الجزء الثالث
ملخص: في الجزء الثالث من سلسلة "عقلية محمد العبار" نخوض في غمار عقلية هذا الرجل الذي تميز بأفكاره وقناعاته التي تتحدى المألوف، خاصة في مجال الإدارة، إذ تأثر بالعقلية المهنية الغربية لكنه لم يتوانَ في تكييفها على التقاليد العربية والشرقية. كما نلقي الضوء على نظرة العبار للأزمات التي استمدها من مرافقته للشيخ محمد بن راشد، إذ يرى أن الحياة دائمة التغير والتطور، لذلك فإن الأزمات لا تدوم، والرابحين فيها هم الهادئون الذين يتحكمون بعواطفهم ويتمتعون برباطة الجأش لحين مرور العاصفة. وننتقل لنستفيد من أبرز الأخطاء التي تعلّم منها العبار دروساً ثمينة وهي: الاستثمار في مجال أو مكان لا تعرفه ولا تمتلك الخبرة فيه، وعدم تكريس الجهد والوقت للبحث عن أفضل أصحاب المواهب لتولي الوظائف والمناصب، والخطأ الأخير هو الدخول في الشراكات التي قد تكون مضرة. وفي الختام؛ نغوص أكثر في عقلية العبار التي يظهر فيها كيف تتغلب شرقيته على ثقافته وتعليمه الغربي ولا سيما عندما تتداخل السياسة مع الاقتصاد، فالعبار يعتبر نفسه رجل أعمال أولاً وأخيراً ولا تعنيه السياسة، لذلك لديه كل الجرأة لتجاهُل الاعتبارات السياسية، والتحرك في أعمال تستهدف تحسين حياة الناس كما يقول.
تجمع عقلية محمد العبار بين أفكار وقناعات قد يراها البعض متناقضة، لكنها في الحقيقة تطور في الأفكار وتعلم مستمر. فالعقلية الإدارية للعبار تأثرت إلى حد كبير بالنموذج الأميركي والغربي الذي ينص على الأبواب المفتوحة والإدارة الأفقية، ثم صقلتها تجربة سنغافورة والاختلاط مع الآسيويين من الصينيين والهنود. وهكذا بدأ العبار مبكراً بكسر القواعد الشرقية التقليدية في الإدارة فأخرج الموظفين من الصوامع، وأحضر النجارين حرفياً لخلع الأبواب الداخلية لشركة إعمار، وقبلها دائرة التنمية الاقتصادية، كما ألغى الفوارق بين المكاتب فجعل كل الموظفين يعملون في مساحات عمل مفتوحة ومشتركة، ويجلسون إلى مكاتب متساوية متشابهة. ثم قرر بعد ذلك تطبيق سياسة الاجتماعات خلال الوقوف وهي ثقافة غربية يطبقها بعض أكثر الشركات كفاءة في العالم.
ثم كانت ثالثة الأثافي عندما قرر العبار متأثراً بحماسته للتحول الرقمي الكبير الذي شهده العالم خلال أزمة كورونا، إلغاء المناصب الوظيفية في شركته، وأصدر تعميماً وجهه إلى موظفيه عام 2020 جاء فيه: "زملائي الأعزاء عندما تنهون قراءة هذه الرسالة ستلاحظون شيئاً غير مألوف"، وهو قرار العبار بإلغاء مسماه الوظيفي، وللمسميات الوظيفية كاملة في الشركة، مع استبقاء بطاقات عمل تعريفية تقتصر على اسم الموظف والقسم الذي يعمل فيه، وأنهى الرسالة بتوقيع حمل اسمه ولقبه "بو راشد"، معلناً رسمياً تخليه عن لقب الرئيس. وعلى الرغم من أن العبار بيّن بوضوح أن هذا الأمر لا يؤثر على حقوق أي من الموظفين: "أنت كموظف، منصبك موجود، وراتبك كذلك، ومزاياك أفضل، واستثمر فيك بحيث تكون قيمتك عالية لأهلك وكل سنة في تحسّن بقيمتك، سواء كان علماً أو مادةً".
وفي إحدى الندوات سأل أحد الحضور العبار عما صدمه خلال تجربته المهنية الطويلة، فذكر تجربته مع إلغاء المناصب، موضحاً أن رد الفعل الذي لاحظه من الموظفين كان صادماً، إذ إن هذا الإجراء الأخير بإلغاء المسميات الوظيفية، "لم يعجب الكثيرين" وثارت ثائرة المدراء الذين كان اللقب الوظيفي يعني لهم الكثير في حياتهم ومجتمعهم. وهنا يمكننا أن نرى تراجعاً واستجابة من العبار للثقافة الاجتماعية العربية على حساب قناعاته الجريئة بتطبيق سياسات عمل طموحة. فعلى الرغم من أنه لم يعلن ذلك رسمياً، لكنه على ما يبدو لم يتمسك بقرار إلغاء المسميات الوظيفية احتراماً للعرف الاجتماعي الذي كان على ما يبدو تعني له الألقاب الوظيفية الكثير.
وهكذا عمل العبار على تكييف بعض الأفكار الغربية، لكنه تمسك إلى حد كبير بكثير من التقاليد العربية والشرقية في الإدارة والعمل. فإلى جانب عقلية العبار التي تطبّق أحدث ما توصل إليه العلم من سياسات العمل والتي تطبقها كبريات الشركات الغربية، فإنه هو نفسه المدير الذي يصف نفسه بالمدير "الصعب" التقليدي في بعض الأحيان، والذي يرفض العمل الهجين أو العمل عن بُعد، ويرى أن الموظفين في المنطقة العربية يجب أن "يطحنوا" أنفسهم بالعمل ليلاً ونهاراً، فما زال لديهم الكثير لإنجازه في بلدانهم الفقيرة والنامية، ومازال لديهم الكثير ليحققوه على المستوى الشخصي، فليست لديهم رفاهية الشكوى من الضغوط النفسية والاحتراق الوظيفي كما يفعل الموظفون في العالم الغربي.
وبعد أن جرّب العبار الأسلوب الغربي في إدارة الموظفين، الذي نجحت فيه تجربته مع الموظفين في بعض الحالات، منها المكاتب المتساوية والمساحات المفتوحة والاجتماعات وقوفاً ربما على "مضض"، لكنها لم تنجح في نواحٍ أخرى مثل حذف الألقاب الوظيفية. ولا ندري كيف يتلقى الموظفون القدامى في شركات العبار وجود مدراء لهم ينتمون إلى "جيل زد" أو ربما "جيل ألفا" ممن هم في العشرينيات من العمر، لكنه تحدٍ يعمل عليه بكل تأكيد بو راشد الذي يخصص نحو 70% من وقته حالياً، كما يقول، للموارد البشرية وتطويرها وتنميتها وبناء ثقافة داخلية في شركاته.
وكما جرّب العبار في بداياته الإدارة الغربية، فقد انجرف أيضاً في بداياته بوصفه رجل أعمال نحو العالمية، واتجه مثل معظم المستثمرين للاستثمار في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. كما دخل في قطاعات جديدة لم يعرفها ولم يألفها من قبل مثل قطاع المناجم، لكنه تعلّم الدرس من هذه التجربة كما تعلمه من تجاربه الأخرى. وبات العبار يعطيك الحكمة والنصيحة التي لا لبس فيها: لا تستثمر فيما لا تعرف، فقد أخطأت حينما استثمرت في قطاع لا خبرة لي فيه مثل المناجم، ولا تستثمر في الأسواق الناضجة مثل الأسواق الأميركية وأسواق أوروبا الغربية، لأنها لا تقدم سوى 3% من العوائد مقارنة بالأسواق النامية والناشئة. فالأسواق الناضجة، كما يرى، هي أسواق مشبعة ناضجة، لذلك فإن عوائدها غير مجدية، في المقابل، المحيط الأزرق كما هو معروف في الاقتصاد، هو في اقتصادات الدول النامية والناشئة الساعية للنمو، مثل أوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا والدول العربية. هنا تجد الفرص الكبيرة والأرباح الوفيرة، على الرغم من أن العمل فيها أصعب لكنه أكثر جدوى.
الأزمة وسباقات القدرة والتحمل
لقد تشبعت تجربة العبار بمزيج ثقافي في إدارة الأعمال بين الغرب والشرق، واليوم تبدو رؤيته والقصة التي يرويها عن حياته زاخرة بالخبرات وناضجة في التعامل مع الأزمات والنجاحات، ومليئة بالعنصر الثقافي العربي المحلي. ولا يتردد العبار حينما يذكر القصص التي تعلّم فيها تجاربه واكتشف فيها أخطاءه. فهو عندما يتحدث عن الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، يذكر كيف تعامل معها كرجل أعمال عالمي، فقد كان قلقاً وخائفاً مثله مثل أي مستثمر في العالم. في تلك الأيام، كانت دبي وشركة إعمار في مرمى وسائل الإعلام العربية والعالمية التي تنتقد وتخوّف من أن تجربة دبي ومن ضمنها إعمار قيد الانهيار بسبب الأزمة المالية العالمية. ولكنه يروي القصة التي جعلته ينظر إلى الأزمة برؤية مختلفة متأثرة بالثقافة المحلية التي تندمج فيها الحكمة بالإيمان.
يروي محمد العبار، أنه في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما كانت دبي وشركاتها في مرمى النيران الإعلامية العالمية، كان الشيخ محمد بن راشد يصطحبه وعدداً من رجال الأعمال في دبي للمشاركة في سباقات "القدرة والتحمّل"، وهي سباقات سنوية تشتهر بها دبي لاختبار قدرة الخيول على التحمل والمنافسة في سباقات مفتوحة. وكانت هذه السباقات هي شغف الشيخ محمد بن راشد، وأحد مصادر الإلهام التي أراد تمريرها للبشر، فقد كان يرى في الخيل مصدراً للإلهام، وكان يقول: "تعلّمت من خيلي أنه عندما تحب شيئاً واصل فيه حتى النهاية"، بحسب ما جاء في كتاب "قصتي".
كان العبار مستغرباً وربما كان مصدوماً، عندما رأى الشيخ محمد بن راشد منغمساً في توجيهاته له ولبعض رفقائه من رجال الأعمال بكيفية التعامل مع خيولهم التي ستدخل المسابقة، في حين أن العالم يتزلزل من حولهم والأزمة المالية العالمية تطيح بشركات عملاقة وتهز كيانات دول. ولم يخفي العبار استغرابه، حينما تحدث على انفراد يومها إلى أحد قادة شركات دبي البارزين، سلطان بن سليم، الذي كان يرافقه في سباقات القدرة مع الشيخ محمد بن راشد. همس له، أنه غير قادر على استيعاب هدوء الشيخ محمد بن راشد وانخراطه في سباقات الخيل في الوقت يشتعل فيه العالم من حوله، وأنه شخصياً لا يستطيع أن يتجاهل ما يحدث وتأثيره على مصير شركة إعمار.
وفي إحدى الجلسات القريبة، ذكر سلطان بن سليم هواجس العبار أمام الشيخ محمد بن راشد وبحضور العبار. عندها سمع العبار الكلمات التي شكّلت درساً لا ينساه من الشيخ محمد بن راشد، حينما ابتسم وأخبره بأن الحياة فيها حياة وموت، صيف وشتاء، ليل ونهار. ففهم العبار تلك الحكمة، التي تأتي من خبرة وحكمة امتاز بهما الشيخ محمد بن راشد، الذي علمته الحياة أن تقلب الليل والنهار والصيف والشتاء، يعني أن الأفراد والدول معرضون لتقلبات الحياة، لكن المؤكد أن الأزمات لا تدوم، وأن الرابحين فيها هم الهادئون الذين يتحكمون بعواطفهم ويتمتعون برباطة الجأش لحين مرور العاصفة.
ما تزال هذه الكلمات حكمة يرددها العبار لنفسه ولمن يتحدث إليهم. فقد تعلّم منها معنى المرونة التي تقوي صلابة شركته وشخصيته مع كل أزمة يمر بها. إلى أن أصبحت شركة إعمار، كما يقول، "مضادة للرصاص"، بسبب ازدياد قدرتها على التحمل بعد كل ما تعلمته من دروس الأزمات العالمية بدءاً من أزمة 2008، وما تلاها حتى أزمة كورونا وحتى اليوم.
الأخطاء الثلاثة
يفضّل محمد العبار أن يبتدئ خطاباته للجمهور، بأن يروي قصته بطريقته، حينما يستهل حديثه بطريقة معاكسة خلافاً لما يرويه رجال الأعمال الناجحون. فبدلاً من أن يروي قصته كقصة نجاح، يبدأ غالباً بالقول بأنه سيتحدث عن أخطائه ليتعلم منها ما يشاء. فما هي أخطاء محمد العبار الرئيسية والدروس المستفادة منها؟
سأل الكثيرون العبار أكثر من مرة، وأجاب دون سؤال أكثر من مرة، بأن أخطاءه هي ثلاثة، يتمنى لو تعلم منها مبكراً وتجنبها، ويتمنى أن يتعلم منها جيل الشباب ليتجنبوها:
- الخطأ الأول: لا تستثمر في المجال الذي لا تمتلك فيه خبرة أو شغفاً. استثمر العبار في المناجم فخسر فيها مبالغ كبيرة، في المقابل كان من الأفضل له التركيز على المجالات التي يتقنها، كما يقول.
وكذلك، يتفرع عن هذا الخطأ، ألا تستثمر في الأماكن التي لا تمتلك فيها خبرة. شعار العبار بالنسبة لنفسه على الأقل، هو لا تستثمر في الأسواق الناضجة مثل الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، لأن هاتين المنطقتين مشبعتان بالاستثمارات، ولن تكون عوائدهما كبيرة، ولن تسهم فيهما بتحقيق أهداف كبرى بارزة. بدلاً من ذلك، استثمر في المناطق النامية الناشئة مثل أوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا والدول العربية، فأنت هنا أمام فرص مفتوحة لا تنتهي وعوائد أكبر بكثير على الرغم من أنها ستكون أصعب في إجراءات الاستثمار.
خسر العبار خلال تجربته الاستثمار في أميركا نحو 1.5 مليار دولار كما يقول في حديثه لطلاب إحدى الجامعات المصرية. وهو يعتبر هذه الخسارة درساً قاسياً تعلم منه بعدها ألا يدخل ملعباً ليس بملعبه.
- الخطأ الثاني: تأخرتُ بالاهتمام بالبحث عن أفضل أصحاب المهارات والمواهب، فلا ترتكب هذا الخطأ. يعترف العبار في أكثر من كلمة ألقاها في السنوات الخمس الأخيرة، بأن أحد أبرز الأخطاء التي ارتكبها ويندم عليها، هو أنه لم يهتم مبكراً بتكريس الجهد والوقت للبحث عن أفضل أصحاب المواهب لتولي الوظائف والمناصب في شركاته. ويقول في كل مرة يذكر فيها هذا الخطأ، بأنه لو انتبه مبكراً لهذا الموضوع واهتم به، لكان ما حققه 10 أضعاف مما هو عليه الآن. كما أنه يعترف يأنه تخلى عن بعض المشاريع المهمة بسبب عدم وجود الكوادر الأفضل لتولي إدارتها.
ويذكر العبار أن ما يقصده بالبحث عن أفضل المواهب، هو الحرص على توظيف ليس الناس الجيدين فقط، بل الأفضل في مجالهم. لذلك يكرر العبار، بأن الموظفين الذين نصفهم بأنهم "لا بأس" أو "جيدون" هم نزيف مستمر يقتل الشركات ببطء. ويعترف العبار في حديثه لطلاب جامعة خليفة، بأنه عمل على تغيير 50% من الموظفين في إحدى شركاته بسبب أخطاء في التوظيف.
بالنسبة للعبار، فإن سبب الخطأ الذي يعترف بأنه ارتكبه بعدم الاهتمام المبكر بالبحث عن أصحاب المواهب، هو المبرر الذي يمكن أن تقدمه أي شركة هذه الأيام، وهو "الاستعجال"، والبحث عن أفضل الموظفين ضمن الوقت الضيق المتاح، ثم زجهم في العمل بسرعة دون التأني للبحث عن الأفضل والتأهيل المناسب. وبسبب هذا الخطأ، يقول العبار بأنه يكرّس اليوم نحو 50% من وقته للبحث عن أفضل أصحاب المواهب لإضافتهم ضمن القوة الضاربة في شركاته.
- الخطأ الثالث: أخطأت في عمل بعض الشراكات. الشراكات قد تكون وسيلة للنمو الكبير والسريع وقد تكون ضارة. يرى العبار أن دخوله بعض الشراكات كان خطأ، وأن نجاحه تلقى دفعة جيدة بعد تخلصه من تلك الشراكات التي كانت تعوق نمو أعماله.
العبار والسياسة
تظهر شرقية محمد العبار وتغلب على ثقافته وتعليمه الغربي عندما تتداخل السياسة مع الاقتصاد، فالعبار يعتبر نفسه رجل أعمال أولاً وأخيراً ولا تعنيه السياسة، وليست بالنسبة له شرطاً لخوض استثمارات في بلد ما من عدمه كما يقول.
ورداً على سؤال حول دراسته للمخاطر السياسية حينما يقرر الاستثمار في بلد ما، كان جواب العبار، بأنه لا يعتبر نفسه مطوراً بل مساعداً للشعوب الراغبة في أن تكون جزءاً من الحضارة في تحقيق أحلامها لتكون جزءاً من التطور. لذلك فهو عندما درس المخاطر السياسية والاقتصادية والائتمانية للاستثمار في بلد مثل ألبانيا، كانت حمراء كلها؛ أي مخيفة، لكنه قرر الاستثمار لأن الناس هناك كانوا بحاجة إلى هذا الاستثمار ويريدون أن يكون في بلدهم جزء مشابه لدبي ونيويويورك ولندن وغيرها من المدن المتقدمة.
كان العبار صريحاً بأن العقوبات الاقتصادية التي تطول بعض الأنظمة السياسية، لا تشكل عائقاً أمامه عندما يقرر الاستثمار في البلدان ذات الاقتصاد غير الناضج، تلك الاقتصادات التي تطمح لبناء مدن متطورة، كما حصل في قراره الاستثمار في بيلاروسيا التي تطولها العقوبات كما أنها بلد صديق لروسيا التي يعتبرها الغرب دولة معادية. كان جواب العبار بهذا الخصوص في حديثه خلال جلسة قادها المذيع البريطاني الشهير ستيفن ساكور، بأنه بنى للناس في بيلاروسيا ما يحتاجون إليه ليستمتعوا بحياتهم بغض النظر عن العقوبات، فهو يعمل لخدمة الناس. ويقول: "لقد بدأنا في عاصمة بيلاروسا ببناء مرآب عام لمواقف السيارات، وهذا ما قدّم خدمة لا تصدق للناس الذين كانوا يعانون مشكلة كبرى تتعلق بمواقف السيارات". وبضيف أنه انتقل بعدها إلى بناء المراكز المناسبة للتسوق والسكن، ويؤكد: "لا يهمني السياسيون أو السياسة، يهمني الناس".
تجاهُل العبار للاعتبارات السياسية، والتحرك في أعمال كمستثمر يستهدف تحسين حياة الناس، كما يقول، لم تعجب الكثيرين ولم يستطيعوا تقبّل الحكم على نشاطات المستثمر بعيداً عن التفسيرات السياسية. وهذا ما حصل معه عندما زار الأراضي الفلسطينية عام 2005 وقبيل انسحاب إسرائيل من غزة، ليبحث إمكانية شراء المستوطنات وبنيتها التحتية ويقدمها للفلسطينين بدلاً من أن تدمرها إسرائيل. تعرضت هذه الزيارة لانتقادات شديدة في المنطقة العربية ومنها بعض المقالات في الصحافة المحلية بغض النظر عن هدفها الذي أعلن عنه العبار في مقابلات معه، بأنه اضطر إلى التواصل مع الإسرائيليين للحصول على الإذن لمساعدة "أشقائه"..
ما يزال محمد العبار يتمسك بالموجة التي ظهرت في الثمانينيات من القرن الماضي، التي برز فيها مفهوم "المسؤولية الاجتماعية للشركات" الذي جعل الشركات والمستثمرين بحسب باحثين من جامعة واشنطن، يركزون على خدمة المستهلك أكثر من اهتمامهم بالاعتبارات السياسية في البلدان التي يستثمرون بها. لكن تغيّر الظروف الدولية وتداخل السياسة بالاقتصاد وتطور أنظمة العقوبات الاقتصادية وظهور مفهوم "المستثمر الناشط" الذي يعني انخراط كثير من المستثمرين في السياسة والتحول إلى "ناشطين" أو "مناصرين" لقضايا معينة، أدى إلى انقسام المستثمرين العالميين إلى قسمين؛ قسم يهتم بالسياسة واعتبارتها، وقسم ما يزال يهتم فقط بما يقدمه من خدمات للناس بصرف النظر عن النظام السياسي السائد. وهذا النوع الثاني الذي ينتمي إليه العبار يعاني كثيراً في الاستثمار ضمن بلدان غير محوكمة ولا تظهر فيها سيادة القانون بوضوح، كما تحتاج إلى المشي على حافة الهاوية تجنباً للوقوع في العقوبات المحظورة. ومع ذلك فإن شركات عالمية كبرى مثل نستله وجونسون آند جونسون وغيرهما ما زالت تعمل في دول معاقبة دولياً مثل فنزويلا وسوريا وغيرهما، لأن هدفها، كما تقول، خدمة المستهلكين على الأرض وليس خدمة السياسيين. وفي مقال نشره بيتر فانهام في هارفارد بزنس ريفيو ناقش بالتفصيل خيارات مثل هذه الشركات التي اختارت المشي على حافة الهاوية والتعرض للتدقيق والحوكمة جرّاء أعمالها في بلدان معاقبة من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بسبب رغبتها في خدمة الناس.
عقلية المرتاب
العبار الذي يسكنه "الارتياب" المستمر لتحسين الأمور والحذر مما قد يطرأ، هو الذي يجعله يفكر في كل شيء ويحتاط للأزمات، فقد تعلّم أن يحافظ على سيولة كافية في حساباته خارج البنوك، واعتاد عدم الاعتماد كثيراً على القروض كما يقول. وهو يميل "كمرتاب" إلى تذكر ما قد يحدث من أزمات وأخطاء، مثل الأخطاء التي قد يرتكبها المتعاقدون من الداخل لتنفيذ بعض مشاريع شركاته.
وعلى الرغم من أن العبار جريء يركب المخاطر المدروسة، ويدخل التحديات المستمرة مع نفسه، ومع أعماله السابقة، فإنه يغرق في التفاصيل واللمسات النهائية التي يشرف عليها بنفسه.