ملخص: لطالما ارتبطت الحصة السوقية ارتباطاً قوياً بتحقيق الربحية بسبب العوامل المتعلقة بالفاعلية وكفاءة السوق وتصورات العملاء. لكن يوضح المؤلفون أن هذه العلاقة قد تغيرت بسبب التحول الرقمي في الشركات. توصل البحث الذي أجراه المؤلفون إلى أن العلاقة بين تحقيق الربحية والحصة السوقية الكبيرة قد تراجعت بالنسبة للشركات التي تفضّل الاستثمار في خلق القيمة على الاستحواذ على قيمة موجودة أصلاً، وكذلك بالنسبة للشركات التي تعمل في مجال التعامل التجاري بين الشركات. في كلتا الحالتين، يسهم التطور الرقمي في تقليص الفجوة بين الشركات الصغيرة والكبيرة. لكن يمكن أن يعزز هذا التطور الرقمي أيضاً تأثيرات الحصة السوقية بالنسبة للشركات الكبيرة التي تركز استثماراتها الرقمية على التفاعلات المباشرة مع العملاء وكذلك بالنسبة للشركات الكبيرة التي تنشئ منصات رقمية.
إن الحصة السوقية من أهم مؤشرات الأداء الرئيسة التي يركز عليها المدراء التنفيذيون بالإدارة العليا، وذلك لسبب وجيه؛ إذ لطالما ارتبطت الحصة السوقية الأكبر حجماً بتحقيق ربحية أعلى. لكن هل لا تزال هذه العلاقة قائمة حتى الآن في ظل تزايد الشركات التي تتبنى التكنولوجيا الرقمية، أم أن الاستراتيجيات التي تركز على نمو الحصة السوقية أصبحت قديمة وغير فعالة؟
شهدت المنافسة بالتأكيد تحولاً جذرياً على مدى العقود الماضية نتيجة التحول الرقمي في الشركات والمجتمع على حد سواء؛ إذ شهدنا ظهور قطاعات جديدة كلياً مثل صناعة أشباه الموصلات وهندسة البرمجيات، بالإضافة إلى أساليب جديدة للإنتاج مثل الأتمتة، ونماذج جديدة للأعمال والإيرادات مثل المنصات الرقمية أو البرمجيات كخدمة (software-as-a-service)، وبعد الانتشار الواسع لأجهزة الكمبيوتر الشخصية في التسعينيات والإنترنت في العقد الأول من الألفية الثالثة، أسهم كل من الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز رقمياً في إحداث مزيد من التحولات الجذرية.
للحصول على فكرة حول تأثير هذه العوامل كلها على العلاقة بين الحصة السوقية وزيادة الربحية، تجب علينا دراسة الطرق التي تسهم من خلالها الحصص السوقية الأكبر حجماً في تحقيق الربحية. أولاً، ترتبط الحصص السوقية ذات القيمة الأعلى عادةً بتحقيق مكتسبات الكفاءة، وذلك بفضل عوامل مثل اقتصاد الحجم الكبير وآثار منحنى التعلم وحواجز الدخول إلى السوق. ثانياً، يؤدي امتلاك حصص سوقية أعلى إلى منح الشركات قوة سوقية أكبر، وبالتالي يحسّن مواقف الشركات الكبرى في تفاوضها مع الموردين والعملاء. ثالثاً، تتميز المنتجات والخدمات التي تقدمها الشركات التي تمتلك حصة سوقية أعلى بأنها ذات جودة مدركة أكبر.
من الواضح أن القدرات الرقمية تساعد الشركات على تحسين كفاءتها من خلال السماح لها بتحليل بيانات السوق بطريقة أفضل، وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المصممة بحسب الطلب، أو توجيه الحملات التسويقية وجهود البحث والتطوير بدقة أكبر، ونظراً لأن جمع مثل هذه البيانات الضخمة وتحليلها لا يكون ممكناً عادةً إلا للشركات التي تمتلك حصصاً سوقية كبيرة، فقد نستنتج أن التحول الرقمي الواسع النطاق يمكن أن يسهم في تعزيز العلاقة بين الحصة السوقية وتحقيق الربحية بالنسبة للشركات الكبيرة، وبالتالي ستؤدي مكتسبات الكفاءة الناتجة عن التحول الرقمي إلى زيادة القوة السوقية للشركات وتحسين إدراك العملاء وتصورهم لجودة المنتجات التي تقدمها هذه الشركات.
لكن ثمة جوانب أخرى تجب مناقشتها، لذلك دعونا نستعرض المكونات الثلاثة لهذه الآلية بمزيد من التفصيل:
الفاعلية
نظراً لأن تطبيقات الأتمتة والذكاء الاصطناعي أصبحت متاحة على نطاق واسع من خلال مزودي البرمجيات كخدمة، مثل خدمات شركة سيلز فورس (Salesforce) التي تتعلق بأنظمة إدارة علاقات العملاء، فإنه يمكن حتى للشركات الصغيرة الاستفادة من الحلول المتقدمة. يسمح مزودو الخدمات مثل أمازون (Amazon) وشوبيفاي (Shopify) وإنستغرام (Instagram) للشركات المختلفة، بغض النظر عن حجمها، بالاستفادة من التحول الرقمي وتوسيع نطاق أعمالها والتحول إلى شركات عالمية تستطيع الإعلان عن منتجاتها وبيعها وشحنها إلى العملاء في أنحاء العالم كافة. على نحو مماثل، تسهّل الحلول الرقمية عمليات التعهيد الخارجي والاستثمار خارج الحدود (نقل العمليات إلى دول أقل تكلفة) بحيث تتمكن الشركات التي تمتلك حصة سوقية منخفضة من حصد مكتسبات الكفاءة التي كانت محصورة في السابق في منافساتها الأكبر حجماً. ومن خلال الاستفادة من خيارات الاستهداف الدقيق للجمهور التي توفرها قنوات الإعلانات الرقمية، يمكن حتى للشركات المتخصصة في مجالات محددة تنفيذ حملات تسويقية تستهدف جمهورها المحدد بكفاءة ودقة أكبر. تجسد شركة مستحضرات التجميل غلوسير (Glossier) هذا التحول من خلال نهجها التسويقي الذي يتسم بالكفاءة والفعالية، إذ يعتمد على الاستفادة من مجتمع علامتها التجارية عبر الإنترنت وقنوات التواصل الاجتماعي والمؤثرين الصغار الذين لديهم عدد قليل نسبياً من المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي.
القوة السوقية
يسهم التحول الرقمي أيضاً في إنشاء أسواق إلكترونية تتميز بأسعار واضحة وصريحة، بالإضافة إلى توسيع نطاق هذه الأسواق لتشمل شبكة واسعة من الموردين والعملاء المحتملين. نتيجة لذلك، تنخفض تكاليف البحث وتبعيات سلاسل التوريد، ويصبح الوصول إلى الأسواق العالمية أسهل، وتتلاشى حواجز الدخول إلى السوق، وبالتالي تكون فائدة الشركات ذات الحصة السوقية المنخفضة أكبر مقارنة بالشركات الكبيرة المهيمنة على السوق. في الوقت نفسه، يمكن أن تتناسب الإعلانات في القنوات الرقمية مع أي ميزانية، على عكس قنوات وسائل الإعلام الجماهيري التقليدية التي تتطلب استثمارات أولية كبيرة. تسهم هذه العوامل جميعها في تسهيل تنافس الشركات الصغيرة مباشرة مع الشركات الرائدة والمهيمنة على السوق. تقدم شركة التكنولوجيا المالية البريطانية وايز (Wise) مثالاً على ذلك؛ إذ تأسست الشركة في عام 2011، وهي تقدم خدماتها بالفعل في أكثر من 70 دولة وتتنافس بقوة مع شركة ويسترن يونيون (Western Union).
تصورات الجودة
تؤثر زيادة المعلومات المتاحة أيضاً على تصورات المستهلكين لجودة المنتجات، إذ لم يعد المستهلكون يعتمدون على الحصة السوقية الكبيرة للشركة بوصفها مؤشراً على جودة منتجاتها؛ بل يمكنهم الاطلاع على مواقع المقارنة والمراجعات والتقييمات المتاحة عبر الإنترنت على منصات رقمية، مثل أمازون (Amazon) أو علي بابا (Alibaba). تبيع شركة الأحذية أولبردز (Allbirds) منتجاتها على أنها "الأحذية الأكثر راحة في العالم"، ويبدو أن العديد من المستهلكين يتفقون مع ذلك من خلال مراجعاتهم حول هذه المنتجات عبر الإنترنت، ما يؤدي إلى تعزيز تصور الجودة العالية بين المستهلكين على الرغم من الحصة السوقية المنخفضة للشركة.
ما هو صافي الأثر على العلاقة بين الحصة السوقية وتحقيق الربحية؟
لتحديد أثر التحول الرقمي على العلاقة بين الحصة السوقية والربحية، درسنا البيانات المالية لـ 824 شركة أميركية عامة مدرجة في البورصة على مدار 25 عاماً. بالإضافة إلى ذلك، أجرينا تحليلاً نصياً لتقارير "10-كيه" السنوية (10-K Reports) لكل شركة، بهدف تحديد البنود المتعلقة بالتحول الرقمي. سمح لنا ذلك بتحديد درجة التحول الرقمي لكل شركة في كل مرحلة زمنية، ثم أدرجنا هذه البيانات في تحليلنا. يوضح بحثنا المفتوح المصدر هذه الطريقة بالتفصيل، ما يسمح لأي شخص بقياس درجة التحول الرقمي لأي شركة عامة أو قطاع معين وتتبعها.
مثلما كان متوقعاً تماماً، شهدنا زيادة مستمرة في التحول الرقمي بين الشركات بمرور الوقت، ولا سيما في العقد الماضي؛ إذ تسارعت وتيرة هذا التحول بدرجة ملحوظة. بالإضافة إلى ذلك، نجد أن العلاقة الإيجابية بين الحصة السوقية والربحية لا تزال قائمة عموماً، لكنها تضعف مع زيادة التحول الرقمي. وهذا يعني أن زيادة الحصة السوقية تؤدي إلى مكاسب ربحية أقل للشركات التي تعتمد على الرقمنة إلى حد كبير مقارنة بالشركات الأقل اعتماداً على الرقمنة. يشير ذلك أيضاً إلى أن التحول الرقمي يفيد الشركات الصغيرة تحديداً لأنه يؤدي إلى تحقيق ربحية نسبية أكبر لهذه الشركات مقارنة بالشركات الكبيرة، وذلك من خلال إزالة بعض القيود التي كانت تمنعها من تحقيق مزيد من الأرباح في الماضي.
نرى أن الشركات ذات الحصة السوقية الكبيرة التي تعتمد بشدة على الرقمنة (الخط الأرجواني) والشركات الأخرى ذات الحصة السوقية الكبيرة أيضاً لكنها أقل اعتماداً على الرقمنة (الخط الأصفر) تحقق مستويات ربحية متشابهة جداً عبر الزمن، مع تباين كبير فقط خلال فترة انفجار "فقاعة الدوت كوم" (Dot-Com Bubble) في بداية العقد الأول من الألفية الثالثة. في المقابل، فإن الشركات التي تمتلك حصة سوقية منخفضة وتختلف درجة اعتمادها على التحول الرقمي تُظهر اختلافات ملحوظة في مستويات ربحيتها. بعد التعافي من أزمة فقاعة الدوت كوم، حققت الشركات التي تعتمد على الرقمنة بدرجة كبيرة وتمتلك حصة سوقية منخفضة (الخط البرتقالي) ربحية أعلى بكثير مما حققته نظيراتها الأقل اعتماداً على الرقمنة (الخط الأخضر)، وعلى الرغم من أنها لا تزال تحقق ربحية أقل من الشركات التي تمتلك حصة سوقية كبيرة، فإن هذه الشركات تنجح في تقليص هذه الفجوة إلى حد كبير.
تجسّد الشركتان المتنافستان في مجال البرمجيات، إنتويت (Intuit) وأوتوديسك (Autodesk)، مثالاً جيداً على هذه النتائج. بناءً على مقياسنا للتحول الرقمي، تحتل شركة أوتوديسك مرتبة بين أفضل 10% من الشركات الأكثر اعتماداً على الرقمنة وتمكنت من مضاعفة حصتها السوقية 3 مرات بمرور الوقت، على الرغم من ذلك، فقد انخفضت ربحيتها من حيث العائد على الأصول بأكثر من 50% خلال الفترة نفسها، وبالتالي، وفقاً لنتائجنا، لم تتمكن الشركة التي تعتمد بشدة على الرقمنة من الاستفادة من زيادة حصتها السوقية في تحقيق ربحية أعلى. في المقابل، كانت شركة إنتويت،التي تعتمد بدرجة مماثلة على التحول الرقمي، تتمتع بحصة سوقية مستقرة بمرور الوقت، لكنها تمكنت من زيادة ربحيتها بأكثر من 50% بمرور الوقت.
بناءً على النتائج التي توصلنا إليها، نجد أن زيادة الحصة السوقية بنسبة 1% في المتوسط للشركات الأقل اعتماداً على الرقمنة تؤدي إلى زيادة بنسبة 0.26% في الدخل الصافي؛ أي ما يعادل 829,400 دولاراً للشركات العادية. في المقابل، فإن زيادة الحصة السوقية بنسبة 1% للشركات الأكثر اعتماداً على الرقمنة تؤدي إلى زيادة الربحية بنسبة 0.15% فقط؛ أي ما يعادل 452,400 دولاراً. بعبارة أخرى، يمكن أن تصل نسبة الخطأ في تقديرات المستثمرين والمدراء القائمة على التوقعات التقليدية للعلاقة بين الحصة السوقية والربحية في تقديراتهم إلى نسبة 50% تقريباً إذا لم يأخذوا في حسبانهم مستوى التحول الرقمي للشركة. يعني ذلك أنه كلما أصبحت الشركة أكثر اعتماداً على الرقمنة، قلّ اعتماد الإدارة العليا على الحصة السوقية بوصفها أولوية أساسية لزيادة الربحية، وكلما كانت الشركة أصغر، زادت أولوية التحول الرقمي في تعزيز الربحية.
يتضح هذا في (الشكل 1)، حيث ثمة عوامل أخرى. يعتمد أثر التحول الرقمي للشركة في العلاقة بين الحصة السوقية وزيادة الربحية أيضاً على عوامل محددة تتعلق بالشركة والسوق. لاحظنا في بحثنا بروز 4 سمات رئيسية واضحة. في ظل التحول الرقمي، تصبح العلاقة بين الحصة السوقية وزيادة الربحية أضعف بدرجة ملحوظة
- بالنسبة للشركات التي تولي أهمية استراتيجية للاستحواذ على القيمة (مثل الإعلانات) على حساب خلق القيمة (مثل البحث والتطوير) وكذلك بالنسبة للشركات العاملة في قطاع التعامل التجاري بين الشركات. تتوافق هذه النتائج مع تجربة الشركات الصغيرة مع الإعلانات الرقمية على سبيل المثال؛ إذ يمكنها الاستفادة من مرونة الإعلانات الرقمية التي تتناسب مع أي ميزانية وتحقق كفاءة عالية بفضل قدرتها على استهداف جمهور محدد بدقة، ومنه المؤثرون المتخصصون في مجالات معينة والمتابعون المخلصون للعلامة التجارية عبر الإنترنت. فيما يتعلق بقطاع التعامل التجاري بين الشركات، حيث تكون عمليات الشراء أكثر شمولاً وتعقيداً، تزداد قدرة الشركات الصغيرة التي تتمتع بحضور قوي عبر الإنترنت على منافسة الشركات الكبيرة. بالإضافة إلى ذلك، تتميز الشركات الصغيرة بتركيز أكبر على مجالات محددة وتتمتع بمرونة أعلى، ما يمكّنها من توفير حلول رقمية متكاملة لعملائها فتحقق مكتسبات الكفاءة وتعزز قدرتها على منافسة الشركات الأكبر حجماً والأقل مرونة.
- في المقابل، تكون العلاقة بين الحصة السوقية وزيادة الربحية أقوى بالنسبة للشركات التي تركز جهود تحولها الرقمي على تفاعلاتها المباشرة مع المستهلك مثل أنظمة إدارة علاقات العملاء، بدلاً من العمليات الداخلية مثل برامج المحاسبة، وكذلك بالنسبة للشركات التي تدير منصات رقمية تتيح لها بيع منتجاتها للمستهلكين مباشرة عبر الإنترنت، مثل شركة إتسي (Etsy) وشركة كارز دوت كوم (Cars.com). تعمل القدرات الرقمية على تعزيز القدرات المتفوقة التي تتمتع بها الشركات الكبيرة فيما يتعلق بجمع كميات كبيرة من بيانات العملاء وتحليلها والاستفادة من ارتفاع مستوى الوعي بعلامتها التجارية في زيادة أثر التسويق الشفهي عبر الإنترنت والحصول على مراجعات وتقييمات إيجابية. بالطريقة نفسها، يمكن أن تستفيد الشركات الكبيرة من قاعدة مستهلكيها الكبيرة الحالية في توليد تأثيرات الشبكة الإيجابية عندما تطلق منصة رقمية جديدة.
خلاصة القول: لا تزال الحصة السوقية مهمة، لكن بدرجة أقل مما كانت عليه في الماضي. فكلما زاد اعتماد الشركات على الرقمنة، انخفض مستوى التوقعات حول زيادة ربحيتها من خلال نمو الحصة السوقية، ولا سيما عندما لا تدير هذه الشركات منصة رقمية تتيح لها بيع منتجاتها للمستهلكين مباشرة عبر الإنترنت أو لا تركز استراتيجية تحولها الرقمي على جذب العملاء الخارجيين. في الوقت نفسه، ينبغي للشركات التي تمتلك حصة سوقية منخفضة تحديداً الاستفادة من التحول الرقمي في زيادة ربحيتها وتضييق فجوة الأرباح بينها وبين منافساتها التي تملك حصصاً سوقية أعلى.