تناولت مع زميلي طعام الفطور في مطعم محلي، وتأمّلنا معاً مدى غرابة شعور الاجتماع بالناس وجهاً لوجه بعد جائحة كوفيد. وناقشنا مشاعر الإحراج بشأن بعض التفاعلات، مثل الاختيار بين المصافحة أو التحية بتلامس القبضتين، أو الجلوس داخل المقهى أو خارجه، وكيفية التصرف حين يسعل شخص أمامنا ونرغب في الابتعاد عنه خشية العدوى.
ثم انتقلنا إلى موضوع التعارف، وقال لي: "واجهت أعمالي في مجال الاستشارات تحديات كبيرة خلال الجائحة، ولم تنتعش حتى الآن. قد أحتاج إلى عمل يوماً ما، وقد أضطر في تلك الحالة إلى بدء عملية التعارف من الصفر".
فقلت له بتعاطف: "أتفهّم شعورك تماماً".
ثم سألني: "ماذا عنكِ؟ هل تعتزمين بناء شبكة علاقات جديدة بعد أن أصبح الخروج من المنزل آمناً؟"
فأجبته: "في الواقع، أنا لم أتوقف عن بناء علاقات جديدة".
فصمت للحظات، وبدت عليه علامات الارتباك، ثم طرح عليّ سؤالاً فاجأني: "إذا كان لديك الكثير من العملاء، ولا تبحثين عن وظيفة جديدة، فما هو سبب الاستمرار في بناء شبكة علاقاتك؟".
استغرقتُ بضع لحظات للتفكير في استفساره؛ يمكنني بالطبع احتساء القهوة وتناول المعجنات في المنزل، وبالتالي لم يكن تناول الطعام مبرراً للقائي الآخرين، ولم أكن أحاول ملء يومي حتى لا أشعر بالملل أو الوحدة، ولم أكن أبحث عن وظيفة جديدة بالطبع. فلماذا كنت أشارك بنشاط في فعاليات بناء العلاقات دون توقف؟
وأدركت بعد التفكير في الأمر، وجود 3 أسباب تدفعني إلى بناء العلاقات تتجاوز مجرد البحث عن عميل جديد:
- توفر لي شبكة علاقاتي رؤى ثاقبة وتجارب ووجهات نظر تعزز معرفتي وتساعدني على التفكير بطرق جديدة، وهذا ما يجعلني مصدراً قيّماً لزملائي وعملائي.
- تتيح لي شبكة علاقاتي مساعدة الآخرين، قد يفترض الكثيرون أن شبكة العلاقات تعني وجود أشخاص يمكنهم مساعدتنا، ولكننا بحاجة إلى أن نتذكر أن هذه العلاقات متبادلة، وتعتمد على الأخذ والعطاء. وفي الواقع، لدي الكثير من الطاقة والإلهام والعلاقات والموارد والدعم لأقدمه.
- تساعدني شبكة علاقاتي على صقل مهاراتي في التواصل؛ يمنحني امتلاك شبكة علاقات واسعة ومتنوعة فرصة ممارسة المهارات نفسها التي أساعد الآخرين على تطويرها ضمن عملي في مجال التدريب والتوجيه، إذ تتيح لي شبكة علاقاتي التدرب على التواصل في بيئة افتراضية وفهم الوضع العام وحتى التعامل مع المحادثات الصعبة أو طلب مساعدة كبيرة.
يمكنك الاستفادة من قوة شبكتك المهنية بصورة مشابهة لتحقيق مكاسب تتجاوز مجرد الحصول على وظيفة.
1. استفد من شبكتك للتعلّم
تمثّل عملية بناء العلاقات واحدة من أهم قنوات نقل المعرفة في العالم، ونحن نتعلم خلال حياتنا من الأشخاص الذين نعرفهم. وانتشار المعرفة من خلال شبكة العلاقات يشبه انتشار العدوى؛ فالتعلم معدٍ.
يمكننا جميعاً الاستفادة من الحكمة والمعرفة والخبرة التي توفرها شبكة علاقاتنا، وهي عملية يطلق عليها الخبراء اسم الذكاء الشبكي (Network Intelligence).
لا تقتصر مصادر التعلم على الأشخاص الذين نتفاعل معهم بصورة متكررة فقط، بل نتعلم أيضاً من علاقاتنا الخاملة؛ أي من الزملاء والنظراء السابقين والأصدقاء الذين لم نعد على تواصل معهم. وبما أننا لا نتفاعل مع هؤلاء الأشخاص باستمرار، فإن لديهم بالفعل الكثير من المعلومات القيّمة لتقديمها لنا. فهم يعيشون حياتهم وينمون ويتعلمون، مثلنا تماماً. تتيح لنا إعادة التواصل تبادل المعلومات والمعارف والمهارات الجديدة التي تفيدنا.
كيف تبني شبكة علاقات بهدف التعلم؟
- احرص على تنمية شبكة علاقاتك لتوسع معرفتك بمختلف القطاعات ومجالات الخبرة. اسعَ للتواصل مع أشخاص يتمتعون بخبرات أكاديمية متنوعة، وأشخاص من أعراق وقدرات مختلفة عنك، وأشخاص من مناطق جغرافية وثقافات ومجالات وقطاعات متنوعة. سيساعدك هذا في العثور على وظيفتك التالية أو عميلك الجديد، وفي تبنّي عقلية التعلم مدى الحياة.
- فكر في المهارات والخبرات التي تعرفها، ولا سيما التي تجيدها، واعرض خبرتك على الأشخاص الذين قد يرغبون في التعلم منك مقابل أن تحصل على نصائحهم وخبراتهم. ضع في اعتبارك أيضاً المعرفة التي لا تتعلق مباشرة بوظيفتك الحالية. على سبيل المثال، أنا لست وكيلة سفر، لكن معارفي يطلبون مني نصائح للتخطيط لرحلاتهم لأنني أمتلك معرفة واسعة في السفر. وبالمثل، حصلت صديقة في شبكة علاقاتي على شهادة في ممارسات اليقظة الذهنية إلى جانب عملها اليومي، وأتواصل معها بالفعل عندما أحتاج إلى دعم عاطفي.
- جدد التواصل مع المعارف القدامى. أرسل رسالة إلكترونية إلى زميل سابق، أو نظير، أو أستاذ، أو صديق لم تتواصل معه منذ فترة طويلة. ليس من الضروري أن تستخدم أسلوباً معقداً في كتابة الرسالة أو أن تعتذر عن عدم التواصل معه منذ زمن. يمكنك أن تكتب مثلاً: "مرحباً، كنت أفكر فيك وأدركت أنه مرّت فترة طويلة منذ آخر تواصل بيننا. سأكون سعيداً إذا التقينا مجدداً في أي وقت يناسبك. ما هو رأيك؟ إذا قبلت دعوتي بالفعل، فهل تفضّل التحدث عبر الهاتف أو زووم أو أن يكون اللقاء شخصياً لاحتساء القهوة؟" تابع الأمر معه مرة أو مرتين، وإذا لم تتلقَّ أي رد، فحاول مرة أخرى بعد بضعة أشهر.
2. استخدم شبكتك لمساعدة الآخرين
البشر كائنات اجتماعية مجبولة على حب مساعدة الآخرين؛ إذ تمنحنا مساعدة الآخرين شعوراً بالبهجة تولده هرمونات الإندورفينات التي يفرزها دماغنا عند مساعدة الآخرين وتجعلنا نشعر بالراحة، تماماً مثل الرياضي الذي يشعر بالنشوة عند ممارسة الرياضة. تحفز مساعدة الآخرين أيضاً ميولنا تجاه مبدأ المعاملة بالمثل، عندما نساعد شخصاً ما نعزز رغبته في مساعدتنا ورد الجميل.
يشعر معظم الناس أن عملية بناء العلاقات تعني طلب المساعدة، وبالتالي، فإن مشاركة معرفتك أو مهاراتك أو نصائحك أو خبراتك وسيلة لتمييز نفسك وبناء علاقات أعمق مع الأشخاص الذين قد يساعدون في نمو مسيرتك المهنية في المستقبل.
كيف تبني شبكة علاقات بهدف المساعدة؟
- طوّر قدرتك على تقديم المساعدة، وهذا يعني أن تمتلك مجموعة متنوعة من طرق تقديم المساعدة لمعارفك، وألا تجعل هدفك مقتصراً على بناء العلاقات فقط. فكر في المجالات التي تبرع فيها، والمجالات التي تحب أداءها، والمجالات التي يحتاج الآخرون إلى مساعدة فيها عادة. قد يشمل ذلك الاستماع بتعاطف وتقديم خطاب حماسي أو حتى مساعدة شخص ما على الاحتفال بنجاح كبير. يمكنك مساعدة شبكتك على التخلص من شعور الوحدة من خلال التواصل.
- حدد بعض الأنشطة السهلة "التي لا تحتاج إلى مجهود كبير" لمساعدة الأشخاص في شبكتك؛ أي الأنشطة التي تُعتبر سهلة ومُجزية ومُرضية لك، ولا تتطلب كثيراً من الوقت. على سبيل المثال، إذا كنت مدققاً لغوياً جيداً، ولديك القدرة على إنجاز مهامك بسهولة وسرعة، فاعرض مراجعة السيرة الذاتية والخطاب التعريفي الخاص بأحد معارفك الذي يستعد لدخول سوق العمل.
- فكر على المدى الطويل في أهدافك المهنية (من سنة إلى 3 سنوات من الآن)، وحدد في شبكتك الأشخاص القادرين على مساعدتك في المستقبل، واعرض عليهم مساعدة ما، فهذا هو الوقت الأمثل لتقديمها. على سبيل المثال، قد يكون لديك صديق من الجامعة يعمل في قطاع ترغب في استكشافه في المستقبل. جدد التواصل معه وتفقّد أحواله، واسأله إن كان يحتاج إلى مساعدة ما من خلال التواصل مع أحد معارفك المهنيين مثلاً، أو الاستفادة من مهارة تجيدها، أو حتى من خلال مساعدة شخصية مثل التوصية بمحاسب. لن تعرف ما يمكنك تقديمه له حتى تتخذ خطوة فعلية للتواصل. إن تقديم المساعدة ليس مشروطاً بتلقي شيء في المقابل، بل هو استثمار في علاقتك المستقبلية قد يعود عليك بالنفع يوماً.
3. استفد من شبكة علاقاتك لتحسين مهاراتك في التواصل
يكره معظمنا التواصل مع الغرباء، لكنه يمنحنا بالفعل فرصة لممارسة مهاراتنا في المحادثة. يتطلب بناء العلاقات أن نستمع للآخرين ونفهم احتياجاتهم وقيمهم ومشكلاتهم واهتماماتهم وآمالهم، لكننا نواجه صعوبة في ذلك. وفقاً لبحث من جامعة كاليفورنيا، فإن الأشخاص الذين لم يطوروا مهارات الاستماع يفهمون ويتذكرون نحو 50% فقط من أي محادثة، وتنخفض هذه النسبة إلى أقل من 25% بعد 48 ساعة.
ولهذا السبب من المهم للغاية أن تتدرب؛ يتيح لنا التعارف تعزيز المهارات التي تُعيننا على النجاح في مسيرتنا المهنية، وهي حب الاستطلاع والقدرة على الإقناع والثقة بالنفس والحضور التنفيذي، إضافة إلى تعلم كيفية التحدث بطريقة جذابة والحفاظ على انتباه الجمهور.
هذه هي المهارات التي تجعلنا أفضل في حل المشكلات وصناعة القرار والتحدث وتقديم العروض والتواصل، وتعلمنا كيفية طرح أسئلة ذكية ومشاركة أفكارنا دون تجاوز الحدود أو السيطرة على المحادثات.
كيف تبني شبكة علاقاتك بهدف صقل مهارتك في التواصل؟
- حدد واحدة أو اثنتين من مهارات التواصل التي ترغب في تحسينها (مثل الاستماع دون مقاطعة أو وصف أعمالك بإيجاز) وتمرن عليها خلال محادثة التعارف المقبلة. إذا كنت شخصاً جريئاً، فاطلب من شخص تعرفت إليه مؤخراً تقديم ملاحظات لك.
- تحدث إلى شخص في شبكة علاقاتك تعرف أنه يتبنى وجهة نظر سياسية أو اجتماعية أو دينية تختلف عن وجهة نظرك، وتدرب على خوض حوار محترم يتيح تبادل الأفكار، وتحلَّ فيه بالفضول.
- مارس مهارات تقديم خطاب ترويجي من خلال الاقتراح على شخص التقيته مؤخراً أن تعرّفه بصديقة من معارفك الحاليين، اسرد قصة مقنعة عن طريقة تعرفك إليها، ووضّح السبب الذي يجعلك تعتقد أنها ستكون مفيدة له، واحصل على موافقته قبل ترتيب لقائهما. ثم اكتب رسالة إلكترونية واضحة ومختصرة وجذابة لتعريف أحد الشخصين بالآخر.
يجب ألا يكون بناء العلاقات مقتصراً على احتياجاتك الحالية فقط، بل يجب أن يكون الهدف منه التعلم ومساعدة الآخرين وتطوير نفسك في الوقت نفسه. لا تقلل من قيمة نفسك بل استفد من شبكة علاقاتك لأقصى حد ممكن.