إذا كنت تشعر بالانفصال الذهني عن عملك، فلست وحدك مَن يعاني هذه المشكلة؛ إذ تعكس الأرقام واقعاً مقلقاً، وهو أن أكثر من نصف العاملين في الولايات المتحدة يشعرون بالفتور تجاه عملهم، ما يسبب أضراراً جسيمة لكلٍّ من مؤسساتهم ومساراتهم المهنية ورفاهتهم.
وعلى الرغم من اختلاف أسباب الفتور، تبدو ردود الفعل تجاه هذه الظاهرة متشابهة بصورة لافتة، وتتلخص في الانطواء على النفس. وثّقَ هذه الاستجابة عالم النفس التنظيمي، ويليام خان، في أبحاثه الرائدة حول اندماج الموظف في بيئة العمل، وهي تمثّل سلوكاً شائعاً لكنه غير بنّاء لأنه يتعارض مع الاحتياجات الأساسية لعقل الإنسان، ما يؤثر على صحته النفسية ودافعيته ومستويات توتره وسرعة استجابته، ووظائفه الإدراكية أيضاً. الأسوأ من ذلك أن الانطواء على النفس ظاهرة تعزز نفسها لتشكل حلقة مفرغة يصعب كسرها.
وبمقدور التفاعلات البنّاءة، مهما كانت قصيرة، أن توقف دوامة الانطواء على النفس وتذكي شعلة الحماس تجاه العمل. لا يكمن سر نجاح هذا الحل في زيادة عدد الاجتماعات، بل في تعزيز جودة التفاعلات، لا زيادة كميتها؛ فقد أثبتت أبحاث روبرت كوين وغريتشن سبريتزر قدرة التفاعلات الاجتماعية القصيرة على تعزيز الحماس في مكان العمل بدرجة كبيرة، كما ثبت أن التعاون الإبداعي يزيد التقارب الاجتماعي.
وإذا كنت تسعى لاستعادة حماسك تجاه العمل هذا العام، فيمكنك تكوين روابط بنّاءة على مدار اليوم من خلال الخطوات الخمس البسيطة التالية المستمدة من خبرتنا المشتركة التي تتجاوز 40 عاماً في تقديم الخدمات التدريبية والاستشارية لقادة الأعمال والمهنيين العاملين في المؤسسات والشركات الكبرى.
1. بادر بإطلاق مشروع تعاوني أو الانضمام إليه
لاحظت إحدى عميلات ميليسا، وتُدعى سارة* وتشغل منصب مديرة أولى للعمليات التشغيلية، وهي معروفة بأسلوبها القيادي الملهم، أنها بدأت تنعزل عن فريقها؛ إذ قل الوقت الذي تمضيه في التعاون معهم وازدادت فترة مكوثها في مكتبها وبابه المغلق. شعرت بأنها عالقة في دوامة من الإنهاك والرغبة في الانعزال، ما زاد من شعورها بالانفصال عن فريقها.
بدلاً من إهمال هذا الفتور وتركه يتفاقم، اغتنمت سارة فرصة العام الجديد لاستعادة التوازن وأعادت تنظيم أيام عملها على نحو مدروس بحيث تعطي الأولوية للتعاون؛ فخصّصت جلسات مشتركة بين مختلف أقسام الشركة لحل المشكلات، ودعت أعضاء فريقها إلى المشاركة في تحمل مسؤولية المشروعات الرئيسية. أدّت هذه الخطوات البسيطة والمدروسة نحو تعزيز ارتباطها بالعمل إلى إذكاء شعلة حماسها للعمل بسرعة، كما لاحظت تغيراً إيجابياً في فريقها أيضاً.
يمكنك محاكاة هذا النهج من خلال:
- اقتراح مشروع جانبي يتطلب مشاركة عدة أقسام (يمكن أن يكون مشروعاً بسيطاً مثل إنشاء مستند مشترك يسهم فيه الموظفون بأفكارهم المفضلة لأنشطة بناء الفريق خارج مقر العمل).
- طلب الانضمام إلى مبادرات الفريق الحالية، مثل التطوع لاختبار آلية عمل أو أداة جديدة طوّرها فريق آخر.
- تنظيم مجموعات عمل غير رسمية لمناقشة التحديات المشتركة التي تواجه المؤسسة.
2. نظّم جلسة عصف ذهني مصغَّرة
يعمل آدم مديراً لتطوير المنتجات في شركة تجزئة عالمية، وهو أحد العملاء الجدد في برامج ميليسا للتدريب. اعتاد آدم النجاح والازدهار في البيئات التي تشجّع على التعاون بين الفرق وتبادل الأفكار، لكن مع ازدياد عدد المنتجات التي يديرها وبالتالي ازدياد مسؤولياته، وجد نفسه يعمل على دفع عملية صنع القرارات والمضي بها قدماً بمعزل عن الآخرين، ما أدى إلى تفاقم شعوره بالعزلة والفتور.
بعد جلسة عصف ذهني عفوية مع اثنين من نظرائه حول فكرة منتج مبتكرة، ازداد حماسه وحيويته، فقرر الالتزام بزيادة هذه التفاعلات خلال أسبوع العمل.
وكان العام الجديد فرصة مثالية لتجربة هذا الإجراء البسيط؛ لأن الزملاء يعودون إلى العمل منتعشين ومستعدين للتفاعل، وإليك بعض الأفكار لبدء جلسة عصف ذهني مصغَّرة:
- تنظيم جلسة لحل المشكلات مدتها 15 دقيقة مع نظير موثوق.
- تنظيم دردشة افتراضية غير رسمية لتبادل الأفكار.
- دعوة زملاء من مختلف الأقسام إلى اجتماع سريع لتوليد الأفكار.
- تجربة أدوات التعاون الرقمي، مثل ميرو (Miro) أو ميورال (Mural) أو زووم وايتبورد (Zoom Whiteboard)، لتسجيل الأفكار آنياً وتعزيز التعاون المستمر دون الحاجة إلى اجتماعات مقررة مسبقاً.
3. التمس آراء نظرائك
كانت إحدى عميلات ريبيكا، وتُدعى مايا، تدير استوديو صغيراً متخصصاً في تقديم خدمات التصميم الإبداعي. كان الاستوديو يشهد نمواً ملحوظاً، لكن مايا شعرت بالعزلة والجمود بعد أعوام من العمل بمفردها؛ لذلك قررت التواصل مع مالك استوديو آخر لمناقشة استراتيجيات التسعير. منحتها هذه التفاعلات القصيرة منظوراً جديداً حول توسيع نطاق عمل الاستوديو دون المساس بالجودة، كما أعادت إليها إحساسها بالشراكة الإبداعية وأذكت شعلة حماسها لعملها من جديد.
في بعض الأحيان، يقدّم الأشخاص غير المقربين منك رؤى ثاقبة قد يغفل عنها الأشخاص المرتبطون ببيئة العمل ارتباطاً مباشراً. وإذا كنت لا تطلب عادةً آراء الآخرين إلا عند الضرورة، فهذا يعني أنك تخسر أداة قوية تعزز كلاً من الترابط والنمو.
يمكنك التماس آراء النظراء من خلال:
- مطالبة أحد زملاء العمل بإلقاء نظرة سريعة على مسودة رسالتك الإلكترونية الموجهة إلى أحد العملاء قبل إرسالها.
- دعوة شخص تحب أسلوبه في الإلقاء لمشاهدة تدريباتك على الاجتماع المقبل.
- مشاركة الجدول الزمني لمشروعك مع نظير يجيد توقُّع المشكلات المحتملة.
احرص على التماس آراء حول مشروع يتيح لك مجالاً للتعديل والتطوير. اعثر على زميل يمكنه تقديم رؤى جديدة، وصُغ الطلب على أنه فرصة للتعلم المتبادل من خلال جلسات لتقديم الملاحظات الموجزة والمركَّزة. سيُسهم ذلك في تحسين جودة عملك، فضلاً عن تغيير منظورك تجاه المهمة المطروحة.
4. افصل نفسك عن العمل قليلاً بالابتعاد عن مكتبك
تشغل إحدى عميلات ميليسا، وتُدعى جنى، منصب مديرة أولى بإحدى شركات التكنولوجيا، ومع تزايد أعباء العمل واقتراب المواعيد النهائية، وجدت نفسها تتناول الغداء بمفردها على مكتبها في معظم الأحيان. لقد اعتادت البقاء في مكانها ومواصلة العمل دون توقف؛ ولكن عندما لاحظت شعورها المتزايد بالعزلة وتراجع دافعيتها للعمل، قررت أن تترك مكتبها في أثناء الغداء ودعوة بعض الزملاء لمشاركتها الغداء، ما منحها حافزاً غير متوقع استمر معها طوال اليوم.
قد تبدو فكرة تنظيم غداء مع الزملاء مخيفة لشخص غارق في دوامة الانطواء على النفس، لكنها قد تكون وسيلة لطيفة ومُنعشة لاستعادة الشعور بالانتماء مجدداً، كما أن تولي مسؤولية تنظيم مثل هذه الفعالية يتيح لك ضبط أجواء اللقاء واختيار الحضور وفقاً لتفضيلاتك، ما يقلل من أي شعور بعدم الارتياح قد يصاحب عملية التعارف.
توصّلت الدراسات في واقع الأمر إلى أن التفاعلات غير الرسمية، مثل تناول الوجبات المشتركة، تخلق فرصاً فريدة لبناء العلاقات لا تستطيع الاجتماعات الرسمية توفيرها. إضافةً إلى ذلك، تساعد التفاعلات الاجتماعية في العمل على التخفيف من الشعور بالكآبة الموسمية، خاصة عند مغيب الشمس قبل أن نغادر العمل.
للتخلُّص من عادة التقيُّد بمكتبك، جرّب ما يلي:
- تحديد موعد غداء غير رسمي مع الزملاء، سواء داخل المكتب أو خارجه، دون جدول أعمال محدد.يمكنك إرسال رسالة غير رسمية إلى زميلين أو ثلاثة في البداية، تقول فيها شيئاً مثل: "أحاول التخلص من عادة تناول الغداء على مكتبي، ورأيت أنه يجدر بي تناول الغداء مع بعض الزملاء يوم الثلاثاء المقبل؛ فهل تودّ الانضمام إلينا؟ لن يكون هناك جدول أعمال، بل سنغتنم هذه الفرصة للدردشة وأخذ استراحة غداء حقيقية. لا تتردد في دعوة زميل آخر إن أردت!".
- تخصيص وقت دوري لتناول القهوة مع زملاء مختلفين.
- التجول مشياً على الأقدام مع أحد الزملاء لمناقشة تحدٍّ قائم.
حفّز نفسك على أخذ استراحة من روتين العمل مرة واحدة على الأقل في الأسبوع؛ فحتى فترات الاستراحة الاجتماعية القصيرة تؤثر إيجاباً على طاقتك الذهنية والعاطفية.
5. ابحث عن مجتمع مهني تنتمي إليه
إذا كنت صاحب مشروع صغير أو رائد أعمال وتعمل بمفردك دون التعاون مع فريق، ففكر في الانضمام إلى مجموعة للتعارف المهني أو مجتمع يهتم بأصحاب المشروعات الصغيرة.
انضم أحد عملاء ريبيكا، يوسف، وهو مستشار مستقل، إلى مجتمع من المستشارين المستقلين بعد أن لاحظ أنه يقضي أحياناً يوماً كاملاً دون التفاعل مع أي شخص. منحه الانتماء إلى شبكة أكبر من أصحاب الأعمال الذين يواجهون تحديات مماثلة فرصة ثمينة لمشاركة الأفكار ومشكلات العملاء، بالإضافة إلى مكان للاحتفاء بالنجاحات؛ ولكن المفاجأة الكبرى بالنسبة ليوسف كانت أنه بدأ التعاون مع مستشارين آخرين في مشاريع العملاء، ما أعاد إليه مشاعر الألفة بين الزملاء التي افتقدها منذ أن بدأ العمل منفرداً.
يمكنك إنشاء شبكة دعم تساعدك في التغلب على عزلة العمل المستقل وتتيح لك فرصاً جديدة للنمو والتعاون من خلال:
- الانضمام إلى مجموعة تعارف أو مجتمع أعمال.
- حضور الفعاليات أو المؤتمرات ذات الصلة بالمجال.
- المشاركة في المجتمعات والمنتديات الإلكترونية التي تضم آخرين يعملون في المجال نفسه.
بعد تجربة الأساليب المذكورة أعلاه، تمهّل قليلاً لتقييم مدى نجاحها. ما هي الأنشطة التي منحتك أكبر قدر من الحافز أو المتعة؟ وما هي الدروس الشخصية التي استخلصتها في أثناء خوض هذه التجربة؟ سيساعدك ذلك على التوصُّل إلى طرق لدمج الأنشطة الأكثر جذباً في روتينك المعتاد على مدار العام.
يمثل استقبال عام جديد فرصة ثمينة لاستعادة الحماس تجاه العمل بعد فترة من الانفصال الذهني عنه. وبمقدور الأعمال التعاونية البسيطة البنّاءة مساعدتك على تقليل الشعور بالعزلة وكسر دائرة الانطواء على النفس واستعادة الشعور بالحيوية والقدرة على الإبداع والإحساس بالغاية. في المرة المقبلة حينما تلاحظ الرغبة في الانطواء على النفس، تذكّر أن هذا السلوك يمثل ظاهرة تعزز نفسها فتزيد الشعور بالعزلة؛ لذلك احرص على اتباع أنشطة تعزز ترابطك مع الآخرين.