محفوفة بالمخاطر حتى لو كانت قيمتها الحالية المقدّرة مرتفعة. ويتمثل الحل الأساسي للتغلب على نزعة تجنب الخسارة في تقييم قرارات الاستثمار بناءً على نسبة المخاطر التي يضيفها المشروع إلى إجمالي المخاطر الكلية التي تواجه المؤسسة وليس بناءً على المخاطر الفردية التي ينطوي عليها كل مشروع على حدة.
على الرغم من أن هذا الأمر قد يبدو سهلاً من الناحية النظرية، فالمسؤول التنفيذي يهتم عادة بالمخاطر المرتبطة بمشاريعه وآثارها السلبية المحتملة في مسيرته المهنية. لذلك، يجب إحالة هذه القرارات إلى مسؤول تنفيذي يشرف على مجموعة أوسع من المشاريع، بحيث يتمكن الموازنة بينها وتعويض مخاطر بعضها بمكاسب البعض الآخر. في كثير من الأحيان، يجب تصعيد هذه القرارات إلى الرئيس التنفيذي.
لتحقيق أقصى قدر من الفائدة والفعالية، يجب على الشركات أيضاً تشجيع المدراء في المستويات المتوسطة والموظفين الآخرين على اقتراح الأفكار التي تنطوي على بعض المخاطر. ويمكن للشركات تحقيق ذلك من خلال إزالة المخاطر التي قد يتعرض لها الموظف؛ إذ يمتنع العديد من الموظفين عن طرح أفكارهم خشية أن تتأثر مساراهم المهنية إذا فشلت أفكارهم التي يطرحونها لمشروع ما. وللتغلب على هذه المخاوف، من المهم الاتفاق مسبقاً مع القيادة العليا على المخاطر المقبولة وإجراء تحليلات شاملة بعد انتهاء المشاريع لتحديد أسباب الفشل. عندما يفشل مشروع ما لأن قرار المضي فيه كان غير صائب (وهو أمر قد يحدث في كثير من الأحيان)، فيجب عدم إلقاء اللوم على المدير المسؤول عن المشروع وتحميله تبعات هذا الفشل؛ إذ يجب أن تقتصر مسؤولية المدير على ضمان جودة تنفيذ المشروع.
يعبّر، مؤسس شركة أمازون، جيف بيزوس، عن ذلك قائلاً: "أشير دائماً إلى أن هناك نوعين مختلفين من الفشل. النوع الأول هو الفشل التجريبي (Experimental Failure)، وهو الفشل الذي يجب أن نرضى به ونتقبله، أما النوع الثاني، فهو الفشل التشغيلي (Operational Failure). لقد أنشأنا مئات المراكز لتلبية الطلبات في شركة أمازون على مر السنوات. وإذا بنينا مركزاً جديداً وفشل في أدائه، فهذا يعني أن التنفيذ كان سيئاً. وهذا النوع من الفشل غير مقبول وغير مفيد. ولكن عندما نطور منتجاً أو خدمة جديدة أو نجرب شيئاً ما ولا ننجح، فهذا أمر طبيعي، وهو فشل إيجابي".
يمكن أن تعوق التحيّزات في صناعة القرارات تحويل الأفكار الجيدة إلى إجراءات تسهم في خلق قيمة حقيقية. على الرغم من أن القائمة التي تتضمن أفضل الممارسات لصناعة القرار طويلة وقد تكون معقدة، فمن الممكن أن يبدأ المسؤولون التنفيذيون بتحديد 4 أنواع أساسية من التحيّزات التي تؤثر سلباً في قراراتهم واتخاذ خطوات مجربة وفعالة لمعالجتها. مع مرور الوقت، يمكن أن تؤدي التحسينات الإضافية إلى مساعدة أي شركة على تحقيق الهدف المتمثل في الإدارة الاستراتيجية على المدى الطويل.