ملخص: قبل نحو 25 عاماً، أصدر الكاتب الشهير مالكوم غلادويل كتاباً يتحدث فيه عن نظرية تُساعد في مكافحة الجريمة، مشبهاً إياها بالأخطاء التي تنتشر كما ينتشر الوباء، لذلك فالشرطة بحاجة لفرض الحجر على كل شيء يشتبه بأنه سيؤدي لوقوع جريمة. لكن غلادويل عاد ليظهر منذ أيام ويقول أنه كان مخطئاً وأن مكافحة الجريمة لا تتم بهذه البساطة، بل تحتاج عملاً متراكماً على كافة الأصعدة. يسلّط المقال الضوء على الأسس التي اعتمدها غلادويل في صياغة نظريته ولماذا عاد مُعتذراً والأهم من ذلك إبراز الشجاعة للاعتراف بالأخطاء التي نقترفها.
لا أدري كيف يمكن أن تفهموا اعتذار الكاتب الشهير مالكوم غلادويل، ولكنه اعتذر فعلاً عن أهم جزء من كتابه الأول والأهم "نقطة التحول". لقد اعتذر، واعتبر أن ما ورد في هذا الجزء كان خطأ. لقد فهم غلادويل أن مكافحة الجريمة أو الخطأ تبدأ بمكافحة الشرطة لكل شخص أو تحرّك مشبوه من أجل منع الجرائم في مهدها. لقد كان مقتنعاً بأن الأخطاء تنتشر كالوباء، لذلك فإنها تحتاج إلى فرض الحجر على كل شيء يشتبه في أنه يؤدي إلى هذا الخطأ أو الجريمة.
لقد نشر مالكوم غلادويل طريقة فهمه لهذا الموضوع، في كتابه الصادر قبل 25 عاماً، ومنذ ذلك الحين اعتمدت الشرطة في مختلف أنحاء العالم نظريته وأشاد بها سياسيون مثل دونالد ترامب، لكنه اليوم يعلن أنه كان مخطئاً، فقد اكتشف أن الشرطة التي تبنّت نظريته في منع الجريمة في مهدها من خلال مكافحة أي اشتباه بالغت في سحب الناس من الشارع وتفتيشهم وقتل بعضهم نتيجة اشتباه لا أساس له، كما حصل في قضايا أميركية كثيرة، ومنها جورج فلويد الذي راح ضحية لمجرد الاشتباه به.
النظرية التي استند إليها غلادويل في كتابه مأخوذة من عالمين مشهورين في علم الجريمة هما جيمس ويلسون وجورج كلين، واسم النظرية هو نظرية النافذة المكسورة. هذه النظرية التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي، نصّت على أن وجود نافذة مكسورة في شارع أو سيارة سيؤدي إلى مزيد من التخريب في السيارة أو المكان، لأنه سيخلق بيئة مشجعة على الجريمة أو ارتكاب المخالفات. لقد استنتج ويلسون وكلين أن الجريمة هي نتيجة لسلسلة من الأحداث التي تبدأ بالفوضى، أو أي سلوك مخالف مهما كان صغيراً، مثل الخربشات التي يكتبها بعض الأطفال على الجدران. وكان غلادويل يستشهد بالقصة الشهيرة لحاكم نيويورك الذي تمكّن في عام 1996 من تنظيف نيويورك من الجريمة باتباع سياسة تمنع الخربشات على الجدران.
مؤخراً ظهر غلادويل في تيد توك وفي مقابلة مع هارفارد بزنس ريفيو ليؤكد أنه كان مخطئاً، وأن مكافحة الجريمة ليست بهذه البساطة، بل إنها تتطلب عملاً متراكماً على كل الأصعدة، وأنه من الخطأ تفسيرها بسبب واحد، وأنه لا يجوز أخذ الناس بالشبهات. حتى إنه وصف نفسه بأنه كان صغيراً عندما كتب الكتاب، وأنه لم يفهم الأمور كما هي عليه في الواقع.
بالطبع، لا مشكلة في نظرية النافذة المكسورة فهي نظرية علمية تشبه نظرية تأثير الفراشة، وهي من النظريات التي تشير إلى أن النار قد تبدأ من مستصغر الشرر كما يقولون. ولكن هذه النظريات تجعلنا نرى الصورة الكبرى للأحداث فقط، ولكنها لا تكفي لتفسير علمي عملي للأحداث.
عملياً وواقعياً، لا يمكن أن يكون سبب إعصار في تكساس هو رفرفة فراشة في البرازيل، كما تقول نظرية تأثير الفراشة. فالأحداث لها أسباب معقدة ومتراكمة.
في عصرنا الحالي يحب الناس التفسيرات الوحيدة السريعة والسحرية للأحداث، ولكن التفسير الحقيقي لأي مشكلة أو حدث قد يكون أكثر تعقيداً مما نظن. لذلك تستخدم الأبحاث العلمية عبارات قد تبدو غير مألوفة لعامة الناس، مثل "الارتباط" (Correlation) و"السبب" (Causation)، هناك قاعدة علمية معروفة تنص على أن الارتباط لا يعني السببية، فعندما تجد في دراسة علمية أن مرضاً معيناً يرتبط بتناول طعام معيّن أو التعرض لظروف معينة، فهذا لا يعني أن هذا الطعام هو سبب هذا المرض أو أن هذا الظرف هو السبب.
إن المرض عموماً ليس له سبب واحد محدد، والفشل ليس له سبب واحد محدد، وكذلك النجاح، فلا يمكنك أن تطبّق وصفة واحدة للنجاح، بل لا بد أن تتبع سلسلة معقدة من الأسباب، وقد لا تنجح مع كل هذا، لأنك قد تحتاج إلى عامل الحظ الذي لا يد لك فيه. وهذه هي الحقيقة.
المهم هو أن مالكوم غلادويل، على مدار ربع قرن من الزمان، باع ما يزيد على 23 مليون نسخة من الكتاب في أميركا وحدها، وأصبح منذ ذلك الحين متحدثاً في المؤتمرات، يتقاضى لكل حديث يقدمه للشركات أو المؤتمرات 350 ألف دولار. لكن مالكوم غلادويل يستطيع بكل بساطة، بعد ربع قرن من الزمان، أن يقول إنني كنت مخطئاً وأعتذر عن الفكرة الرئيسية التي طرحتها في الكتاب، لقد فهمت نظرية النافذة المكسورة بطريقة خاطئة ما أدى إلى فهم خاطئ من الشرطة، وتسبب هذا كله في مقتل الكثير من الناس الأبرياء بسبب شبهات لا أساس لها.
لم يكتفِ مالكوم غلادويل بالاعتذار، بل أصدر كتاباً جديداً بعنوان "انتقام نقطة التحول" لنقض الكثير من محتوى كتابه السابق، ولكن كما تتوقعون، سيصبح الكتاب من أكثر الكتب مبيعاً وسيحقق عشرات الملايين من المبيعات. لا أدري حقاً، إذا ما كان اعتذار غلادويل حقيقياً أم للترويج لكتابه الجديد، أم لأنه يشعر بالذنب بعد حادثة مقتل جورج فلويد. إنه عملياً غير مسؤول عن نظرية النافذة المكسورة لأنه ليس العالم الذي ابتدعها، لكنه مسؤول عن فهمه السطحي لها. ومع ذلك، فإن هذا الاعتذار يمر مرور الكرام في الثقافة الغربية، التي تحاول أن تجعل الاعتذار عن الخطأ كافياً ومرغوباً فيه، حتى إن استمر الشخص الذي ارتكبه على المسار نفسه الذي أدى إليه.
لم يقل مالكوم غلادويل في اعتذاره إنه سينتهج من الآن فصاعداً منهج الباحث العلمي، بدلاً من الصحفي الذي يفهم الأمور العلمية بطريقته الخاصة، ولم يقل إنه أخضع نفسه لدورة بحث علمي تجعله يفهم كيف يقرأ الأبحاث العلمية بعقلية الباحث العلمي. بل اعتذر وتابع طريقه وكتب كتاباً جديداً بالطريقة السابقة نفسها، وعلينا أن نتبعه فيما يكتبه مرة أخرى.
لا تفهموني خطأ، فأنا أحب غلادويل وأقرأ كل كتبه، ولكن بما أني أملك خلفيتين صحفية وأكاديمية، أود لفت الأنظار إلى أن مالكوم غلادويل متهم بأنه لا يميز بين الارتباط والسببية وأنه يوظف الأبحاث الأكاديمية في تفسيرات يختارها بحسب قناعاته وليس على أسس علمية. ما يهمني في هذه القصة هو الإشارة إلى أن مالكوم غلادويل، بكل أهميته، اعترف بخطئه، وهذا أمر جيد، وأتمنى أن يغيّر من طريقته في فهم الأبحاث والإحصاءات. ولكنني انتهز الفرصة لأتساءل، كم نتعرض يومياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي لأفكار خاطئة يلقيها علينا أشخاص يدعون الخبرة، ويمطروننا بالنصائح الصحية والمهنية ليل نهار بناءً على فهم سطحي للأمور، وقشور يلتقطونها من الاطلاع غير المعمق على بعض الدراسات أو الحالات العملية، ويقدمون هدف الإثارة وجذب المتابعين على أي قيمة أخرى أخلاقية أو مهنية.