ازدادت في الآونة الأخيرة الهمسات والتساؤلات بين ممارسي الجودة عن المستقبل الذي ينتظر هذا القطاع، وذلك في ظل وفرة التقنيات المتقدمة، وأبرزها الذكاء الاصطناعي. وهذا الأمر ليس مستغرباً، إذ تمتد أيدي الذكاء الاصطناعي من قطاع إلى آخر، وتنتشر تطبيقاته بسرعة من مهنة إلى أخرى.
وإذا أردنا أن نستعرض تاريخ الجودة من خلال ضغطه في كبسولة واحدة، فيمكننا القول إن مفهوم الجودة بدأ وسيلةً لضمان أن المنتجات تلبي المعايير الأساسية، وكانت بداياته تتركز حول عمليات التفتيش اليدوي التقليدي، حيث كان العامل المسؤول يفحص المنتجات لضمان جودتها. ومع بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، زادت الحاجة إلى عمليات تفتيش أكثر تنظيماً، فتم إدخال أنظمة رقابة الجودة الأولى التي اعتمدت على المعايير والمواصفات القياسية. في أوائل القرن العشرين، ومع ظهور أفكار مثل "الإدارة العلمية" لفريدريك تايلور، تطور مفهوم الجودة ليصبح جزءاً من خطط الإنتاج، ما أسهم في ظهور ضبط الجودة الإحصائي. لاحقاً، ومع تطور الفكر الإداري بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور أسماء رائدة مثل إدوارد ديمنغ وجوزيف جوران، برزت الجودة الشاملة باعتبارها فلسفة تتبنى الجودة في جوانب المؤسسة جميعها.
لكن العقد الماضي كتب فصلاً جديداً في تاريخ الجودة بظهور مصطلح "الجودة 4.0" ، الذي لم ينسبه الخبراء إلى شخص محدد، بل نشأ باعتباره مفهوماً جماعياً ليواكب التحولات الرقمية الحديثة التي أحدثتها التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات الضخمة. ويهدف هذا المفهوم إلى دمج هذه التقنيات في أنظمة الجودة التقليدية لتحسين الكفاءة، وتمكين المراقبة الاستباقية، وتعزيز الترابط بين مختلف عناصر المؤسسة، ما يسهم في رفع مستوى الجودة بطرق جديدة ومبتكرة.
لا مفر من أن نعرّج على ماهية الذكاء الاصطناعي، وهو أحد مجالات علوم الكمبيوتر التي تسعى إلى بناء أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري وأداء مهام معقدة تشمل التحليل، واتخاذ القرارات، والتعلم. بدأ مفهوم الذكاء الاصطناعي منذ خمسينيات القرن العشرين بوصفه علماً يهتم بإعطاء الآلات القدرة على الاستفادة من التجارب السابقة وأداء وظائف تتطلب ذكاءً شبيهاً بالذكاء البشري. وقد تطور الذكاء الاصطناعي كثيراً خلال العقود الماضية، مع ظهور أنماط متقدمة مثل التعلم الآلي في الثمانينيات، والتعلم العميق في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وأخيراً ظهر الذكاء الاصطناعي التوليدي في السنوات الأخيرة. ويعتمد الذكاء الاصطناعي التوليدي على نماذج أساسية تستطيع إنشاء محتوى جديد، ما يفتح آفاقاً واسعة للابتكار في المجالات الإدارية والصناعية والإبداعية، ويجعل الذكاء الاصطناعي جزءاً أساسياً في العديد من التطبيقات الحديثة.
كيف ستستفيد الجودة من إمكانات الذكاء الاصطناعي؟
بدأ بالفعل استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة الجودة، وهناك العديد من التطبيقات التي أظهرت نجاحاً وتبشّر بنتائج واعدة، خصوصاً في مجالي ضبط الجودة وضمان الجودة. وقد تمكنت من حصر 21 تطبيقاً مختلفاً، وآثرت تضمينها جميعاً في هذا المقال لتكون قائمة مرجعية، على الأقل في الوقت الحالي:
- تحليل البيانات والتعرف على الأنماط: استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات من مصادر متعددة مثل الإنتاج وسلاسل التوريد، والتعرف على الأنماط المؤثرة على جودة المنتجات.
- التأكد من التناسق: توحيد البيانات عبر سلاسل التوريد المعقدة واكتشاف تباينات الجودة الناتجة عن اختلاف المواد أو المورّدين.
- التحديث التلقائي لإجراءات التشغيل الموحدة (SOP): أتمتة عملية مراجعة وتحديث الوثائق والإجراءات التشغيلية بناءً على التحليل الذكي للمستندات.
- التنبؤ والوقاية من مشكلات الجودة: تحليل البيانات السابقة للتنبؤ بالمشكلات المحتملة وتقديم إجراءات وقائية مثل جدولة الصيانة الوقائية.
- أتمتة المهام الروتينية: تقليل عبء المهام الروتينية مثل إدخال البيانات وتحليلها، ما يسمح للموظفين بالتركيز على مهام استراتيجية وإبداعية.
- إطلاق الإصدارات المعتمدة: تسهيل عملية التخطيط للاختبارات، وتوفير إصدارات معتمدة بجهد أقل.
- توسيع دور الشخص الفاحص: تمكين الفاحصين من التركيز على التحليل التنبؤي ورفع مستوى مشاركتهم في ضمان الجودة.
- مراقبة الجودة في الوقت الفعلي: اكتشاف العيوب فوراً من خلال مراقبة جودة المنتجات والخدمات في الوقت الفعلي.
- التقييم الشامل للبيانات عوضاً عن العيّنات: الانتقال من العيّنة العشوائية إلى التقييم الشامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، ما يوفر صورة أوضح عن أداء الجودة.
- إدارة شكاوى العملاء: أتمتة تصنيف شكاوى العملاء من مصادر مختلفة (مثل البريد الإلكتروني والدردشات)، وتقديم توصيات حول سحب المنتجات أو اتخاذ تدابير وقائية.
- تحسين خدمة العملاء: تقديم ردود دقيقة ومناسبة لاستفسارات العملاء، ما يعزز رضا العملاء وثقتهم.
- تحليل فعالية الإجراءات: استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات التاريخية واستخدامها في تحديد الإجراءات التصحيحية والوقائية المناسبة (CAPA) للمشكلات المتكررة.
- تحليل السبب الجذري: أتمتة عمليات تحليل الأسباب الجذرية للأخطاء وتحليل البيانات المتاحة لتحديد الحلول المثلى.
- إدارة المخاطر: اكتشاف المخاطر عبر العمليات والمهام المختلفة (مثل الشكاوى، التدريب، نتائج التدقيق) وتقديم توصيات لتخفيفها.
- التدقيق الذكي وإدارة المراجعات: استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد توقيت مناسب لإجراء التدقيقات الداخلية أو على المورّدين بناءً على الأداء الحالي وتحليل البيانات.
- التدريب والتطوير الوظيفي: تقديم توصيات تدريبية وتحديد مسارات تطوير المهارات بناءً على تحليل أدوار الموظفين العاملين في مجال الجودة ومتطلبات العمل.
- تحسين تجربة المتعاملين على نحو استباقي: تحليل بيانات الخدمة السابقة للتنبؤ بسلوك المتعاملين، ما يسمح بتقديم خدمة استباقية وتفادي شكاوى العملاء.
- تصميم الجودة: تحسين تصميم المنتجات والخدمات من خلال تحليل البيانات التاريخية والسوقية لاستنباط معلومات حول الأداء والاعتمادية.
- تطوير العمليات: اكتشاف فرص التبسيط والتوحيد والأتمتة للعمليات الحالية باستخدام الذكاء الاصطناعي.
- الفحص الذاتي الذكي: تحسين عملية الفحص عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي ذات التعلم الذاتي التي تطور كفاءتها باستمرار بمرور الوقت.
- تحديد الحالات ذات الأولوية في الاختبار: مساعدة فِرق العمل على إعطاء الأولوية لحالات الاختبار بناءً على التحليل الذكي للرموز والسلوكيات والوثائق.
هل العلاقة بين الجودة والذكاء الاصطناعي هي باتجاه واحد؟
على الرغم من المنافع العديدة والتطبيقات المتنوعة لتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال إدارة الجودة، فإن العلاقة بين الجودة والذكاء الاصطناعي ليست في اتجاه واحد، بل هي في اتجاهين. بمعنى، أن تطبيق الجودة مطلوب في الذكاء الاصطناعي، ويجب أن يكون تطوير هذه التقنية في إطار ممارسات الجودة وآلياتها ومتطلباتها.
فوفقاً لقانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي لعام 2024، يجب تطبيق نظام إدارة جودة صارم لضمان الامتثال التنظيمي والحفاظ على السلامة والموثوقية طوال دورة حياة أنظمة الذكاء الاصطناعي. ويتطلب القانون من مطوري الأنظمة الذكية العالية المخاطر تنفيذ نظام إدارة جودة موثّق يتضمن استراتيجيات متكاملة تشمل الامتثال، وإجراءات التصميم والتطوير، واختبارات التحقق، وإدارة البيانات، وإدارة المخاطر، والرصد والمتابعة ما بعد الطرح في السوق. كما يشدد على ضرورة مراقبة جودة البيانات بانتظام، بما في ذلك التحقق من الاتساق والصحة والدقة. تعكس هذه المتطلبات الدور الحاسم لإدارة الجودة في تعزيز النزاهة التشغيلية وكذلك النزاهة الأخلاقية، وضمان أداء أنظمة الذكاء الاصطناعي وفقاً لمعايير السلامة والالتزام، ما يعزز الثقة العامة ويقلل من المخاطر، ويضمن تلبية الأنظمة الذكية للمعايير القانونية والأخلاقية على نحو مسؤول.
ما هو المستقبل المهني الذي ينتظر محترفي إدارة الجودة؟
من المتوقع أن يتغير الدور الذي يقوم به العاملين في مجال الجودة تغييراً جذرياً، حيث سيتحول تركيزهم من المهام اليدوية الروتينية إلى الأنشطة الاستراتيجية العالية القيمة. بدلاً من أن يحل الذكاء الاصطناعي محل هؤلاء المحترفين، من الممكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي أداة قوية تعزز من قدراتهم وتفتح لهم مجالات جديدة في تحليل البيانات، وإدارة المخاطر، وتحسين العمليات. يدفع الذكاء الاصطناعي محترفي الجودة إلى تبنّي قرارات تعتمد على البيانات، ما يتيح لهم الاستفادة من التحليلات التنبؤية وأدوات التفتيش الآلي واكتشاف الأسباب الجذرية للمشكلات بطريقة أسرع وأكثر دقة.
سيؤدي محترفو الجودة دوراً رئيسياً في تطبيق أدوات الذكاء الاصطناعي، ما يتطلب منهم تطوير مهارات جديدة في التعامل مع هذه الأدوات والتعاون الوثيق مع متخصصي الذكاء الاصطناعي لضمان تنفيذ مسؤول وأخلاقي للتقنيات. ومن أجل نجاحهم في هذا التحول، يجب أن يستثمروا في التدريب المستمر وتطوير مهاراتهم للتكيف مع العمليات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ما يمكّنهم من تعزيز ثقافة الجودة المبنية على البيانات داخل مؤسساتهم.
ما هي تحديات تطبيق الذكاء الاصطناعي في إدارة الجودة؟
يواجه استخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة الجودة مجموعة من التحديات التي تتطلب حلولاً مبتكرة. من أبرز هذه التحديات جودة البيانات وتوافرها؛ إذ يجب أن تعتمد خوارزميات الذكاء الاصطناعي على بيانات دقيقة وموثوقة لتحقيق تنبؤات وتحليلات فعالة. لذا، يجب على المؤسسات التأكد من دقة البيانات وموثوقيتها، ومعالجة أي تحيزات أو عيوب قد تؤثر على نتائج التحليلات التي يجري توليدها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
يتمثل التحدي الثاني في صعوبات التكامل والتنفيذ، إذ إن دمج الذكاء الاصطناعي في أنظمة إدارة الجودة الحالية قد يكون صعباً على الصعيدين التقني والتنظيمي. وهذا يتطلب التغلب على العقبات الفنية، والاستثمار في بنية تحتية مناسبة، وتدريب الموظفين لضمان نجاح متكامل. يجب أن تركز المؤسسات على تحقيق التوافق والتكامل بين تقنيات الذكاء الاصطناعي والأنظمة القائمة لتجنب الانقطاعات التشغيلية.
كما يثير الذكاء الاصطناعي اعتبارات أخلاقية وحاجة إلى إشراف بشري، فهناك مخاوف بشأن تحيّز الخوارزميات وإمكانية اتخاذ القرارات دون تدخل بشري، ما قد يؤثر على مخرجات معالجة البيانات وتوزيع المهام. لضمان شفافية القرارات التي تتخذها الأنظمة الذكية وبناء الثقة فيها، ينبغي على المؤسسات إنشاء ممارسات أخلاقية والحفاظ على إشراف بشري للتأكد من صحة عمليات اتخاذ القرار وأخلاقيتها.
من التحديات الأخرى التي تواجه الذكاء الاصطناعي في الجودة هي فجوة المهارات؛ إذ يتطلب تطبيق أنظمة جودة مدعومة بالذكاء الاصطناعي وإدارتها مهارات متخصصة في مجالات مثل علم البيانات، وتعلّم الآلة، وبرمجة الذكاء الاصطناعي. لذا، تحتاج المؤسسات إلى الاستثمار في تدريب مهارات الموظفين الحاليين وتطويرها أو توظيف كوادر جديدة تملك هذه الخبرات.
ويجب ألا نغفل عن عنصر التكلفة، إذ قد تتطلب تقنيات الذكاء الاصطناعي استثمارات مالية كبيرة في البداية، بالإضافة إلى تكاليف مستمرة لصيانة الأنظمة وتحديثها. لذا، يتعين على المؤسسات التخطيط الدقيق لتخصيص الموارد بحيث يمكن دعم هذه التقنيات دون التأثير سلباً على الأنشطة التشغيلية الأخرى.
ما هي الافتراضات الخاطئة حول تطبيق الذكاء الاصطناعي في مجال الجودة؟
ثمة عدة افتراضات خاطئة حول دور الذكاء الاصطناعي في أنظمة إدارة الجودة ، التي قد تعوق التطبيق الناجح وتؤدي إلى خيبة أمل لدى القادة والموظفين. من ضمن هذه الافتراضات الشائعة:
- الاعتقاد أن جميع المؤسسات الأخرى قد تبنّت بالفعل تطبيق الذكاء الاصطناعي في مجال الجودة: يشعر العديد من القادة في هذا المجال بضغوط لتبني الذكاء الاصطناعي بسرعة، متصورين أن مؤسسات أخرى قد أصبحت متقدمة في هذا المجال. لكن التقارير تشير إلى أن 27% فقط من المؤسسات قد اعتمدت الذكاء الاصطناعي بالكامل، ما يعني أن غالبية المؤسسات لا تزال في مراحل مبكرة من التطبيق.
- سيحقق الذكاء الاصطناعي نتائج سريعة بمجرد تطبيقه على نحو صحيح: يميل بعض مدراء الجودة إلى الاعتقاد أن نتائج الذكاء الاصطناعي ستكون فورية، لكن الواقع يُظهر أن التطبيقات الناجحة تتطلب وقتاً وجهداً كبيرين قبل أن تظهر نتائجها. فقد أظهرت دراسة أجرتها شركة غارتنر (Gartner) على 15 حالة استخدام أساسية للذكاء الاصطناعي في إدارة الجودة، أن أياً منها لم يكن نجاحه سهلاً، ما يعني أن التطبيقات تحتاج إلى تقييم مستمر وجهود متواصلة لتحقيق الفوائد المتوقعة.
- يمكن للذكاء الاصطناعي فعل كل شيء: يعتبر البعض الذكاء الاصطناعي حلاً سحرياً يمكنه معالجة المشكلات كافة، لكن هذه النظرة ليست واقعية، فالذكاء الاصطناعي له حدود، ويحتاج إلى تصميم وتنفيذ ومراقبة دقيقة لضمان توافقه مع التوقعات والأهداف المرجوة.
- سيلغي الذكاء الاصطناعي دور الأفراد ويقلل من قيمة مهاراتهم: يخشى بعض محترفي الجودة أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي إلى استبدالهم أو التقليل من مهاراتهم، لكن الواقع يظهر أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة داعمة تعزز القدرات البشرية، إذ يخفف من أعباء المهام الروتينية ويسمح للمهنيين بالتركيز على أعمال أكثر تعقيداً وأهمية.
- تطبيق الذكاء الاصطناعي هو حدث لمرة واحدة: الحقيقة أن تطبيق الذكاء الاصطناعي في إدارة الجودة هو عملية مستمرة تتطلب مراقبة دورية وتحديثات دائمة للتكيف مع التطورات التكنولوجية واحتياجات العمل المتغيرة. ينبغي على قادة الجودة فهم أن دمج الذكاء الاصطناعي بنجاح في أنظمة إدارة الجودة يستلزم تخطيطاً دقيقاً واستثماراً مستمراً وجهداً متواصلاً، بعيداً عن التوقعات غير الواقعية أو المبالغة في قدرات الذكاء الاصطناعي.
إذا ما قطفنا براعم نقاشنا أعلاه، فسنعرف أن الذكاء الاصطناعي هو داعم أساسي ورافعة مهمة في مستقبل الجودة، وربما سيصبح جزءاً أصيلاً من مفاهيم الجودة المقبلة ونماذجها. وعلى محترفي الجودة أن يتعاملوا بوعي وفطنة مع هذا التغيير المقبل.