القاضي الأديب أشرف العشماوي: الأدب جعلني قاضياً رحيماً والقارئ العربي غول مخيف

13 دقيقة
أشرف العشماوي
(مصدر الصورة: هارفارد بزنس ريفيو، تصميم: أسامة حرح)

ملخص: على مدى 14 عاماً نجح القاضي المصري أشرف العشماوي في التوفيق بين عمله في القضاء واهتمامه بالأدب، فنشر عدداً كبيراً من الروايات، وحازت أعماله المترجمة إلى أكثر من لغة جوائز عدة. ويرى العشماوي أن الكتابة يجب أن تكون دون قيود، وأن محاولة إرضاء القارئ في أثناء الكتابة تفسد الفن، مشيراً إلى أن القصدية تقف ضد الإبداع. بدأ العشماوي مسيرته المهنية بالعمل في مجال الإعلانات والصحافة، لكن نزولاً عند رغبة والده، اتجه لدراسة القانون، واستمر في العمل بالقضاء لما يزيد على 34 عاماً. ويرى التحقيقات القضائية أشبه بشطرنج يتحدى فيه المجرمين، لكنه يولي اهتماماً كبيراً لتحقيق العدالة. في الوقت نفسه، يجد في الأدب مخرجاً من الضغوط اليومية، ويعتبر الكتابة نوعاً من اللعب والحرية. وعلى الرغم من نجاحاته المتتالية، يرى العشماوي أن الكتابة لا تتعلق بالمبيعات والشهرة بقدر ما تتعلق بإيصال الأفكار العميقة والتأثير في القارئ.

على مدار 14 عاماً، جمع القاضي المصري أشرف العشماوي بين مسيرته المهنية في مجال القانون والقضاء والحياة الأدبية النشطة، إذ أصدر 12 رواية و3 روايات قصيرة وكتاباً وثائقياً، حصدت جميعها جوائز، كان أحدثها جائزة "كتارا" في العام الماضي عن روايته "الجمعية السرية للمواطنين". وتمت ترجمة أعماله إلى 9 لغات ومن المقرر إضافة التركية والفارسية والهندية بنهاية العام الحالي.

لا يضع العشماوي لنفسه أي قيود حين يكتب، فإذا خاف لم يكتب، وهو يخاف القارئ بعد الكتابة، ويؤمن بأهمية تجاهله في أثنائها حتى لا يكتب بناءً على ما يطلبه القراء. ويقول إن القصدية ضد الفن وأنه لا يلوي الأحداث لإقحام ما يريد أو ما يطلبه الناس من تشويق أو جرعة سياسة زائدة. مثله الأعلى الصحابي علي بن أبي طالب، ويراه متفرداً بحكمته ومقولاته، أقرب إلى شخصية أسطورية ذات سيرة مبهرة على الصعيد الإنساني. ومن أحب مقولاته لديه حين يأتيه مدحٌ فيه مداهنة ونفاق: "أنا دون ما قلتَ ولكني أعلى مما في نفسك".

وفي الوقت الذي كنت أكتب فيه هذه المقابلة، وصلت روايته "بيت القبطية" للقائمة الطويلة لجائزة "بانيبال" البريطانية لأفضل الروايات العربية المترجمة إلى الإنجليزية، بعد فوزها العام الماضي بجائزة "بريتل بيبر" من جنوب إفريقيا للروايات الأكثر تأثيراً في الأدب الأفريقي.

هل عملك الحالي هو ما كنت تحلم به؟

أعمل منذ بداية دراستي الجامعية. كأن أول عمل لي في شركة إعلانات، وبعد تخرجي في كلية الحقوق عملتُ محامياً بناءً على رغبة والدي، لكنني لم أحب عملي. وبالتوازي، عملتُ في جريدة الأهرام في قسم الميكروفيلم لكنني كنتُ "مقيماً" في صالة التحرير. كان عملي في الأهرام فرصة للقاء أدباء وكتّاب ومفكرين أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس وأنيس منصور. أردتُ الاستمرار في مجال الصحافة وفي الإعلام وفي الكتابة ككل لأنني وجدت فيها الحرية، لكن والدي أصر على أن أسلك السلك القانوني للعمل بالقضاء أو المحاماة، وخبرة العائلة في هذا المجال تمتد إلى 100 عام. ونظراً لمتانة علاقتي به، لم أُرد إغضابه، ورضختُ بحبٍ لرغبته. بدأت العمل بالنيابة سنة 1990، ولم تكن مهنة تروق لي في البداية، ولكن سرعان ما أحببتها وبدأت أنظر إلى التحقيق على أنه لعبة شطرنج، أُلاعب فيها المجرم لنرى من أطول نفساً. وتعلمت كيف أُميز بين شهود الزور وشهود الحق. كما أحببتُ فكرة تحقيق العدل وتقديره أيضاً عند عملي بالقضاء. هذا العام سأكمل مسيرة دامت 34 عاماً في القضاء، و17 عاماً في النيابة ومثلها بالضبط في القضاء. وبالتأكيد ما كنت لأستمر في عملي لولا حبي له.

هل فكرت يوماً في الاستقالة؟

لقد فكرتُ كثيراً قبل ثورة يناير/كانون الثاني وفي أثنائها وبعدها بسبب الظروف السياسية وحالة البلد، ولكن بعد استشارة شيوخ المهنة نصحوني بالمقاومة والاستمرار ما دام باستطاعتي البقاء فاعلاً في موقعي.

ماذا عن دائرتك المقربة في الأدب التي تستشيرها في قراراتك؟

إنها ليست كبيرة، بل تضم 5 أو 6 أشخاص يمكنهم الاطلاع على العيوب الموجودة في النص وإبداء آرائهم قبل النشر، وتضم كتّاباً وروائيين ليست بيني وبينهم منافسة، بالإضافة إلى مخرجين ورسامين تشكيليين وأطباء وقرّاء نوعيين ولا تضم نقاداً.

ألا تعتبر الأدب مهنة أيضاً؟

الأدب هواية لا مهنة، ولا أعتبر نفسي أديباً أو كاتباً محترفاً. لا أحد يحترف في الفن، ومع الاحتراف تأتي القيود والالتزامات وهذا ما لا أحبه. الكتابة لعبة وأنا معها طفل لا يكبر. أكتب بالنهار حين يكون البيت هادئاً وتكون زوجتي وأبنائي في العمل أو الدراسة. ساعات الكتابة اليومية هي ساعات اللعب والمتعة والترويح عن النفس والخروج من ضغوط الحياة، وأسعد فيها بخلق العوالم والشخصيات وتحريكها بعفوية بعيداً عن العمل والقضايا والجدية المفترضة.

كيف استقبلت الأسرة قرارك بدخول عالم الأدب؟

أمي هي قارئي الأول وأكثر من شجعني، لكن فرحتي كانت منقوصة، فقد تعامل أبي بعدوانية مع الموضوع ولم يتقبل القرار قط. انزعج وظن أنني سأستقيل من القضاء لأصبح كاتباً. وكان شكه يرقى إلى درجة اليقين خاصة بعدما استقبلني الوسط الأدبي والجمهور استقبالاً جيداً، وبعد ترشّح روايتي الثانية "تويا" لجائزة "البوكر العربية" ضمن أفضل 13 رواية في العالم العربي، أخذ والدي يُسفّه من كتاباتي ونصحني من منظور قارئ بالتوقف عن الكتابة لأن ما ألقاه مجرد مجاملات بسبب مهنتي لدرجة أنه أحبطني وتوقفت بالفعل عن الكتابة لسنة كاملة.

قبل وفاة أمي، أسرَّت لي بأنه قرأ كل ما كتبته، وأنه أحب كتاباتي، لكنه خشي أن أترك عملي. واجهتُه بذلك بعد وفاتها فأنكر، ثم رحل بعدها بشهر حاملاً معه السر، لكنني أصدّقها.

أما أسرتي الصغيرة، زوجتي وأولادي فأعجبهم بالقرار وتحمسوا للأجواء.

ما هو اللون الأدبي الذي تكتبه؟

أكتب رواية واقعية؛ سياسية اجتماعية مستمدة من أحداث تاريخية ولا أكتب رواية تاريخية تتطلب الدقة واعتماداً أكثر على الحقيقة وأقل على الخيال، كما في روايتي "كلاب الراعي"، وبالتالي، لا يمكن تصنيفها على أنها رواية تاريخية. إن ظهور شخصية محمد علي باشا في الرواية هو انتقاء مني لشخصية وزمن معيّنين ثم تخيل للحوار وما أريده من هذه الشخصية في النص، أما الأبطال فكلهم من نسج الخيال.

ما هو سبب مصادرة "كلاب الراعي" إذاً؟

يبدو أنهم رأوا أنها غير مناسبة أو تحمل إسقاطاً سياسياً. واستمرت بالغياب عن الجمهور طوال 3 سنوات (2017-2020). لا أعرف سبب منعها ولماذا رجعت إلى الأسواق ولا أنشغل بما صدر عموماً. حدث الأمر نفسه مع روايتي "الجمعية السرية للمواطنين"، لكن الغياب استمر 3 أشهر فقط حتى فازت بجائزة "كتارا". وفي الواقع، بعض الروايات "على الحافة" تحتمل التأويل وكل واحد يقرأ ما يريد. أنا لا أقول قصدي كذا في المناقشات، ولكن أكتب كالرسام، لا أحد يسأله عن قصده من اللوحة بل يترك الخيال للناس.

إلى أي مدى يُسعدك أنك من الكتّاب الأكثر مبيعاً؟

كنتُ أفرح في البداية بالمبيعات والشهرة، لكنني اليوم أهتم برأي القارئ أكثر. فالمبيعات مؤشر على وجود الجمهور، لكن الأهم من ذلك، هو هل يجد هذا الجمهور ما يرضيه في كل كتاب جديد؟ أرى القارئ العربي غولاً مُخيفاً، لذلك، عندما أجد أنه ليس عندي ما أكتب عنه، فلن أنشر شيئاً وسأكتفي برصيدي القديم. نحن نكتب من أجل الخلود، من أجل قراءة أعمالنا كل عدة سنوات مثلما هي الحال مع نجيب محفوظ وخيري شلبي ويوسف إدريس. تناوُل القرّاء للحكاية التشويقية فقط لا يُشعرني بالرضا، وهي تظل فقط الطبقة الأولى التي أتمنى ألا يقفوا عندها. في النهاية، أحترم هذا القارئ وأحترم أيضاً القارئ النوعي الذي ينظر للبناء والفنيات واللغة والألعاب السردية والجماليات والفكرة وطريقة السرد.

في نهاية المطاف، الأفكار تتكرر. ويمكن لأي كاتب الكتابة عن الموت أو الحياة أو الحب أو الكره أو الانتقام. والسؤال هو كيف يكتب ومن أي زاوية يحكي وبأي وسيلة وبأي ضمير والثيمة وشكل النهاية وكيفية لملمة الخيوط. وعليه، أرى النقد والجوائز الأدبية عاملين مهمين، ليس فقط للتقدير المادي ولكن المعنوي أيضاً. روايتي "الجمعية السرية للمواطنين" من الروايات المحببة لقلبي وفوزها بجائزة "كتارا" كان تقديراً لي ولها بعد أن صممتُ على نشرها مع أنها ليست رواية جماهيرية. حدّثني بعد الفوز ناقد مغربي كان في لجنة التحكيم عن بناء الشخصيات قائلاً: "كأنك رسمت لوحة موازية بالكلمات مثل بطل الرواية الذي يرسم اللوحات". هذا يسعدني للغاية ويمنحني ما أحتاج إليه.

كيف يستقبل القاضي داخلك هجوم القراء؟

الطبخ والكتابة متشابهان في عدم القدرة على إرضاء الجميع. القاضي بداخلي كان مشكلة في مرحلة ما قبل النشر في أثناء عملي في النيابة وفي القضاء. في 2004، كانت لديّ 3 روايات جاهزة لكني تأخرتُ في النشر حتى عام 2010. كان بإمكاني النشر في دار ميريت أو حتى النشر ذاتياً ولم يكن الموضوع مكلفاً كما هو اليوم. ترددتُ حينها على أتيليه القاهرة (جمعية للكتاب والفنانين) وكنتُ رئيس نيابة. حضرتُ بعض المناقشات الأدبية فوجدتُ سُباباً وضرباً. فقلتُ لنفسي إذا شتمني أحد لأن روايتي لم تعجبه فبالتأكيد لن أسكت، وإذا فعلتُ شيئاً سيقول الناس إني أتحامى بمنصبي، ولهذا تراجعتُ عن فكرة النشر. أجّلتُ القرار عاماً بعد الآخر لأن القاضي بداخلي كان يقيّدني.

ما هو دور الحظ في حياة أشرف العشماوي؟

الحظ هو أخي التوأم، لو تخلى عني لما كنت على ما أنا عليه. الحظ هنا مجاز طبعاً. قد نُسمّيه تصريفات القدر أو يد الله الحانية وأسماء أخرى كثيرة، وكلها مترادفات. أرى أني محظوظ للغاية وأن الله أعطاني الكثير، وله الحمد.

كنتُ محظوظاً في النشر، فتواصل معي أكبر 3 ناشرين في عام 2010 بعد لقائي أنيس منصور وتزكيته لي بأني كاتب جيد واخترتُ أنا منهم ناشري الحالي. أنا أيضاً أنشر ما أكتب دون تدخل من أحد ولم يحدث أن قال أحد لي هذا ضد سياسة الدار مثلاً. محظوظ أيضاً بمناخ النشر نفسه، فعلاقتي بناشري طيبة، كما أنني من الكتّاب الأكثر مبيعاً على الرغم من أني لم أعد أحب هذا التصنيف الذي صار هدفاً للهجوم وكأن الكاتب الجيد هو الذي لا يقرأ له أحد. أنا محظوظ بالقراء وبمحبة الناس ومحظوظ بالأفكار فنشرتُ أكثر من 10 روايات في 10 سنوات ومحظوظ بوقوع رواياتي مع لجان تحكيم أحبتها لأن هناك روايات جيدة لا تفوز بسبب ذائقة المُحكمين.

يختصر الحظ سنوات المعاناة وتثبيت الأقدام تحت الأضواء لأن الموهبة وحدها لا تكفي. لذلك، أحاول مساعدة الكتّاب الشباب في النشر وفي تزكية أعمالهم الجيدة لأن مَن لا يتمكن من الوصول وهو موهوب يتعرض لإحباط شديد ويتحول لقنبلة موقوتة في المجتمع.

كيف تصف واقع المحترفين في الوسط الثقافي والوسط القضائي؟

في الأدب، هناك كُتّاب لا يعرفهم الكثيرون لأنهم قليلو الظهور ولديهم حياء رهيب ورهاب منصة مثل محمد المخزنجي الذي أعتبره من أفضل كتّاب مصر والوطن العربي خصوصاً في النوفيلات والقصص القصيرة. وفي القضاء أيضاً، هناك شيوخ المهنة ممّن يعملون مثل راهب في محراب القضاء ولا يهتمون بالإعلام أو الظهور. تجدين بين الكُتّاب من يهتم بالصورة أكثر من المضمون.

ومع ذلك، الاختلاف بيّن؛ فالقضاء مليء بالقيود حتى في لغته. لغة كتابة الأحكام تخلو من التجريب الموجود في الروايات، كما تخلو من اللهجة العامية والحوار. هناك نمط واحد نعمل وفقه وفي حال مخالفته يتم نقض الحكم ويكون مثار استنكار. وطبيعة العمل لا تسمح بالتجديد، فالقانون إطار من القواعد الجامدة يتجلى الخروج منها في التقدير الإنساني للحُكم أما الفن فحرية وحياة.

ما هي حقيقة عرض منصب حكومي عليك؟

قبل 5 أو 6 سنوات عُرض عليّ منصب وزير الثقافة واعتذرت، فالمناصب لا تغريني. لا أقدر أن أكون وزيراً يدير مرفقاً يضم 44 ألف موظف و18 هيئة كلٌ منها له رئيس بصلاحيات وزير. السبب الآخر أني سأضطر إلى التوقف عن النشر لتعارض المصالح ووجود شبهة مجاملة فيما أكتب، وإذا توقفت عن الكتابة فهذا يعني أن حياتي انتهت. لن أكرر تجربة يوسف السباعي الذي جمع بين الوزارة والكتابة. في وقت آخر عُرض عليّ منصب محافظ القليوبية ورفضت أيضاً. أُفضّل أن أكون كاتباً ليس إلا.

ما هي اللحظات الفارقة في حياتك المهنية أو الأحداث التي شكّلت محطات تغيير في حياتك؟

أحداث كثيرة شكّلت وجداني وأفكاري. أولها عملي وكيل نيابة في سن الثالثة والعشرين. كنتُ أول مرة أشاهد جثثاً وأُقلّبها لأتبين سبب الوفاة. لا أنسى أول مرة شهدتُ فيها حالة إعدام واللحظات الأخيرة بين الحياة والموت لرجل يرتدي الأحمر ولا يقدر على السير. حدث هذا في أول شهر بعد التعيين. ليلتها لم أنم خوفاً من عدم اللحاق بالموعد. أردتُ مقارنة الواقع بما أجده في السينما وعرفتُ أن دراما الحقيقة أكثر من دراما السينما. وكيل النيابة في عملية الإعدام مثل المخرج في موقع التصوير، هو المسيطر على المسرح. وهو مَن يعطي إشارة الإعدام وتلقين الشهادة. ترتيب الأحداث كله يقع على عاتقه وكلمته هي الأولى والأخيرة. وأذكر عندما سألتُ الرجل عما يتمناه قبل الإعدام، رد بأن أقرأ له الفاتحة فشعرتُ بالتعاطف.

حققتُ مع عصابات وقطاع طرق وقتلة محترفين ومتسلسلين ولصوص مساكن وتجار مخدرات. في النهاية، التحقيق غير هجومي؛ هدفه هو فهم المتهم. قضايا الإرهاب الكبرى أيضا تركت فيّ أثراً قبل أن أعتادها. كنتُ في البدايات أخاف من فكر المتطرفين ومن طرق التنفيذ. كنتُ في العشرينيات من العمر ومهما قرأت عن التطرف لم أستوعب أني أحقق مع أمثال هؤلاء وأسمع أفكارهم وهم مقتنعون بها تماماً.

في بعض الأحيان، تطول مدة التحقيق، ما يأتي بأُلفة وارتياح فيحكي لي المتهم وتبدأ معه علاقة إنسانية لا أعرف لها وصفاً. لكن في النهاية، أنا محقق وسأقف ضد مَن أحقق معه في المحكمة، وقد ينال عقوبة الإعدام أو حُكماً بالسجن مدى الحياة بسبب أفكار هو ضحيتها. أنا ضد التعميم لكن أغلبهم كانوا ضحايا، والتقييم ليس سهلاً لأن المجتمع متهم في أحيان كثيرة وهو من أوصلهم إلى هذا للأسف. بالطبع كانت لديهم فرص نجاة لكنهم لم يستثمروا فيها بسبب الثقافة والفكر والظروف. دخول السجن أيضاً في بعض الأحيان لم يساعدهم أو يُصلحهم بل تعلموا فيه المزيد من الجريمة. عملي في ذلك الوقت كان له تأثير سلبي عليّ ووجدتُ في الكتابة الخلاص، أخرجتُ فيها كل الطاقة السلبية والإحباطات التي شعرت بها، ولولاها ما كنتُ لأُكمل لأن الموضوع صعب نفسياً.

هل شعرت يوماً بالندم لأنك ظلمتَ أحداً؟

لا، لم أشعر بأني ظلمتُ أحداً ولم يجبرني أحد على قرار لستُ مقتنعاً به. قانون النيابة تبعيته تدرجية رئاسية ما يعني أن عليّ تنفيذ ما اتخذته الرتبة الأعلى من قرارات، ومع ذلك كنتُ أناقش ما لستُ مقتنعاً به، وإذا فشلتُ في الوصول إلى ما أريده، أكتب: "بعد العرض على النائب العام أو رئيس النيابة أو المحامي العام، قرر سيادته الآتي" وأكتب قراره، أما قراراتي فأكتُب فيها: "قررنا". كانت نصيحة أبي ألا أتحمل مسؤولية غيري لأن التاريخ يحاسب والتاريخ هو السجلات والسجلات هي التحقيقات والقضايا ولهذا يجب إثبات ما حصل. ربما اتخذتُ قراراً خاطئاً بناءً على معطيات خاطئة في وقتها دون أن أعرف أنها خاطئة، لكنني لا أظن أني ظلمتُ أحداً. ليس لدي تأنيب ضمير ولا أشعر بالندم.

ما هي الفائدة التي تستخلصها من تجربتك في الأدب وعملك في القضاء؟

الأدب جعلني أكثر إنسانية وقاضياً أكثر رحمة يتفهم الظروف ويميل إلى تخفيف الأحكام. أجمل ما في القضاء سماع كلمة "يحيا العدل"، نظرة الرضا في عيون المجني عليه أو أسرته بعد الحكم، ونظرة القبول في عيون المتهم لأنه مهما أنكر فهو يعرف ما فعله. حينها أشعر بالرضا. الأسوأ هو القيود بالطبع. لا أستطيع التصريح بأي آراء سياسية. ظهوري في الإعلام صعب ويتطلب الأمر إذناً. كنتُ أكتب مقالات حتى الثورة لكن بعد 2013 توقفت، وأنا أحب أن أجعل يدي دافئة عبر مقال أسبوعي. أُعوض كل هذا في الروايات فألجأ للإسقاط والزمن التاريخي أو للرمزية أو للفانتازيا وأصنع غابة حيوانات حتى أجد مخرجاً. بالإضافة إلى ذلك، ينظر المجتمع نظرة متحفظة للقاضي، وأنا لا أحب أن أُوضع في أُطر وقوالب. فالصورة مختلطة عند الناس فيظنون أني أكتب القضايا. أما في الأدب، فالتنافسية عيب كبير في الوسط الثقافي لأنها تتحول إلى هجوم على شخص الكاتب بسبب الغيرة الأقرب للحسد لا الغيرة الفنية. تؤدي الشللية أيضاً إلى إفراز كتابات سيئة بعد أن تسود المجاملات.

ماذا يشغلك أو يؤرقك في مهنتك وحياتك؟

في المهنة تشغلني قلة عدد القضاة نسبة إلى عدد السكان؛ هناك 20 أو 30 ألف قاضٍ على الأكثر لـ 105 ملايين مواطن. كم القضايا ضخمٌ على شخص واحد وكلما نظر القاضي في قضايا أقل أولاها عناية أكبر وقلّ شعوره بالإرهاق. أنا أشعر بالإرهاق وشعوري يزداد مع تقدم السن. القوانين أيضاً بحاجة إلى النظر والتنقيح. لا يصح أن نحكم في سنة 2024 بقانون يبدأ بـ "نحن فاروق الأول ملك مصر والسودان"، ولا بقانون يقول: "من سمح بتسيير دواب يُعاقب بخمسة جنيهات غرامة"، فضلاً عن بعض العقوبات المبالغ فيها والحدود الدنيا والقصوى والتباين الشديد بينها مثل أن تتراوح العقوبة بين سنة إلى 15 سنة.

في الأدب أكثر ما يزعجني هو التزوير، كتبي من الأكثر تزويراً، وهي تُزَوّر في يوم صدورها نفسه وهذا يضر بصناعة النشر. ربما الكاتب هو أضعف حلقة في السلسلة كلها لأنه قد يحصل على مستحقاته مقدماً من الناشر لكن الصناعة ستنهار بهذا الشكل. حتى عندما أصدر ناشري طبعة اقتصادية أقل جودة لروايتي "البارمان"، زُوّرَت. لا أدري ماذا ينقصنا لنتحرك ضد المزورين، لدينا إدارة للملكية الفكرية في وزارة الداخلية، وهناك محكمة اقتصادية معنية بهذه القضايا، مع العلم أن حل المشكلة يكمن في مصادرة ماكينة الطباعة التي يصل سعرها إلى أكثر من مليوني جنيه (أكثر من 40 ألف دولار) كما يحدث مع ماكينة تزوير النقود بدلاً من الغرامة البسيطة التي يدفعها مزور الكتب إذا تم كشفه. أنا محبط ويائس تماماً.

يشغلني أيضاً ما سأكتب عنه بعد العمل الذي نُشر. بعد كل رواية تصدر أجلس أمام الصفحة البيضاء كأني أكتب لأول مرة. هذا الشعور مخيف، أشعر بأنه سيأتيني في مرة ولن يتركني. أشعر أيضاً بأني سأموت قبل إنهاء الرواية التي أكتبها لهذا قبل تسليم العمل للناشر أضع في الدرج فكرة الرواية المقبلة وكأني أقول لله إن لديّ ما أكتبه فدعني حتى أنتهي منه. أعلم أنها حركة طفولية لا تخضع للمنطق لكنها تريحني.

وأخاف أيضاً من مرض آلزهايمر. أخشى الإصابة به كما الكثير من الكتّاب. إن فكرة نسيان ما كتبت أو جلوسي لأشاهد أشرف العشماوي وأنا لا أعرف أنه أنا ترعبني.

في الحياة عموماً، تؤرقني أخلاق الناس في الشارع. المصري معروف بالشهامة وخفة الدم والظرف والذكاء، لكن اليوم صارت الأخلاق قشرة فاسدة ناتجة عن 30 عاماً من تثبيت الصورة خلال حكم مبارك. أنا أحب السير في الشارع ومراقبة الناس لأغراض الكتابة. اليوم الشارع مخيف ولا أشعر فيه بالارتياح بل أنا متوجس دوماً ومتأهب لمشكلة. يزعجني كذلك المدح الإعلامي المبالغ فيه لتسويق منتجات سيئة في أي مجال أصحابها من فاقدي الموهبة بسبب الشللية أو المصالح. تكمن الخطورة في اعتياد ما يقدمه هؤلاء واعتباره فناً، ما يمثّل جريمة في حقنا وحق الأجيال المقبلة.

كيف تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي وهل تعتبرها وسيلة للمعرفة؟

لقد سهّلت هذه المنصات قياس ردود الأفعال والآراء مقارنة بالماضي حيث كنا نترقب شهوراً في انتظار ندوة أو مقالة ناقد أو حوار تلفزيوني، لكنها ليست وسائل معرفة. أنا أرد على الرسائل الخاصة إذا تعلقت بكتاباتي ولا أدخل في جدالات ولا أرد على أي هجوم وأشعر بخجل غريب عند الرد على تعليقات القراء في مجموعات القراءة. أما المعرفة فمصدرها الكتب والمراجع والأفلام الوثائقية والأرشيف الصحفي. أحرص على الاقتراب من المفكرين والأدباء الكبار وغيرهم ممن لديهم فلسفة في الحياة في الصالونات والجلسات المختلفة وربما صرنا أصدقاء. هؤلاء أستفيد منهم معرفياً بدرجة كبيرة.

بيعت معظم أعمالك لتتحول إلى أعمال سينمائية، ولم نشاهد أياً منها بعد، لماذا؟

في ظني الرقابة هي المشكلة. ليس لدي أي دليل على أي حال، ويجب سؤال شركات الإنتاج عن هذا. لدي وكيل أدبي ولا أتعامل مع المنتجين مباشرة. روايتي "بيت القبطية" مثلًا أخذت حقوقها المنتجة الراحلة ناهد فريد شوقي واتفقت مع السيناريست عبد الرحيم كمال والبطولة كانت لأحمد أمين وناهد السباعي، والرقابة وافقت ثم تراجعت وتوقف العمل بعد ذلك. الرقابة على السينما صعبة، والشخص المسؤول عن الرقابة غير مرن والنتيجة: أعمالي لا تظهر لكنها مباعة. لا أدري لِمَ يشتريها المنتجون إن كانت لا تخرج للجمهور. أتمنى أن أرى أيّاً منها على الشاشة، أو أسمعها حتى في الإذاعة، سأكون سعيداً. أنا من محبي الراديو وأهديتُ الإذاعة روايتي "تذكرة وحيدة للقاهرة" مجاناً لكن الرقابة لم تُجِزها أيضاً والرفض جاء دون حيثيات فلا أملك أي تفاصيل.

كيف تنظر إلى حياتك بعد التقاعد وما هي أحلامك المستقبلية؟

التقاعد في القضاء في سن السبعين؛ أي ما زال أمامي أكثر من 10 سنوات. لا أخطط لشيء ولا أعرف إن كنتُ سأُكمل المدة أم غير ذلك. أنا قدريٌ بعض الشيء أقضي اليوم بيومه وأُفضّل تدابير الله المدهشة. مفاجآت الحياة هي ما يجعل للدنيا مذاقاً، لكن عموماً، تنظيم الوقت مهم جداً وأنا لا بد أن أشغل وقتي. لستُ ممن يجلسون فارغين دون عمل شيء. أما أحلامي، فأحدها أن أكون موجوداً بكتاب واحد على الأقل في كل بيت في العالم بأكثر من لغة. حلمٌ آخر هو أن أقدم شيئاً جديداً للقارئ ليس فقط في البناء والتجريب بل هو تقديم فكرة جديدة بطريقة مختلفة. إدهاش القارئ هو ما يشغلني أكثر من التجريب القاصر على شكل الكتابة.

ألا تفكر في جمع مقالاتك القديمة في كتاب؟

لقد كتبت نحو 500 مقالة، ربما أنشرها في كتاب عندما أُفلس فكرياً. وقتها أيضاً سأكتب عن القضايا التي رأيتها أو أكتب مذكراتي، وقد يستغرق الأمر عامين أو ثلاثة وستكون هذه الخاتمة. أنا مقتنع أن الكتّاب لا يستطيعون الكتابة حتى آخر لحظة في حياتهم. نجيب محفوظ استثناء تماماً مثل محمد صلاح في كرة القدم. هناك ظواهر لا تتكرر، والطبيعي أن يأخذ كلٌ منّا وقته ثم تقلّ الأفكار بعد ذلك وتترهل الكتابة. أظن أن هذه الفترة تقترب. هناك كتابات جيدة لشباب واعد وكأن جيلاً يسلم الجيل التالي. أنا سعيد وراضٍ عن المسيرة، فقد أخذتُ حقي من الشهرة وتركت كتباً جيدة.

كيف ترى علاقتك بالمال؟ هل تجيد الادخار أو الاستثمار؟

علاقتي بالمال علاقة أحادية الاتجاه، فأنا أُطبق فيها نظرية "الكف المخروم". ليس عندي حب امتلاك والمال الذي عندي أنفقه. لا أمتلك شيئاً عدا سيارتي، ولا أملك أرضاً، وبيتي كان بيت أبي وهو إيجار. وما أكسبه من الكتابة أنفقه في عيش حياة أفضل أنا وأسرتي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي