في كتابي الذي صدر عام 2019 تحت عنوان "قوة الإنسان" (The Power of Human) أقص حكاية رجل هاجر إلى الولايات المتحدة، وبعد وصوله بأيام ظن أن كلمة "مشغول" تعني "جيد" لأنه عندما كان يسأل الناس عن أحوالهم بعبارة "كيف حالك؟ "كانوا يجيبون غالباً "مشغول". توصلت الرئيسة التنفيذية للعمليات في شركة هينتسا للتدريب على الأداء (Hintsa) نورا روزندال إلى نفس النتيجة عندما أجرت تجربة اجتماعية صغيرة عبر توثيق إجابات السؤال "كيف حالك؟" على مدار أسبوع. وحسب إحصائها، أجاب ما يقرب من ثمانية من كل 10 أشخاص بكلمة "مشغول".
تشير الأبحاث الأكاديمية إلى تزايد انشغال أوقاتنا بالعمل. فمثلاً يشير أحد تحليلات رسائل التهنئة بمناسبة الأعياد إلى أن نسبة الإشارة إلى "جداول الأعمال التي لا ترحم" قد ارتفعت بشكل كبير منذ الستينيات. وتوصل تحليل لبيانات مؤسسة غالوب أجرته آشلي ويلانز من كلية هارفارد للأعمال أن النسبة المئوية للموظفين الأميركيين الذين أفادوا بأنهم "ليس لديهم وقت كافٍ" ارتفعت من 70% في عام 2011 إلى 80% في عام 2018.
وثمة أسباب عدة ومتنوعة لارتفاع نسبة "فقر الوقت" (كما أطلق عليه علماء الاجتماع)، ولكن يمكننا إلقاء اللوم جزئياً على ثقافة الشركات التي تقدر الانشغال، الثقافة التي يمكن تصحيحها بسهولة نظرياً. باختصار، بات الانشغال بالعمل رمزاً للمكانة الرفيعة. إذ كشف البحث الذي أجرته أستاذة التسويق في جامعة كولومبيا سيلفيا بيليزا أن الناس ينظرون إلى الأشخاص المشغولين دوماً، الذين يستخدمون منتجات تشير إلى أنهم مشغولون مثل سماعة البلوتوث، على أنهم مهمون ومثيرون للإعجاب. إضافة إلى ذلك، توصلت الدراسات المنشورة حديثاً لعالم النفس جاريد سيلنيكر إلى أن الأشخاص الذين يبذلون جهداً كبيراً يُعدون "مثيرين للإعجاب من الناحية الأخلاقية" في الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية، بغض النظر عن مستوى إنتاجهم. وذلك تغيير ملحوظ عن العصور القديمة. فكما يقول عالم الاجتماع جوناثان غيرشوني: "العمل، وليس الترفيه، يمثل الآن إشارة على الوضع الاجتماعي المهم". أو كما يقول غوردون جيكو بطريقة أكثر واقعية في فيلم وول ستريت، "الغداء للجبناء"، في إشارة إلى أن رجال الأعمال المشغولين لا يجدون الوقت حتى لتناول الغذاء.
ولكن عندما نتحدث عن العمل في الشركات، فالانشغال المفرط بالعمل ليس ميزة، وكان ينبغي للمؤسسات أن تتوقف عن تمجيده منذ مدة طويلة. إذ يُعد تقييم الموظفين على أساس مدى انشغالهم طريقة سيئة لتحديد المواهب الأكثر إبداعاً وإنتاجية. ومع ذلك، يكافئ العديد من الشركات ويرقي الموظفين الذين يظهرون مدى "اجتهادهم" في عملهم. ويؤثر ذلك تأثيراً كبيراً في الشركات وموظفيها، حيث تشير الأبحاث إلى انخفاض فعالية الموظفين وإنتاجيتهم عندما تلقي المؤسسات عبء عمل زائد على كاهلهم، وتضع مقدار الوقت الذي يعملون فيه أساساً لحوافزهم، وتفرط في مراقبة أنشطتهم. يمكن أن يؤدي الإرهاق بين الموظفين إلى زيادة معدل دورانهم، ما يؤدي إلى تكبد الأداء المالي للشركات تكلفة كبيرة. حتى لو لم يغادر الموظفون، فإن الانشغال المفرط بالعمل يؤثر سلباً في صافي أرباح الشركة بسبب انخفاض تفاعل الموظفين وزيادة التغيب عن العمل. كما أن الإرهاق ضار بصحة الموظفين، إذ كشف تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر عام 2021 أن الإفراط في العمل يزيد من خطر الإصابة بالسكتة الدماغية وأمراض القلب والوفاة في نهاية المطاف. وفي المقابل، تشير الأبحاث إلى أن تخفيض ساعات العمل إلى مستويات معقولة يمكن أن يعزز الإنتاجية.
بات الانشغال رمزاً للمكانة الرفيعة. كما يرى الناس أن الأشخاص الذين يبذلون جهداً كبيراً "مثيرون للإعجاب من الناحية الأخلاقية" بغض النظر عن مستوى إنتاجهم.
لدي شعور بأن المدراء في أيامنا هذه أكثر تقبلاً من السابق لإعادة النظر في أهمية الانشغال. ولازدياد القوة التفاوضية للموظفين المرهَقين الناتج عن ظروف سوق العمالة المحدودة دور في هذا التقبل، لكن وباء كورونا غيّر المزاج العام في الشركات، حيث أدى الوقت الذي قضاه الموظفون بمختلف مستوياتهم بعيداً عن أماكن عملهم إلى إعادة تقييمهم لعلاقتهم مع وظائفهم. في العام الماضي، انتشرت مقاطع تيك توك حول "الاستقالة الهادئة"، أي رفض الموظفين العمل خارج نطاق المهام والساعات المحددة لهم، وأصبح شغل الإعلام الشاغل. لقد تغيّر المزاج العام بالتأكيد.
واستناداً إلى البحث الأكاديمي الذي أجريته بالتعاون مع زملائي، وإلى خبرتي في تقديم المشورة للشركات التي تبحث عن طرق لطيفة وفعالة لمساعدة الموظفين على إدارة وقتهم، اكتشفت عدة أسباب لاستمرارية الهوس بالانشغال المفرط بالعمل، حتى في اقتصاد المعرفة في عالمنا اليوم. كما وضعت حلولاً عملية للشركات التي تحاول الخروج من هذا النمط المدمر الواسع الانتشار.
لماذا نحترم الانشغال بالعمل
تقول إحدى القواعد الأساسية في علم النفس الاجتماعي أن قيمة العمل لدى الأفراد تزداد بازدياد جهدهم المبذول في سبيله. ويُعرف ذلك باسم "تبرير الجهد" حتى لو كان العمل في سبيل هدف غير ذي أهمية. وكلما تطلب العمل جهداً أكبر، زاد شعور الأفراد بارتباطهم به. فقد يقنع الموظفين الجدد الذين يُجبرون على العمل لساعات طويلة في المناوبات الليلية أنفسهم بأنهم يستحقون الوظيفة إذا اجتهدوا بالعمل. وتقع المشكلة حين نواصل تبرير الإجهاد ونخفق في ملاحظة أن الإرهاق يستولي علينا ببطء.
وبمجرد اقتناعنا بثقافة الانشغال بالعمل، فستستمر تلك القناعة بقوة. حيث كتب الباحثان في مجال الإدارة بليك أشفورث وإتزاك فرايد في مقال بارز عام 1988 أن جزءاً كبيراً من السلوك التنظيمي يفتقر للحكمة. فعمال الإنتاج "يعملون بشكل تلقائي"، ويتبع الموظفون القواعد والإجراءات المعمول بها دون التشكيك في فعاليتها، ويجري المدراء التعيينات والترقيات بناءً على الانطباعات الأولى والمؤشرات السطحية. والواقع أن الكثير مما يظنه المدراء معرفة وثقافة مؤسسية لا يعدو مجرد عادات سيئة.
تقول الرئيسة التنفيذية الخبيرة درو أرمسترونغ التي نفذتُ لها سابقاً بعض الأعمال الاستشارية والتي تشغل حالياً منصب رئيسة شركة أفيني باي (AffiniPay) للتكنولوجيا المالية: "أصبح الانشغال من طبيعة عمل المؤسسات". وبعبارة أخرى، سيصبح الانشغال جزءاً من الأنشطة اليومية ما لم يتمكن القادة من استئصاله جذرياً عبر خطة استراتيجية. وتشرح ذلك قائلة: "في غياب الأولويات الاستراتيجية شديدة الوضوح، يخلق الأفراد كميات لا حصر لها من العمل بناءً على ما يظنونه عملاً ذا أهمية، فتقول لموظفيك مثلاً: "أريدك أن تركز على هذه الأولوية "، أو "أريدك أن تغيّر السعر"، أو "علينا شراء شركة أو الدخول في شراكة مع مؤسسة جديدة". فتكون الإجابة: "لا أستطيع فعل ذلك لأنني مشغول جداً". فتقول: مشغول بماذا؟!"
عندما تشجع المؤسسات على الانشغال المفرط بالعمل، فلن يقاومه الموظفون، لأنهم ينفرون من السكون حتى لو أدركوا الجانب السلبي للجهود العديمة الإنتاجية على المدى الطويل. ففي إحدى التجارب الشهيرة، اكتشف عالم النفس تيموثي ويلسون وزملاؤه أن 67% من الرجال و25% من النساء اختاروا الضغط على زر لصدم أنفسهم كهربائياً بدلاً من الجلوس بلا حراك يتأملون في غرفة المختبر. مع أن المشاركين في التجربة قالوا قبل دخولهم للغرفة أنهم مستعدون لدفع المال لتجنب التعرض لصدمة كهربائية، ولكن بمجرد تركهم بمفردهم، لم يستطيعوا تحمل السكون، وسعوا لإشغال أنفسهم.
كما تكشف تجربة أخرى حول "النفور من السكون" أُجريت تحت إشراف الأستاذ الجامعي في علم السلوك كريستوفر سي أن الناس يختارون تنفيذ أي نشاط يبقيهم مشغولين (مثل خلع ساعة اليد وإعادة ارتدائها) بدلاً من الانتظار بلا حراك لمدة 15 دقيقة، ما داموا قادرين على تبرير أتفه الأعمال.
حتى الجائحة التي غيّرت شكل العالم لم تستطع زعزعة هذا النفور من السكون. فقد خشي المدراء من تقاعس الموظفين في ظل ترتيبات العمل من المنزل الجديدة التي فرضها كوفيد-19، وما حدث أن الموظفين عن بُعد في الولايات المتحدة عملوا لساعات أطول في الأشهر الأولى من الجائحة، حتى مع تباطؤ الاقتصاد. لكن رغبتهم في البقاء مشغولين تدفعهم لاختلاق مهام غير ضرورية ولإطالة الوقت الذي يستغرقونه لإتمام مهامهم الحالية، ما يؤدي إلى إرهاقهم.
ويتمثل السبب الأخير لتقدير المؤسسات للانشغال في تقدير عملائها له، فهم ينسبون القيمة إلى مقدار الجهد في كثير من الحالات. وفي تجربة بسيطة لإثبات هذه الظاهرة، أظهر القائمون على التجربة إعجاب المشاركين الكبير بأشياء مختلفة مثل قصيدة ولوحة وزي مدرع وصنفوها بدرجة عالية من حيث الجودة والقيمة عندما ظنوا أن جهداً كبيراً قد بذل في سبيل إنتاجها. كما توصل البحث الذي أجراه أستاذ العمليات في كلية هارفارد للأعمال ريان بيول أن عملاء المطعم أبلغوا عن مستوى رضا مرتفع عن الخدمة عندما تم تحضير شطيرة أمامهم، أي عندما راقبوا كمية الجهد المبذول في تحضيرها، وكان مستوى رضاهم أقل حين استلموا نفس الشطيرة لكن دون أن تُحضر أمامهم. وكما يطلب مدير العمال من طاقمه "الظهور بمظهر أنيق" عندما يقترب أحد العملاء، يبقي المدراء موظفيهم مشغولين لكي يبدون كما يرغب عملاؤهم.
كيف نصحح المسار
ما الذي يمكن أن تفعله المؤسسات للتغلب على هذه الآفة؟ ثمة خمس طرق للتغلب على الانشغال المفرط بالعمل.
كافئ النتائج، وليس الجهود فحسب. يقول مثل قديم: كما تزرع تحصد. لذلك ليس من المستغرب أن يبذل الموظفون المزيد من الجهد عندما يتقاضون أجورهم بناءً على جهودهم وليس إنتاجيتهم. فقد أظهر بحث حديث أجراه أستاذ المحاسبة بجامعة تكساس إريك تشان أنه عندما تتفاوت قدرات العمال الطبيعية في مهمة تعاونية (مثل لعبة تشكيل الكلمات المتقاطعة "أناغرامز") ويتقاضون أجورهم مقابل الوقت الذي يقضونه فيها فقط، سيعملون لمدة أطول ولكن سينجزون أقل، لأنهم يرون أن الحوافز غير عادلة. وحتى عندما تكون هذه الأساليب التحفيزية التي لا تعتمد على النتائج راسخة، فإن فعاليتها لا تذكر. فقد أظهرت دراسة معروفة حول مهنة المحاماة أجراها رينيه لاندرز من جامعة سوفولك (Suffolk University)، أن ميل شركات المحاماة إلى ترقية محاميها الذين يحفل سجلهم بساعات عمل أكثر يؤدي إلى انتشار عقلية سباق الفئران بين المحامين التي تدفعهم للعمل لساعات طويلة جداً لكن دون فاعلية.
يؤدي التحول إلى دفع الأجور استناداً إلى الأداء إلى تعزيز إنتاجية العمال ولكنه يحمل بعض المحاذير. حيث وجد الخبير الاقتصادي إدوارد لازير أنه عندما تحولت شركة سيف لايت (Safelite) لإصلاح زجاج السيارات من دفع الأجر بالساعة إلى الدفع بناءً على عدد الزجاج المركب، ارتفع متوسط إنتاجية العامل بنسبة 44%. بالطبع لا ينبغي مكافأة الموظفين على الإنتاج فحسب، لأن ذلك يشجعهم على العمل المفرط وبالتالي الإرهاق في حال تمادى الموظفين لتحقيق مكاسب أعلى. كما يمكن أن تؤدي الحوافز التي تركز على الإنتاج فقط إلى إعاقة الابتكار الذي يتضمن بطبيعته الأخطاء والإخفاقات "غير الفعالة من الناحية الإنتاجية". في الظروف المثالية، تجمع برامج الأجور بين الحوافز القائمة على الإسهامات (لتشجيع المخاطرة والابتكار) والنتائج (لزيادة الإنتاجية الإجمالية). وفي الوقت نفسه، فإن مكافأة الموظفين على الجزء الخاص بجودة نتائجهم ستوضح لهم أنك لا تعطي أهمية للانشغال بالعمل وحده.
عليك معرفة إذا ما كانت مؤسستك تنتج عملاً عميقاً وتتخلص من العمل المنخفض القيمة. شرح العالم في علوم الكمبيوتر كال نيوبورت بالتفصيل مدى أهمية تفعيل الشركات ما يطلق عليه "العمل العميق" أو الاهتمام المستمر بالمهام التي تتطلب قدرات معرفية. ولسوء الحظ، تمطر مؤسسات عدة موظفيها بأعمال سطحية، مثل إدخال البيانات، والاجتماعات غير الضرورية، وتقديم تقارير النفقات وما شابه ذلك، ما يقلص قدراتهم على تأدية العمل العميق. وتكشف مجموعة كبيرة من الأبحاث أن تعدد المهام يقلل الإنتاجية بنسبة تصل إلى 40%. ولأن تعدد المهام يبدو أكثر إنتاجية من تأدية مهمة واحدة، فيسهل التغاضي عن تراكم "تكاليف التحويل" أي التبديل بين المهام. وللتغلب على وباء الانشغال المفرط، على المؤسسات إجراء عمليات تدقيق لمعرفة إذا ما كان العمل يؤدي إلى تفاعل الموظفين وليس إشغالهم فحسب.
كيف يمكنك إجراء عمليات تدقيق؟ ابدأ باستطلاع آراء الموظفين واطلب منهم سرد كل مهمة ينفذونها على أساس أسبوعي وتقييم مدى القدرات المعرفية المطلوبة لكل مهمة، ومدى التركيز الذي تنطوي عليه، ومقدار التدريب الذي تتطلبه على مقياس من خمس درجات. وبمجرد تحديد المهام السطحية، أي المهام التي تحصل على درجات منخفضة على هذه المقاييس، يمكن للمدراء تحديد إذا ما كانوا سيتخلصون منها أو يستبدلونها بمهام أكثر كفاءة. وبعد إجراء هذا النوع من التقييم الذاتي، اختارت بعض الشركات مثل إم تي أونلاين (MT Online)، وهي سوق إلكترونية للقروض الشخصية والتأمين، وشركة تري هاوس (Treehouse) للتكنولوجيا، التخلص من البريد الإلكتروني والتحول إلى منصات اتصال أكثر تخصيصاً وأبلغت عن زيادات في الإنتاجية. كما عززت شركات أخرى، مثل شركة الاستوديو الرقمي ذا سول ببليشينغ (TheSoul Publishing)، الكفاءة عبر سياسة "لا اجتماعات". وأنا قررت بنفسي إلغاء المكالمات الهاتفية التي تعطل عملي العميق لأنني أشعر بأنني لا أستطيع الرد عليها وفقاً لجدول أعمالي.
وقبل التخلص من المهام السطحية، من المهم مراعاة ما تراه المؤسسة وموظفوها ممكناً. فعندما تحدثت مؤخراً إلى شركة إلكترونيات هولندية حول هذه الاستراتيجيات، قال أحد الموظفين: "أرى أن سياسة إلغاء المكالمات الهاتفية سخيفة". قد يعتمد عمل ذلك الموظف على الهاتف للتواصل السريع والآني، وقد تكون المكالمات الهاتفية جزءاً مهماً من ثقافة تلك الشركة.
أجبر الموظفين على التوقف عن العمل عند انتهاء ساعات عملهم. كما كان المدراء مخطئين عندما خافوا أن يسيء الموظفون استغلال العمل عن بُعد في أثناء الجائحة، يخشى العديد من الشركات من أن يسيء الموظفون استغلال سياسات الإجازات السخية. فعندما ألقيت محاضرة أمام قادة الأعمال حول الفوائد التحفيزية للإجازة وذكرت أن بعض الشركات تمنح أيام إجازة غير محدودة، قال أحد المسؤولين التنفيذيين إنه في حال قامت شركته بذلك، فسيأخذ الموظفون إجازة ولن يعودوا أبداً للعمل. لكن من المعروف لدى أكثر الشركات سخاءً (والموظفين الذين يعملون لديها) أن الموظفين الذين لديهم إجازات غير محدودة يأخذون غالباً إجازات قليلة. وتكشف الدراسات الاستقصائية دوماً أن أكثر من نصف الموظفين الأميركيين لا يأخذون أيام إجازاتهم المدفوعة الأجر بالكامل، ويعمل معظمهم في الإجازات. كما تُظهر الدراسات أن أغلبية كبيرة من الموظفين تتحقق من البريد الإلكتروني الخاص بالعمل خارج أوقات الدوام، ما دفع الحكومات في فرنسا وإسبانيا والبرتغال إلى إصدار قوانين تطالب المؤسسات بالسماح لموظفيها برفض اتصالات العمل بعد ساعات الدوام.
ومع ذلك، لا ينبغي أن تقع هذه السياسات على عاتق الحكومات، ولحسن الحظ أدركت بعض الشركات الجانب الإيجابي المتمثل في إجبار موظفيها على التوقف عن العمل بعد انتهاء الدوام (أو على الأقل حثهم على العمل بشكل أقل). لقد نجح العديد من المؤسسات في تنفيذ سياسات الإجازة المدفوعة الأجر الإلزامية، مثل شركة أونيست بوز (Honest Paws) المختصة بصحة الحيوانات الأليفة، وشركة تشات بوكس (Chatbooks) للكتب المصورة، وشركة سيمبلي فلايينغ (SimpliFlying) لاستراتيجيات تسويق شركات الطيران. وتحفز شركات أخرى مثل شركة البرمجيات فول كونتاكت (FullContact) موظفيها لأخذ إجازات حقيقية عبر دفع المال لهم مقابل تلك الإجازات وتشترط إعادة تلك الأموال في حال فتح الموظفين بريدهم الإلكتروني في الإجازة. وفي عام 2014، مكنت شركة صناعة السيارات الألمانية دايملر - Daimler (أصبحت الآن مرسيدس بنز (Mercedes-Benz) موظفيها من استخدام برنامج بريد إلكتروني خاص يمحو تلقائياً أي رسائل بريد إلكتروني يتلقونها في أيام العطلة، ويبلغ المرسل بأن رسائله الإلكترونية قد حُذفت ويمكنه الاتصال بموظف آخر في حالة الطوارئ. وتشير هذه السياسات إلى أن الشركة تهتم بصحة الموظف وعافيته أكثر من الانشغال بالعمل.
كما يشير أحد أكثر الاكتشافات إثارة للاهتمام في علم الأعصاب على مدار العشرين عاماً الماضية إلى سبب وجيه آخر لإجبار الموظفين على التوقف عن الانشغال المفرط. حيث وجد الباحثون أن النشاط في الشبكة التي تربط مناطق الدماغ المسؤولة عن المهام التي تتطلب الانتباه (المعروفة باسم "شبكة المهام الإيجابية") يميل إلى الارتباط سلباً بالنشاط في شبكة مناطق الدماغ المشاركة في حالة راحة اليقظة (المعروفة باسم "شبكة الوضع الافتراضي" بسبب ميلها إلى النشاط بشكل افتراضي في أثناء لحظات الراحة). وهذا يعني أنه كلما زاد تفاعل الدماغ في مهمة محددة (ومنها الانشغال)، قلت قدرته على رفع مستوى الحضور الذهني الآني. كما أظهرت أبحاثي أن رفع مستوى الحضور الآني مرتبط بعيش معنى الحياة والخبرة الإبداعية وحتى السلوك الاجتماعي الإيجابي. وفي حال أردت النمو الحقيقي لموظفيك، فعليك إتاحة الوقت لعقولهم للانطلاق بحرية.
كلما زاد تفاعل الدماغ في مهمة محددة (ومنها الانشغال المفرط)، قلت قدرته على رفع مستوى الحضور الذهني الآني.
كن القدوة لموظفيك. لن يشعر الموظفون بأن الشركة تفضل عافيتهم على انشغالهم إلا إذا رأوا مدراءهم يأخذون إجازات. إذ لا تتمثل شجاعة القادة في العمل لساعات طويلة، بل بوضع قاعدة أخذ الإجازات وإلزام أنفسهم بها أولاً. فعندما يثبت المدراء أن الانشغال المفرط ليس شرطاً أساسياً للنجاح، سيؤمن الموظفون بذلك، طبعاً مع عدم إلقاء أعباء العمل على مرؤوسيهم عند أخذ الإجازات.
القواعد المتعلقة بسلوك الرؤساء التنفيذيين آخذة في التغير. فقد قرر مارك زوكربيرغ مثلاً أن يأخذ شهرين إجازة أبوة من إدارته لشركة ميتا. وقدم الرئيس التنفيذي لشركة البرمجيات أوكتا (Okta)، تود ماكينون، مثالاً يحتذى به، فلم يكتف بمطالبة موظفيه بالحديث عن مخطط إجازاتهم، بل أخبرهم عن مخطط إجازته القادمة في منتجع وادي نابا في ولاية كاليفورنيا. وحينها أرسل إليه أكثر من ألف موظف خطط إجازاتهم عبر البريد الإلكتروني.
لقد استفدت شخصياً من معايير التوازن بين العمل والحياة التي وضعها أحد القادة. فعندما كنت طالباً في كلية الدراسات العليا، لاحظت أن المشرف الأكاديمي يصل دائماً إلى مكتبه قبلي ويبقى دائماً هناك بعد مغادرتي الكلية، وأوحى ذلك إليّ ضمنياً بأن العمل الأكاديمي لا يحده وقت. وذات يوم أخبرني أنه عندما كان طالب دراسات عليا، كان يغادر المكتب في منتصف وقت العمل ويذهب للجري عندما يجد نفسه مشتتاً أو غير متحمس للعمل. ومجرد سماع ذلك من شخص أحترمه (كان أكثر الذين أعرفهم اجتهاداً) ساعدني في فهم أن الابتعاد عن العمل لم يكن مسموحاً به فحسب، بل ضرورياً ومفيداً لي في مسيرتي الأكاديمية.
تعزيز الأريحية في نظام العمل. من الأسباب الرئيسة للانشغال المفرط القيود المفروضة على الوقت والموارد، بالإضافة إلى العوامل النفسية آنفة الذكر. فعندما تواجه أنظمة المستشفيات تخفيضات في الميزانية، فإن الأحداث الحرجة مثل جائحة كوفيد-19 ترهق الطاقم الطبي، ما يؤدي إلى زيادة أوقات الانتظار وحدوث وفيات ناجمة عن تأخير تقديم الرعاية للمرضى الذين يحتاجون إلى رعاية عاجلة. وعندما تضطرب سلاسل التوريد، تعاني الشركات في التعامل مع شكاوى العملاء، وإدارة الأسعار المتقلبة، وإيجاد طرق بديلة لتسليم المنتجات.
وكما قال رائد أعمال لسلسلة من المشاريع، سيث جودين: "الأنظمة التي تتمتع بالأريحية أكثر قدرة على التحمل". ماذا تعني الأريحية؟ يصف الأستاذ الجامعي في الهندسة ريكاردو باترياركا وآخرون في كتبهم أنواعاً مختلفة من الأريحية، مثل: (1) الوفرة في الموارد، أي السعة في الوقت والمال والمساحة والموظفين والمعدات. (2) القدرة على إعادة تخصيص الموارد الموجودة، مثل تحويل صالات المؤتمرات إلى مستشفيات في أثناء الجائحة. (3) هوامش المناورة لتعزيز القدرة على التحرر من إجراءات التشغيل القياسية، كما في حالة القائد الميداني في فرقة الإطفاء الذي يرتجل أسلوباً جديداً مناسباً للموقف. (4) وجود أكثر من موظف لوظيفة واحدة، وهنا يكون الموظفون قادرين على أداء وظائف زملائهم، وغالباً يدقق أحدهم عمل الآخر (مثال على ذلك، عمل المستشارين التقنيين مع فريق تشغيل محطة للطاقة النووية في ورديات).
يعتقد الكثيرون أن هذه الاستراتيجيات عالية الكلفة إن لم تكن هدراً للمال. ويتساءلون: ما الحكمة من تعيين موظف ليقوم بمهام موظف آخر؟ الأريحية ضرورية عند إدارة الأزمات وحتى عندما تحاول توزيع عبء العمل اليومي على الجميع دون مشاكل. وتعزيز الموارد مكلف دائماً، لكن فقدان الموظفين الجيدين أو العملاء المخلصين بسبب بيئة العمل المرهقة أو المزدحمة أو الخدمة البطيئة يعد أكثر كلفة.
قال مدرب كرة السلة الشهير في جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلوس جون وودن ذات مرة: "لا تخلط أبداً بين النشاط والإنجاز". ومع ذلك تستمر الشركات في الوقوع في هذا الفخ على الرغم من وجود أدلة كثيرة على أن زيادة العمل لا تؤدي بالضرورة إلى زيادة الإنتاجية. ولأن ثقافة الشركات السائدة ما تزال تكافئ على الانشغال، فالسباحة مع التيار تبدو أسهل من الاجتهاد لإصلاح هياكل الحوافز المتصدعة. لكن عدم الإصلاح لن يكون تصرفاً يفتقر للحكمة فحسب، بل من المحتمل جداً أن يكون خطأً قاتلاً. إذ تُظهر الأبحاث أنه منذ تسعينيات القرن الماضي، يعمل الموظفون ساعات عمل أطول وباجتهاد أكبر وبجداول زمنية أكثر صرامة وظروف أكثر إرهاقاً عبر محاولتهم إتقان مهارات إضافية للتفوق على الروبوتات التي تنافسهم على وظائفهم، بينما تحبسهم الأجهزة الرقمية في جو العمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. وقد أثر ذلك بشكل كبير في صحتهم العقلية والجسدية. فعلى الشركات والقادة اتخاذ مواقف جادة في وجه وباء الانشغال المفرط حتى نتمكن من البدء في إنشاء مؤسسات ووظائف أكثر استدامة.