قدّم الطبيب النفسي الأميركي إدوارد هالويل (Edward Hallowell) في عام 2005، مفهوماً جديداً يسمى "سمة نقص الانتباه" (Attention Deficit Trait) أو اختصاراً (ADT) في مقالته المنشورة في مجلة هارفارد بزنس ريفيو بعنوان "دوائر الحِمل المفرط: لماذا يحقق الأذكياء أداءً دون المتوقع" (Overloaded Circuits: Why Smart People Underperform). ووفقاً لهالويل، يُعد هذا الاضطراب العصبي ظاهرة متصلة بالعمل الحديث، تشترك في بعض السمات مع "اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط" (ADHD)، مثل التشتت السريع، والانفعال، وانخفاض الكفاءة. ويفسر ظهور هذه السمة نتيجة للضغوط المستمرة التي يتعرض لها الأفراد في بيئات العمل المعاصرة.
تناول هالويل في أطروحته تأثير تعدد المهام (Multitasking) وتدفق المعلومات المفرط على تراجع القدرات العقلية لدى البشر، إذ أشار إلى أنّ هذين العاملين يقللان من الإبداع، ويضعفان التركيز، ويؤثران على عملية اتخاذ القرارات. وبعد مرور ما يقرب من 20 عاماً، أصبحت هذه التحديات أكثر إلحاحاً في ظل التحول الرقمي السريع الذي يشهده عصرنا، والمدفوع بالذكاء الاصطناعي. وفي ضوء وصف المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) للوقت الحالي بأنه "عصر الذكاء الاصطناعي"، يمكن القول إن التطور التكنولوجي المتسارع يزيد من تعقيد التحديات التي استعرضها هالويل. ومع ذلك، فإنه يتيح أيضاً فرصاً لاستكشاف رؤى جديدة ومبتكرة تتماشى مع التغيرات السريعة التي نعيشها.
يُبنى هذا المقال على الأسس التي وضعها هالويل، مضيفاً إليها أحدث التطورات العلمية في مجال علم الأعصاب، بجانب رؤى مستوحاة من ثقافات متنوعة. ويهدف إلى تقديم حلول مبتكرة للتعامل مع تحديات الحِمل الإدراكي الزائد ونقص الانتباه في بيئات العمل المتغيرة باستمرار. ويعتمد النهج على تحليل شامل للعلاقة بين وظائف الدماغ، والمرونة العاطفية، وتأثير بيئات العمل الديناميكية. ومن خلال استعراض الأبحاث العلمية الحديثة، يطرح المقال استراتيجيات متقدمة ومصممة خصوصاً لتلبية متطلبات بيئات العمل الحالية، بما يسهم في تعزيز الإنتاجية والإبداع.
أثر الحِمل الإدراكي الزائد على الدماغ
تكلفة التنقل بين المهام
لا يؤثر الحِمل الإدراكي الزائد في القدرة على التركيز فحسب، بل يسهم أيضاً في الإصابة بالإرهاق الذهني، إذ يجد الدماغ صعوبة في التعامل مع "تكاليف التبديل" العصبية الناتجة عن البيئات ذات المحفزات العالية. تعبّر هذه التكاليف عن المجهود الذي يبذله الدماغ للانتقال بين المهام المتعددة، سواءً كانت تفقد رسائل البريد الإلكتروني، أو حضور الاجتماعات، أو متابعة إشعارات وسائل التواصل الاجتماعي. كل انتقال بين مهمة وأخرى يلقي عبئاً إضافياً على قشرة الفص الجبهي (Prefrontal Cortex)، وهو الجزء المسؤول عن وظائف تنفيذية أساسية مثل الانتباه، والتخطيط، والسيطرة على الانفعالات. نتيجة لذلك، يؤدي التنقل المستمر بين المهام إلى استنزاف الطاقة الذهنية وزيادة الإرهاق، ما يقلل من الإنتاجية والكفاءة على المدى البعيد.
العلاقة بين التوتر والاستنزاف الإدراكي
يسهم الحِمل الإدراكي الزائد في إثارة استجابة الجسم للتوتر، إذ تحفز المثيرات المتواصلة الجهاز العصبي الودّي (Sympathetic Nervous System)، المعروف بـ "استجابة الكرّ أو الفرّ". يُنتج هذا التنشيط شعوراً دائماً بالتوتر والشد العصبي، ما يؤثر سلباً على الصحة الجسدية والنفسية مع مرور الوقت، ويعزز حالةً من الإجهاد المزمن التي تُضعف الأداء الوظيفي وقدرة الفرد على التركيز والإبداع.
يترتب على ذلك عواقب عدة، يأتي في مقدمتها الآتي:
- تراجع القدرة على التركيز والاستذكار.
- اختلال التوازن العاطفي وزيادة حالات الانفعال.
- انخفاض الدافعية وضعف القدرة على اتخاذ القرار.
أشار الباحث في جامعة ستانفورد، أندرو هوبيرمان (Andrew Huberman)، إلى أن التوتر المزمن يمكن أن يُحدث تحولاً في النشاط الدماغي؛ إذ ينتقل من قشرة الفص الجبهي، المسؤولة عن التفكير العقلاني والتخطيط، إلى اللوزة الدماغية، التي تركز على الاستجابات العاطفية. ينتج عن هذا التحول زيادة في القرارات الاندفاعية، وارتفاع مستويات الإرهاق، وتراجع ملحوظ في المرونة الإدراكية، ما يضاعف التحديات التي يواجهها الأفراد في التعامل مع البيئات المعاصرة المليئة بالمحفزات.
التعريف بمتلازمة الاستنزاف الإدراكي
انطلاقاً من أعمال هالويل، يمكن القول إن مصطلح "متلازمة الاستنزاف الإدراكي" (Cognitive Depletion Syndrome) أو اختصاراً (CDS)، يعبّر بوضوح عن التحديات المتزايدة للإرهاق الذهني الذي يواجهه الأفراد في العصر الرقمي. تُبرز هذه المتلازمة التأثيرات التراكمية لتعدد المهام، والمشتتات الرقمية، وكمية المعلومات الضخمة التي يتعرض لها الإنسان يومياً.
يقدم هذا المفهوم إطاراً أشمل من مجرد قصور الانتباه، ليشمل الاستنزاف التدريجي للموارد الإدراكية، ما يؤدي إلى خلل في الوظائف التنفيذية مثل التركيز، واتخاذ القرارات، والتخطيط. ونتيجة لذلك، تتراجع الإنتاجية بمرور الوقت، ما يُبرز الحاجة إلى استراتيجيات حديثة لإدارة هذه التحديات في بيئات العمل المستقبلية.
الذكاء الاصطناعي والرفاه الإدراكي
ترتكز رؤية الإمارات العربية المتحدة لحكومة المستقبل على حوكمة قائمة على الذكاء الاصطناعي، ما يعزز الكفاءة التشغيلية، ويحد من الحِمل الإدراكي الزائد. ومن خلال مبادرات مثل الجيل الثالث من منظومة خدمات أبوظبي الحكومية "تم 3.0" واستراتيجية حكومة أبوظبي الرقمية 2025-2027، سيوظَّف الذكاء الاصطناعي لتحسين الخدمات العامة وتبسيط الإجراءات الحكومية، وتقديم معاملات سلسة خالية من التعقيدات.
يُبرز المقال أهمية معالجة الحِمل الإدراكي الزائد من خلال تبنّي الأتمتة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، خصوصاً في مجالات الحوكمة. فبالإضافة إلى تسريع التحول الرقمي في الإمارات العربية المتحدة، يسهم هذا النهج في خلق بيئة عمل أقل ضغطاً على المستوى الذهني. فمن خلال تفويض المهام الروتينية المتكررة إلى أدوات الذكاء الاصطناعي، يتمكن موظفو القطاع الحكومي من التركيز على اتخاذ قرارات استراتيجية ذات أثر ملموس، ما يعزز الإنتاجية ويسهم في تحسين المرونة الذهنية. هذا التحول نحو "الحوكمة القائمة على الذكاء الاصطناعي" يُعد نقلة نوعية، ليس فقط لمواجهة التحديات المرتبطة بالتقدم التكنولوجي، بل أيضاً لتحقيق توازن بين التطور الرقمي وصحة الأفراد الإدراكية والعاطفية على حد سواء.
استراتيجيات عملية للتعامل مع متلازمة الاستنزاف الإدراكي
- العمل المتعمق وجلسات التركيز المنتظمة
- خصِّص فترات زمنية متصلة (90-120 دقيقة) للمهام التي تحتاج إلى تركيز، ما يعزز الانتباه ويرفع مستوى الكفاءة.
- خصِّص فترات زمنية منتظمة للتركيز على مهام بعينها، ما يساعد على خفض درجة الشعور بالإرهاق وتحسين الإنتاجية الرقمية.
- تنظيم التوتر وتعزيز المرونة العاطفية
- مارِس اليقظة الذهنية الكاملة (Mindfulness)، والتأمل، وتمارين التنفس العميق لتنشيط الجهاز العصبي اللاودّي (المسؤول عن تنظيم الراحة والهضم)، ما يحد من حالة الشعور بالتوتر.
- يشير تقرير كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، بعنوان "قياس تأثير مبادرات رفاهية بيئة العمل في دولة الإمارات العربية المتحدة " الصادر عام 2024، إلى أهمية البرامج الشاملة للحد من التوتر وتعزيز المرونة العاطفية.
- التخلص من السموم الرقمية ووضع قيود على استخدام الأجهزة التكنولوجية
- في حين يلتزم البعض بسياسة "عدم استخدام البريد الإلكتروني" بعد ساعات العمل، يمكن كذلك التشجيع على أخذ فترات راحة رقمية منتظمة خلال يوم العمل، أو تخصيص أيام أسبوعية خالية تماماً من التكنولوجيا.
- تساعد هذه الخطوات على تقليل الإرهاق الإدراكي، ما يتيح للموظفين فرصة لاستعادة طاقتهم، وتعزيز قدرتهم على التركيز، وبالتالي تحسين مستوى إنتاجيتهم عند استئناف مهامهم.
- تحسين جودة النوم واستعادة التوازن الذهني
- أعطِ الأولوية للحصول على قسط من النوم العالي الجودة، لدعم الوظائف الإدراكية والحد من الإرهاق العاطفي.
- خلص العديد من الأبحاث إلى أن تقليل زمن التعرض لشاشات الأجهزة الإلكترونية قبل النوم يسهم في تعزيز مستوى الانتباه وتحسين القدرة على صنع القرار.
- النشاط البدني ورفاهة بيئة العمل
- اجعل التمارين الرياضية المنتظمة جزءاً من روتينك اليومي، فهي تسهم في تعزيز وظائف الدماغ، وتحسين القدرة على التركيز، وتقليل مستويات هرمونات التوتر بفعالية. كشفت دراسة أجرتها جامعة ميشيغان الأميركية أن الموظفين الذين يواظبون على ممارسة التمارين الرياضية بانتظام يعانون إرهاقاً عاطفياً أقل، ويتمتعون بمستويات أعلى من الرضا الوظيفي مقارنة بزملائهم الذين لا يمارسونها بانتظام.
تقييم ذاتي: هل تعاني متلازمة الاستنزاف الإدراكي؟
اختبر نفسك من خلال هذا التقييم الذاتي لقياس مستوى الحِمل الإدراكي والإجهاد الذهني لديك:
مقياس التقييم
0 (مطلقاً): لا أواجه هذا الأمر على الإطلاق.
1 (نادراً): أواجه هذا الأمر نادراً.
2 (أحياناً): يحدث من حين لآخر، لكن يمكن إدارته.
3 (كثيراً): يحدث باستمرار ويؤثر على عملي.
4 (دائماً): مشكلة مستمرة تؤثر بدرجة كبيرة على أدائي.
- القدرة على الانتباه وإدارة المهام
- هل تواجه صعوبة في التركيز لفترات طويلة؟
- هل تُبدل بين المهام المتعددة بصورة متكررة، ما يؤدي إلى عدم الكفاءة؟
- التوتر والمرونة العاطفية
- هل تشعر بالإجهاد الذهني بعد جلسات عمل طويلة؟
- هل تعاني تقلبات مزاجية أو عصبية بسبب كثرة أعباء العمل الزائدة؟
- النوم والتعافي
- هل تعاني اضطرابات النوم، التي تؤثر سلباً على أدائك الإدراكي؟
- الحِمل الرقمي الزائد
- هل تشعر بالإرهاق بسبب كثرة إشعارات الأجهزة الإلكترونية، ورسائل البريد الإلكتروني، والاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي؟
دليل التقييم:
🟢 0-6: حِمل إدراكي منخفض – لا حاجة إلى اتخاذ إجراء فوري.
🟡 7-12: حِمل إدراكي معتدل – طبِّق أساليب الحد من التوتر.
🟠 13-18: حِمل إدراكي مرتفع – فكر في تعديل عادات عملك.
🔴 19+: حِمل إدراكي حرج – يُنصح باتباع مبادرات تطويرية عاجلة.
تعزيز الرفاهة الإدراكية لمواكبة المستقبل
تُعد متلازمة الاستنزاف الإدراكي تحدياً متزايداً في ظل تسارع التحول الرقمي. ومع ذلك، يمكن للأفراد والمؤسسات تحسين الأداء الإدراكي والرفاهة العامة من خلال اعتماد جلسات تركيز منتظمة، واستخدام استراتيجيات فعّالة لإدارة التوتر، وتعزيز التواصل المدروس.
وفي سياق ريادة الإمارات العربية المتحدة في مجال التحول الرقمي واهتمامها برفاهة بيئة العمل، تبرز فرصة مميزة لتأسيس معايير عالمية تهدف إلى الحد من الإرهاق الرقمي، وتعزيز ثقافة أداء متميزة تفوق التوقعات. وبالاستناد إلى الرؤى العلمية ونتائج الأبحاث المتخصصة، والمبادرات العملية الملائمة، يمكن إعادة تعريف مفهوم الإنتاجية وضمان تحقيق المرونة الإدراكية في عالمنا الرقمي السريع التطور.