ملخص: من السهل أن تقع المؤسسات فريسة لما يسميه الخبراء "قِصر النظر الاستراتيجي"، فتعطي الأولوية للجوانب العاجلة والمثبتة والسهلة القياس، ولا سيّما في فترات التغيير الكبير. لتجنب ذلك، يتّبع القادة الناجحون 5 مبادئ؛ أولاً، يرفضون اتّباع المؤشرات الخاطئة والمضللة، ويدركون أن المشاريع الجديدة التي تحل المشكلات المستقبلية تكون دائماً أقل كفاءة في البداية مقارنة بالمشاريع القائمة. ثانياً، يركزون على احتياجات عملائهم لا على ما ينتجونه حالياً. ثالثاً، يعلمون أن التوصل إلى استراتيجية محكمة أمر لا يمكن التهاون فيه، ويحرصون على إشراك الأشخاص المناسبين في صياغتها. رابعاً، يدركون أن حل المشكلات الكبيرة يتطلب البدء بحلول صغيرة. خامساً، يركزون على الأسئلة المهمة لا على الإجابات الصحيحة.
أمضينا قرناً كاملاً في إنشاء مؤسسات فعّالة، وأنشأنا شركات ذات حجم كبير تعمل على تحويل اقتصادنا وخلق الثروة، وهناك عشرات الشركات التي أصبح حجمها يفوق حجم اقتصادات دول بالكامل. لقد حولت جهود التحسين والإدارة الذكية منتجات كانت تبدو في البداية مستحدثة، مثل السيارة أو الهاتف أو أجهزة الكمبيوتر الشخصية إلى أعمال تجارية ضخمة، وكان جوهر هذا التحرك نحو التقدم هو التركيز على توفير الراحة والكفاءة. وهي جهود قابلة للتنبؤ والإدارة لتحقيق الاستقرار والربحية.
لكن تحسين عمل الأمس ليس مفيداً إذا كان العالم في تغير مستمر؛ فعندما نركز على تحسين فعالية الخطط الحالية نضيّع حتماً فرصة تطوير استراتيجية جديدة تلائم الظروف المستجدة. عندما كانت شركة ياهو في أوج نجاحها كان بإمكانها شراء محرك البحث جوجل الذي كان يقدم نهجاً مختلفاً تماماً في استخدام الإنترنت، ولكنها فضلت بدلاً من ذلك استثمار أموالها في زيادة تطوير بوابة ياهو كيدز (Yahoo Kids) المخصصة للأطفال. وقبل ذلك بفترة طويلة سنحت لشركة ويسترن يونيون (Western Union) فرصة شراء نظام شركة بيل (Bell) للهاتف، لكنها فضلت الاستثمار في تسهيل استخدام البرقيات وجعلها أرخص.
هذان مجرد مثالين عن "قِصر النظر الاستراتيجي" (Strategy Myopia)، الذي يتمثل في إعطاء الأولوية للجوانب العاجلة والمثبتة والسهلة القياس ويدفعنا إلى تنفيذ خطط موثوقة بدلاً من الإقبال على الفرص والاحتمالات المتاحة.
ينبع جانب من قصر النظر هذا من تصورنا للاستراتيجية الجديدة وما نتوقعه منها؛ يجب أن ندرك أن الاستراتيجية ليست خطة، فالخطة قد تتضمن ضمانات تؤكد أنك إذا اتّبعت هذه الخطوات أو تلك، فستنجح في تحقيق أهدافك. في المقابل تنطوي الاستراتيجية على مبدأ عدم اليقين واحتمالية الفشل، وهي فلسفة تحول وفرصة لخلق الظروف التي تمكّن التغيير الذي نريد إحداثه في هذا العالم.
عندما يطلب المدير استراتيجية مؤكدة وتتضمن براهين النجاح، فقد نكتفي بصياغة مجموعة من الأعمال والمهام والأساليب، وهي تختلف عن الاستراتيجية المحكمة والمرنة. في المقابل يتطلب إعداد الاستراتيجية بأسلوب صحيح أن نستند إلى الاحتمالات والفرص.
من السهل أن نقع فريسة لقصر النظر الاستراتيجي، ولا سيّما في وقتنا الحالي الذي تسوده تغييرات تكنولوجية كبيرة، ولتجنب هذه المشكلة أعتقد أن القادة الناجحين يتّبعون المبادئ الآتية:
1. رفض المؤشرات الخاطئة والمضلّلة
ما الذي يحول مشروعاً أو سوقاً جديدة إلى قطاع؟ إنه الجمع بين توفير الراحة والكفاءة. يساعدنا توفير الراحة على تلبية الاحتياجات الواضحة للعملاء الحاليين، ووضع المنتج المناسب في المكان المناسب. وتسمح الكفاءة بخفض التكاليف وتبنّي الأتمتة، ومنح الإدارة وسيلة لزيادة الأرباح.
ولكن المشاريع الجديدة التي تحل المشكلات المستقبلية تكون دائماً في البداية أقل كفاءة من المشاريع القائمة، لنتأمل مثال شركة أمازون؛ إذ خسرت خلال سنواتها الأولى أموالاً في أغلب الكتب التي شحنتها، لكنها واصلت العمل لأنها كانت تزرع بذور قطاع فعّال كانت على يقين بأنه سيواكب نشاطها لاحقاً.
غالباً ما يفضل القادة المقاييس الملموسة التي يسهل قياسها ومقارنتها، لكن الاستراتيجية المفيدة تبدو دائماً في البداية غير ملائمة وغير فعالة، وهي ترتكز في الحقيقة على فكرة مفادها أن الأمر الصعب الآن سوف يصبح أسهل بمرور الوقت.
فقد كان شراء سيارة مثلاً استثماراً محفوفاً بالمخاطر عندما كانت الطرق المعبدة قليلة، ولم تكن هناك محطات وقود يسهل الوصول إليها، لكن رواد هذا القطاع كانوا على يقين بأن البنية التحتية سوف تواكب تطور السوق لأن الحاجة إلى وسائل النقل كانت هائلة.
2. اختر عملاءك واختر مستقبلك
نقع فريسة لقصر النظر الاستراتيجي عندما نفشل في تحديد العملاء الذين نسعى إلى خدمتهم، ونركز بدلاً منهم على المنتج الذي نسعى إلى إنتاجه؛ وفي هذا السياق يمنحنا التعاطف ميزة استراتيجية.
يستند التركيز القصير المدى على الجوانب التكتيكية إلى الماضي؛ يمكننا أن نتمسك بالآلات والعمليات القائمة فعلاً وأن نعمل على زيادة الأصول التي نمتلكها. أو يمكننا تصور احتياجات العملاء وتلبيتها بالتوازي مع تغير العالم.
كانت مختبرات جوجل رائدة في مجال النماذج اللغوية الضخمة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي (LLM)، لكن الشركة اختارت التمسك بمحرك البحث القائم بدلاً منها. وفي حين ركز منافسوها على معرفة الرغبات المحتملة للمستخدمين، اعتقدت شركة جوجل أنه بإمكانها فرض ما تريده عليهم.
يبدأ تعاطفك مع العملاء بالتواضع من أجل الاعتراف بأنك لا تعرف حقاً ما يعرفه الآخرون، ولا ترغب فيما يرغبون فيه، ولا تؤمن بما يؤمنون به، ولا بأس من الاعتراف بذلك. وإذا لم تكن مستعداً للانتقال إلى العمل على المنتج الذي يريده عملاؤك، فمن المرجح ألّا يهتموا كثيراً بتبني المنتج الذي تهتم به أنت.
3. اختر فريقك
عندما حوّلت نتفليكس استراتيجية عملها من التركيز على أقراص الفيديو الرقمية إلى خدمات البث المباشر عبر الإنترنت، اتخذ قائدا الشركة ريد هاستينغز وتيد ساراندوس قراراً جريئاً، ولم يُشركا أيّ موظف من قسم أقراص الفيديو في اجتماعاتهما. وعلى الرغم من أن هؤلاء الموظفين كانوا يحققون أرباح الشركة بالكامل، فقد علم القائدان أن التنازلات التي سيطلبونها (لحماية أعمالهم الأساسية) ستؤدي إلى فشل الاستراتيجية الجديدة.
لن تتمكن من وضع استراتيجية محكمة بتقديم التنازلات، كما أن الاستراتيجيات الفعالة تأتي من الفِرق الصغيرة والأفراد الذين يتمتعون ببعد النظر، لا من اللجان الكبيرة. قد تستهوينا فكرة دعوة أصحاب السلطة والصلاحيات الإدارية في المؤسسة للمشاركة في تطوير استراتيجياتنا، لكن هذه الخطوة القصيرة النظر سوف تؤدي على الأرجح إلى تضخيم فكرة الدفاع عن التكاليف الغارقة.
بدلاً من ذلك، يمكنك اختيار موظفين يتمتعون بمجموعة متنوعة من المهارات والمواقف والسلوكيات مثل:
- الموظفون البارعون في ممارسة التعاطف، والحريصون على تحديد احتياجات الجمهور وتوضيح رغبات العملاء الذين تسعى الشركة إلى خدمتهم وتعزيزها. ليس من الضروري أن تكون طفلاً صغيراً لتصمّم دمية، أو ناجياً من مرض السرطان كي تصبح طبيب أورام، لكن المطلوب منك هو أن تلتزم بالاهتمام بما يراه الآخرون ويرغبون فيه.
- الموظفون الذين أثبتوا مهاراتهم في المجالات التي يمكن للشركة العمل عليها، ولا سيّما الذين ينجزون أشياء يقول الآخرون إنها مستحيلة.
- الموظفون الذين لديهم شغف بنظرية الألعاب وتخطيط السيناريوهات.
- مدراء المشاريع الناجحون.
ما دامت الاستراتيجية تمثل فلسفة التحول والتطور فعلينا أن نبحث عن موظفين متحمسين لبناء شيء غير مسبوق.
4. المشكلات الكبيرة تتطلب حلولاً صغيرة
ترغب المؤسسة الناجحة ولكنها تعاني مشكلة قصر النظر الاستراتيجي في إطلاق خدمة أو منتج جديد يكون مصقولاً وموثوقاً على غرار منتجها أو عرضها الأساسي، لكن القطاعات الجديدة كلها بدأت بحل غير فعال ويعمل بصعوبة ويخدم عدداً قليلاً من العملاء؛ لذلك فالجهد الحقيقي المطلوب يكمن في تهيئة الظروف للتقدم، وليس في تحقيق الكمال أو إطلاق منتج مثالي.
قبل 20 عاماً، لم تكن بدائل الحليب التي سوّقتها الشركات بكميات كبيرة لذيذة، لم يمثّل ذلك مشكلة إذ لم يكن هذا المنتج موجهاً لمستهلكين يرغبون في نكهات لذيذة، بل كان مخصصاً لمن يبحثون عن بديل للحليب. بمرور الوقت، وبعد تعاقب أجيال كثيرة من المنتجات، نمت صناعة حليب الشوفان وحليب اللوز بمعدلات مضاعفة، ومن شبه المؤكد أن هذين المنتجين سوف يتفوقان على منتج الحليب العادي قبل نهاية العقد الحالي.
ابحث عن أصغر سوق ذات جدوى، وليس عن أكبر سوق ممكنة. إذا تمكّنت من إسعاد 500 شخص إلى درجة أنهم أصبحوا يجلبون أصدقاءهم معهم لشراء منتجك أو خدمتك، فسيبدأ التغير في نظام السوق. إننا نقضي الكثير من الوقت في مجموعات التركيز ودراسات الجدوى، ولا نقضي وقتاً كافياً في وضع الحلول بين أيدي العملاء.
ستسمح كل شركة تنتظر حتى تصبح فئة جديدة من المنتجات مثبتة وناجحة للخوف والوضع الراهن بتقويض فرصها المستقبلية.
5. ركز على طرح الأسئلة المهمة لا على الإجابات الصحيحة
لتجنب قصر النظر الاستراتيجي، ابدأ بالبحث عن المشكلات؛ فهي تتطلب حلولاً، والحلول تتحول إلى مشاريع، والمشاريع تتحول في نهاية المطاف إلى قطاعات.
خذ مثلاً رياضة بيكل بول (pickleball) (رياضة تجمع بين بعض عناصر التنس وتنس الطاولة والريشة الطائرة)، إذ تمثل جواباً للسؤال: ما هي الرياضة التي يرغب فيها كبار السن الذين يجدون صعوبة في ممارسة رياضة التنس؟ ويجيب عرض شركة واربي باركر (Warby Parker) عن سؤال: كيف سيشتري أبناء الجيل الجديد نظاراتهم؟ تحيط أسئلة كثيرة بنا، وربما لن تنفد أبداً.
عادة ما تبدأ الأسئلة المثيرة للاهتمام بالأنظمة السائدة وعوامل التغيير.
وغالباً ما تكون الأنظمة غير مرئية بل مدمجة في الثقافة السائدة، وهي تنشأ عندما يحتاج البشر إلى التفاعل فيما بينهم في مجالات مثل التجارة والمعاملات والتواصل من أجل تنظيم سلوكياتهم وضوابط عملهم.
تسعى هذه الأنظمة جاهدة للثبات والاستمرار على حالها، ولكن عندما تتغير التكنولوجيا أو طرق التواصل يتولّد ضغط لتغيير هذه الأنظمة قد يرتبط بعوامل متعددة تتعلق بالجيل الجديد أو بظهور طريقة تواصل حديثة أو ابتكار طبي غير مسبوق، فيؤدي إلى زعزعة النظام السائد وخلق مشكلات وفرص جديدة.
إليك مثالاً بسيطاً على ذلك. غيّر اختراع السيارة مجال النقل وأدى إلى تحولات ثقافية، منها حاجة المسافر إلى مكان مريح وصحي لتناول الطعام في أثناء سفره خارج المدينة. هذه الحاجة استجاب إليها رجل اسمه دانكان هاينز عندما أطلق علامته التجارية المتمثلة في دليل إرشادي مخصص لهؤلاء المسافرين، ثم تطورت هذه العلامة لتقدم خدمة التوصية بأماكن الإقامة والمبيت والإحالة إليها، قبل أن تنتقل هذه العلامة أخيراً إلى تقديم خلطات وجبات صحية وغير مكلفة يمكن تناولها في البيت.
يبدو أن السؤال الذي طرحه دانكان هاينز كان واضحاً حينها: "كيف ستغير السيارة طريقة الأكل؟" وربما طرح هذا السؤال هو الذي فتح الباب أمام البحث عن الجواب.
في دراسة مستمرة حتى الآن حول موضوع تنفيذ الاستراتيجيات، وجد الباحثون مراراً أن القادة يمضون عادة أقل من يوم واحد شهرياً في العمل على استراتيجية المؤسسة ومناقشتها. والسبب المرجح هو أن التركيز على الخطط والأداء أسهل من التركيز على الاستراتيجية التي تبدو عملاً نظرياً غير ملموس، في حين يرى القادة أن هناك "عملاً حقيقياً" يجب إنجازه الآن.
لكن إذا كنت تسير في الاتجاه الخاطئ فلا قيمة للسرعة التي تسير بها، وهذا ما حذّر منه كثير من خبراء الاستراتيجية على مدى سنوات طويلة.
لذلك أدعوك إلى العمل على تطوير استراتيجيتك اليوم، وبإمكانك أن تنجز الخطط غداً.