اختتمت تايلور سويفت جولة العصور الموسيقية التي حطمت الأرقام القياسية يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 في مدينة فانكوفر بكندا. وتعكس الأرقام بعض جوانب نجاح الجولة؛ فقد تضمنت جولة سويفت أكثر من 150 عرضاً في 5 قارات حول العالم، وحققت إيرادات تجاوزت 2 مليار دولار على أرجح التقديرات، بالإضافة إلى العوائد الاقتصادية التي تجاوزت 10 مليارات دولار في البلدان التي شملتها الجولة، كما أنها تجاوزت جولة إلتون جون "وداعا طريق الطوب الأصفر" (Farewell Yellow Brick Road) التي ضمت 330 عرضاً لتصبح الجولة الأعلى تحقيقاً للإيرادات في التاريخ.
لكن حصر إنجازات سويفت في الإحصاءات فقط يُغفل العمق الحقيقي لتأثيرها؛ فقد أعادت صياغة مفهوم نجاح نجمة البوب من خلال جولة العصور، محققة مستوى من الانتشار الثقافي نادراً ما يصل إليه فنان بعد عقدين من مسيرته الفنية.
على مدار العامين الماضيين، كنت أعمل على كتاب بعنوان "نجاح غير مسبوق: العبقرية الاستراتيجية لتايلور سويفت" (There’s Nothing Like This: The Strategic Genius of Taylor Swift) يتناول أسباب نجاحها في زيادة شعبيتها عدة أضعاف بقطاع يشهد ظهور النجوم واختفاءهم سريعاً مثلما تتغير صيحات الموضة. وكلما حاولت العثور على تفسيرات تجارية لقدرتها اللافتة على مواصلة تحقيق النجاح، ازداد إيماني بأن مسيرتها الفنية تستحق المزيد من الاهتمام والتعمق.
من أبرز الاستنتاجات التي توصلتُ إليها: لطالما كانت سويفت نجمة مشهورة بفضل قدرتها على التواصل مع جمهورها من خلال كلمات أغانيها التي تعكس مشاعر وأحداثاً مستمدَّة من حياتها الشخصية والعلاقات الوثيقة، والعلاقات الاجتماعية غير المباشرة أحياناً، التي طورتها مع معجبيها، حيث يشعرون بأنهم يعرفونها شخصياً على الرغم من أن العلاقة من جانب واحد. هذه طريقتها الفريدة في التركيز على معجبيها وإظهار الاهتمام بتلبية احتياجاتهم العاطفية والفنية؛ لكن تفوقها في عصر البث الرقمي من خلال تغيير أسلوبها لتلبية الطلب المستمر على تقديم محتوى جديد والحفاظ على التفاعل مع المعجبين هو ما رفع شعبيتها إلى مستويات غير مسبوقة.
والآن، لم تعد سويفت مجرد نجمة مشهورة، بل نجمة فائقة الشهرة.
الاستفادة من المنصات للحفاظ على تفاعل الجمهور باستمرار
بين ألبومها "فولكلور" (Folklore) الصادر دون أي إعلان مسبق عام 2020 إبان حقبة تفشي جائحة كوفيد-19، والإعلان عن بدء جولة العصور عام 2022، أصدرت سويفت ألبومين إضافيين، "إيفرمور" (Evermore) و"ميدنايتس" (Midnights)، بينما كانت تعيد تسجيل بعض أعمالها السابقة وإصدارها مجدداً.
لم تعتد سويفت هذه الوتيرة السريعة؛ إذ كانت تُصدر في السابق ألبوماً غنائياً جديداً كل عامين؛ لكن، ومثلما أشار المؤسس المشارك لشركة سبوتيفاي، دانيال إيك، في مقابلة إعلامية عام 2020، فإن منصات البث الموسيقي تُشجع على الاستهلاك السريع والمستمر للمحتوى الموسيقي الجديد، بحيث أصبح الألبوم تتويجاً لرحلة طويلة من الإصدارات المستمرة للفنان. قال إيك: "يدرك الفنانون الناجحون اليوم أن الأمر يتعلق بالتفاعل الدائم مع معجبيهم وبذل الجهد والقصة المرتبطة بالألبوم والحوار المستمر مع الجمهور".
كانت سويفت تتقن الكثير من هذه العناصر لسنوات، بدءاً من التفاعل مع المعجبين وصولاً إلى سرد القصص وبذل الجهد بلا هوادة؛ لكن كان ثمة عنصر مفقود في استراتيجيتها، وهو ما وصفه إيك بـ "الحوار المستمر" مع معجبيها الذي يمكن ترجمته عملياً إلى تقديم إصدارات منتظمة من الأعمال الموسيقية الجديدة.
ومنذ بداية جولة العصور، أصدرت سويفت ألبومين أعادت تسجيلهما وألبوماً غنائياً جديداً بعنوان "قسم الشعراء المعذبين" (The Tortured Poets Department)، مع نسخة موسَّعة إضافية تحتوي على 31 أغنية.
أدت غزارة الأعمال الفنية الجديدة في الأعوام الأخيرة إلى إذكاء شعلة حماس معجبيها القدامى واستقطاب مستمعين جدد أيضاً انجذبوا لتطوُّر أسلوبها الموسيقي والقصص المرتبطة بإعادة تسجيلاتها. وبطبيعة الحال، تسهم صورتها الذهنية لدى الجمهور والجوانب الشخصية من حياتها ودائرة أصدقائها من المشاهير في دعم هذا الزخم. ومع ذلك، تبقى الموسيقى هي العامل الحاسم في نجاح هذه الاستراتيجية أو فشلها.
انتشار ظاهرة الحفلات الموسيقية الضخمة
ازداد الإقبال الشديد على حضور حفلات جولة العصور بدرجة كبيرة نتيجة لما وصفه الكاتب في صحيفة وول ستريت جورنال، نيل شاه، بـ"انتشار ظاهرة الحفلات الموسيقية الضخمة".
في حين يجد الكثير من الفنانين وشركات الإنتاج صعوبة متزايدة في لفت انتباه الجمهور، فضلاً عن الحفاظ عليه، استطاع عدد محدود من الفنانين، مثل زاك برايان وفرقة بلاكبينك (Blackpink)، استثمار منصات مثل تيك توك وخدمات البث المباشر لتكوين قاعدة جماهيرية متحمسة وتحقيق مستوى من النجاح يسمح لهم بإقامة عروض في أماكن مرموقة كانت في السابق غير متاحة لهم.
ازداد الإقبال على الحفلات الموسيقية مؤخراً لعدة أسباب، منها رغبة المنتمين إلى جيل الألفية والجيل زد المعروفين بارتباطهم الوثيق بالإنترنت في خوض تجارب واقعية؛ ما حفَّز النجوم الكبار الذين يمتلكون قاعدة جماهيرية كبيرة ومخلصة منذ زمن بعيد لتنظيم عروض أضخم وأكثر تأثيراً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك في الآونة الأخيرة أديل التي أحيَت حفلاً أمام 73,000 معجب في مدينة ميونيخ على مسرح مفتوح بُني خصيصاً لهذا الحدث، ومادونا التي أحيَت حفلاً مجانياً أمام جمهور قُدر بنحو 1.6 مليون معجب في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، وسلسلة حفلات فرقة كولدبلاي (Coldplay) التي استمرت 10 ليالٍ في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس عام 2022، وسلسلة الحفلات المرتقبة للفرقة المكوَّنة من 10 حفلات في ملعب ويمبلي بلندن، ما يُعد دليلًا إضافياً على اتساع نطاق الجولات الموسيقية المعاصرة للنجوم المخضرمين.
عند طرح تذاكر جولة العصور للبيع، تسبّب الطلب الهائل في انهيار نظام الحجز بشركة تيكتماستر (Ticketmaster)، حيث أجرى 14 مليون مستخدم وبرنامج كمبيوتر آلي (بوت) 3.5 مليار طلب على النظام. وأطلق المعجبون على هذه الفوضى اسم "الحرب العظمى"، ما كشف عن حجم شعبية سويفت الواسعة؛ فوفق شركة تيكتماستر، كانت تلبية هذا الطلب تستلزم تنظيم 900 حفلة في ملاعب كرة القدم، أي نحو 20 ضعف المعدل المخطط الأصلي للجولة في الولايات المتحدة.
وبالتالي كان لا بد أن تلبي تجربة جولة العصور هذه التوقعات العالية أو تتجاوزها، وبما أن سويفت اعتادت استضافة أشد معجبيها في منزلها للاستماع إلى آرائهم ومقترحاتهم، فقد نجحت في تحقيق هذه الغاية؛ إذ شملت قائمتها الأولى للأغاني 9 عصور من مسيرتها الفنية، وهي خطوة طموحة لأنها استعرضت مراحل مختلفة من تطورها الفني، واستمرت الجولة نحو 192 دقيقة. وعلى الرغم من أن تقديم 30 أغنية فحسب كان كافياً لإرضاء المعجبين لأنها أدّت 24 أغنية فقط خلال جولتها السابقة "سمعة" (Reputation)، فقد قدّمت سويفت لمعجبيها 44 أغنية.
عندما وصلت جولة العصور إلى أوروبا في ربيع عام 2024، أضافت تايلور سويفت فقرة جديدة كلية مخصصة لألبومها "قسم الشعراء المعذبين". وعلى الرغم من النجاح المدوّي للجولة، أجرت سويف وفريقها تغييرات جوهرية في العرض لجعله مناسباً للإضافة الجديدة، ما يدل على مرونتها الاستثنائية، إلى جانب إظهار التزامها العميق بمعجبيها وجمهورها، حتى لو تطلب ذلك تغييرات جذرية في إنتاج الجولة.
وفي ظل الضغوط المتزايدة التي يتعرّض لها الفنانون لتقديم محتوى جديد باستمرار وتكثيف التفاعل مع الجمهور وزيادة عدد الجولات الفنية، وما إلى ذلك، قدمت تايلور سويفت لجمهورها أداءً مميزاً جمع بين الاحترافية العالية والحماس المنقطع النظير واللمسة الشخصية، ما جعل الحفل تجربة استثنائية تجاوزت توقعات الجمهور، بل ربما شعروا بأن أداءها يفوق ما يستحقونه.
يمثل حرص سويفت على العطاء والتفاني بدرجة تفوق ما هو مطلوب منها أحد أسباب عشق جمهورها لها، ويُشكّل دافعها الدائم لتجاوز التوقعات جزءاً من شهرتها الاستثنائية؛ إذ يدرك معجبوها هذه العقلية المميزة، وكأنها مدفوعة بحافز لا يمكن الوقوف في وجهه لتطوير أدائها وتحسينه باستمرار وتقديم كل تجربة بأسلوب أفضل من سابقاتها، مع الحرص على إسعاد جمهورها وإبهارهم على الدوام.
أثر تطبيق تيك توك وثقافته على تجربة الحفلات الموسيقية
منذ بداية جولة العصور، نشر معجبو سويفت أكثر من 1.9 مليون فيديو على منصة تيك توك. وحققت هذه الفيديوهات معدلات مشاهدة مذهلة بلغت 380 مليون مشاهدة يومياً، ولم ينخفض عدد المشاهدات في أي يوم عن 200 مليون مشاهدة.
كانت العناصر البصرية في الجولة مثالية وموضوعاتها ملائمة لنشرها في صورة قصص على المنصات الرقمية؛ فبدلاً من تقديم عرض تقليدي يقتصر على أشهر أغانيها، عادت إلى ماضيها بلا خجل، حيث خصصت فقرة صغيرة من العرض لكل عصر في مسيرتها الفنية، مستحضرة الأجواء والجوانب الجمالية المميزة لكل عصر.
توجَّه المستخدمون إلى منصة تيك توك في منازلهم لمشاهدة عمليات البث المباشر التي يصورها المعجبون ومقاطع الفيديو الأخرى التي تعرض لحظات مميزة من الحفل أو الأزياء المستوحاة من إطلالاتها، كما أظهروا تدقيقهم في مختلف التفاصيل المتعلقة بأبسط التغييرات في أزيائها وألوان الميكروفونات وأنواع الجيتارات بحثاً عن إشارات خفية أو رسائل رمزية. حتى المواقف البسيطة، مثل تعطل البيانو أو ضحكة عفوية، كانت مادة غنية للنقاشات والمشاركة على المنصات الرقمية، ما غذى حماس الجمهور وترقبهم للفعاليات التالية.
كان هذا التفاعل المتبادل تتويجاً لسنوات من بناء علاقة فريدة مع جمهورها تتميز بالتفاعل الوثيق والشعور المتبادل بالانتماء، حيث قدّمت سويفت الأفكار الأولية وحوّلها المعجبون إلى محتوى أكبر وأكثر تنوعاً يعكس تجاربهم ويضفي عليها الطابع الشخصي.
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، غيّرت سويفت استراتيجيتها مجدداً وطرحت فيلماً وثائقياً عن جولتها الموسيقية "جولة العصور" من إنتاجها في قاعات السينما، ثم على منصة ديزني+ (Disney+) لاحقاً. وأصبح بإمكان المعجبين الذين لم يتمكنوا من حضور حفلاتها في الملاعب أن يستمتعوا بتجاربهم الخاصة، بينما استطاع مَن حضروها سابقاً استعادة سحر تلك اللحظات. ويتصدر الفيلم الآن قائمة الأفلام الموسيقية الوثائقية من حيث الإيرادات على مدار تاريخ هذه النوعية من الأعمال الفنية، محققاً إيرادات بقيمة تتجاوز 260 مليون دولار في شباك التذاكر على مستوى العالم.
ماذا عن المعجبين الذين يشاهدون مقاطع الفيديو القصيرة أو عمليات البث المباشر بجودة منخفضة أو غير احترافية على تيك توك؟ تقدم سويفت كل ليلة فقرة صوتية تتضمن أغنيتين أو ثلاثاً "مفاجئة". قد تكون هذه الفقرة عبارة عن مزيج بين أغنيتين من عصور مختلفة في مسيرتها، وتتضمن أحياناً ظهور ضيف مفاجئ. يتابع المعجبون الأغاني التي تؤديها في هذه الفقرة، مترقبين بلهفة ما ستقدمه في الحفل التالي. وهكذا خلقت هذه المفاجآت حافزاً لمواصلة مشاهدة تلك المقاطع في كل عرض، ما زاد من انتشارها وتأثيرها، وينبع هذا كله من حرصها الدائم على استمرارية علاقتها الوطيدة مع معجبيها.
أصبحت جولة العصور بمثابة استعراض لمسيرة تايلور سويفت الفنية ودعوة لجمهورها للاحتفاء بتجاربهم الخاصة، مع تشجيعهم على الشعور بأنهم جزء من تجربتها. وتوجَّه المعجبون إلى المنصات الإلكترونية، حيث لم يكتفوا بمشاهدة الجولة فقط، بل عملوا على تنظيمها وإعادة تفسيرها، ما يضمن امتداد أثرها إلى ما هو أبعد من حدود الملاعب.
لم تكن جولة العصور في حقيقتها مجرد سلسلة حفلات موسيقية، بل كانت ظاهرة تفاعلية يشارك فيها الجمهور.
تمثّل جولة العصور لتايلور سويفت دراسة حالة حول كيفية تمكُّن فنان ذي إرث موسيقي من جذب انتباه الجمهور وسط الكم الهائل من المحتوى المتاح في العصر الرقمي؛ ففي ظل تعرُّض المعجبين لوابل لا ينتهي من المحتوى وخيارات الترفيه، يجد الكثير من الفنانين مهما كانت شهرتهم صعوبة في الحفاظ على مكانتهم، فضلاً عن توسيع نطاق تأثيرهم؛ لكن سويفت نجحت في تحقيق الأمرين معاً.
هل يستطيع فنانون آخرون يمتلكون إرثاً موسيقياً محاكاة هذا النموذج؟ ربما، لكن دون تحقيق المستوى نفسه من النجاح على الأرجح. فعلى الرغم من قدرة فنانين آخرين على التعلم من نهج سويفت، بل وضرورة تعلُّمهم منه، فإنها تتمتع بقدرة لا مثيل لها على تعديل استراتيجياتها بسرعة وتشجيع معجبيها المفعمين بالشغف على أن يصبحوا مشاركين نشطين في عمليتها الإبداعية.