في عام 1933، توصلت مختصة علم النفس الألمانية هيدفيغ فون ريستورف (Hedwig Von Restorf) إلى اكتشاف علمي فحواه أن الدماغ البشري يبحث باستمرار عبر حاسة الرؤية عن الأشياء غير المألوفة، ما يعني أننا ننتظر باستمرار أن يجذب أي شيء غير عادي انتباهنا، وبناء عليه صاغت مصطلح تأثير فون ريستورف (Von Restorff Effect) الذي يعبّر عن انحياز سلوكي يصف ميل الإنسان لتذكر العناصر المختلفة اختلافاً بارزاً ضمن قائمة من العناصر المتجانسة، أي أنه من المرجح أن يتذكر الإنسان الأشياء غير العادية أو الغريبة أكثر من الأشياء أو الأحداث المألوفة. على سبيل المثال، لو عُرض علينا قائمة من الكلمات مكتوبة بالطريقة ذاتها من حيث نوع الخط واللون والحجم، وتضمّنت هذه القائمة كلمة واحدة مختلفة على نحو بارز، (الكلمة الوحيدة المكتوبة باللون الأخضر)، فمن المرجح أننا سنلاحظها أكثر ويكون تذكرها أسهل مقارنة بباقي الكلمات. لعّل أشهر شخص استخدم هذا التأثير هو دونالد ترامب في حملته الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، حيث لطالما سار عكس التيار السائد بتصريحاته الغريبة غير المتوقعة وسلوكياته وحركاته التي قلما تصدُر من شخص في منصب رئيس دولة ديمقراطية. في عالم التسويق، يظهر تأثير فور ريستورف جلياً في الحملات الإعلانية التي تهدف للتميّز، إذ يسعى المسوّقون لتمييز حملتهم الإعلانية وجعلها سهلة للملاحظة والتذكُر من خلال تضمين عناصر غير معتادة، مثل الرسالة الإعلانية المبتكرة أو طريقة عرض الإعلان الجديدة أو الألوان غير المعتادة للموقع الإلكتروني أو غير ذلك من العناصر البارزة. إعلانات آبل كانت لافتة جداً في عصر ستيف جوبز، وأحد أشهر هذه الإعلانات هو إعلان "1984".
على المستوى الشخصي المهني، فجذب انتباه الآخرين في العمل يُعزز فرصك في النجاح الوظيفي ببساطة، سواء من منصبك التشغيلي أو من منصبك القيادي. المؤلف بن بار (Ben Parr) صاحب كتاب "العلم الكامن وراء جذب انتباه الآخرين" يقول: "يتوقف نجاحك على المدى البعيد على جذب انتباه الآخرين وكسب اهتمامهم والقدرة على لفت انتباه شخص ما كيفما كان. فكيف تلفت انتباه الناس؟ إذا كان مديرك لا يلاحظ عملك، فكيف ستحصل على ترقية؟ وإذا كان فريقك لا يصغي إليك، فكيف يمكنك قيادته بفعالية؟ وإذا كنت غير قادر على جذب انتباه الزبائن، فكيف يمكن لشركتك أو مسيرتك المهنية الاستمرار؟". فيما يلي، 4 انحيازات سلوكية تقع على النقيض من تأثير فون ريستورف، وقد تسلبُك القدرة على التميّز وجذب الانتباه في العمل، لذلك احذر الوقوع فيها.
- تأثير العربة (Bandwagon Effect): انحياز سلوكي يظهر عندما يكون الدافع الأساسي وراء القيام بعمل ما هو قيام أشخاص آخرين به، وذلك بغض النظر عن المعتقدات الخاصة التي قد يتم تجاهلها. يُطلق على هذا التصرف أيضاً، أي التشبه بالآخرين في أفعالهم وسلوكياتهم، مصطلح "عقلية القطيع". تعود جذور مصطلح "تأثير العربة" إلى الممارسات السياسة، لكن تأثيراته واسعة النطاق، وهي شائعة في سلوك المستهلك وأنشطة الاستثمار، ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة في الأسواق الناشئة. يمكن أن يُعزى تأثير العربة إلى عوامل نفسية واجتماعية واقتصادية، لكن أهم دافع هو رغبة الناس في الامتثال وعدم الاختلاف عن الآخرين، ومن أمثلته تصويت الناس للمرشح الذي يبدو أنه يتمتع بأكبر قدر من الدعم لأنهم يريدون أن يكونوا جزءاً من الأغلبية. أما في مجال التسويق، فعادة ما يتبع المستهلك آراء المستهلكين الآخرين من أقاربه وأصدقائه الناتجة عن تجربتهم لمنتج ما، ويكوّن عنه صورة ذهنية حتى قبل استخدامه.
- تأثير سيملفيس (Semmelweis Effect): يعبّر عن الميل إلى رفض المعلومات أو المعرفة الجديدة تلقائياً لمجرد أنها تتعارض مع التفكير السائد أو المعتقدات والأعراف الحالية. غالباً ما يُلاحظ هذا المنعكس بين الأكاديميين في مجال العلوم عند طرح نظرية جديدة لا يرغب معظمهم في قبولها على الفور، ونظرية "كروية الأرض" خير دليل على ذلك. انفتاحك على المعلومات والمعارف الجديدة يجعلك شخصاً تتمتع بعقلية التعلم مدى الحياة، وهذا في حد ذاته ميزة كبيرة لجذب الانتباه في مكان العمل نظراً لأن من يطوّر معارفه باستمرار سيكون لم أفكار أو منتجات مبتكرة بالضرورة تجلب الانتباه والاهتمام. اشتُق اسم المصطلح من تجربة الطبيب المجري إجناتس سيملفيس (Ignaz Semmelweis) الملقب بـ "منقذ الأمهات"، والذي اكتشف عام 1847 خلال عمله في مصلحة التوليد بمستشفى فيينا بالنمسا، أن معدل وفيات الأمهات المصابات بحمى النفاس قد تراجع عشرة أضعاف عندما غسل الأطباء أيديهم بمحلول الكلور بعد كل تعامل مع مريضة، ونشر كتاباً حول حمى النّفاس وكيفية الوقاية منها، لكن توصياته بغسل اليدين حظيت بمعارضة شرسة من معاصريه، ولم يتم العمل بها إلاّ بعد وفاته بعدة سنين.
- تأثير النعامة (Ostrich Effect): انحياز قريب من الانحياز السابق، ويصف الميل نحو تجاهل المعلومات الخطيرة أو السلبية عن طريق تجنب سماعها أو التظاهر بعدم وجودها. يرجع أصل المصطلح إلى المعلومة الشائعة غير الصحيحة عن طائر النعامة الذي يدفن رأسه في الرمال عندما يُحس بالخطر. قد يكون الدافع وراء ظهور هذا الانحياز هو أننا قد اتخذنا قراراً بالفعل حول موضوع معين، وقد يكون هذا التحيز مؤشراً على أننا نريد فقط النظر في الجوانب الإيجابية المرتبطة بموضوع ما. استُخدم المصطلح أول مرة من طرف الباحثين غالاي وسايْد عام 2006، وذلك عندما وصفا في مقال لهما المستثمرين الذين يتجاهلون المعلومات المالية السلبية ويعتبرونها غير موجودة.
- الفكر السائد (Common Wisdom): يُسمى أيضاً "الفكر التقليدي" (Conventional Wisdom)، وهو مصطلح ابتكره الدبلوماسي والخبير الاقتصادي جون كينيث غالبريث (John Kenneth Galbraith) في مقال طويل نشره عام 1958 بعنوان "مجتمع الوفرة" (The Affluent Society)، ويُقصد به الأفكار المعهودة القابلة للتنبؤ وآراء الخبراء التي تعد مقبولة ومسلماً بها عموماً، فهي الفكر الذي يُجمع عليه غالبية الناس ويعتمدون عليه لاتخاذ قرارات حياتهم اليومية، وعند طرح أفكار جديدة؛ فإنها تُقارن به قبل الحكم بصوابها، ويتسم باختلاف مدى دقته وفقاً للظرف أو الموقف، إضافة إلى بطئ وتيرة تغيره عموماً؛ فمن أمثلة الفكر السائد التي شاعت لوقت طويل، حصر دور المرأة في الأعمال المنزلية فقط، إلا أن هذه الفكرة تغيرت بمُضي الوقت، وأصبحت المرأة اليوم تُسهم مساهمة فعالة في الميادين العلمية والسياسية والإدارية. ينطوي الفكر السائد على الأفكار المقبولة، لا على الحقائق، وما يكون فكراً سائداً اليوم، يمكن ألا يكون كذلك في المستقبل، ويعدّ التجديد وتحدي اللامعقول والتغيير من أبرز نقائضه، ويسود في السياسة والتعليم والرعاية الصحية والإدارة والعلوم والاقتصاد.
الموظفون أو القادة الذين ينتبهون لهذه الانحيازات السلوكية الفطرية، ولا يتركون عملية اتخاذ القرار فريسة لها هو أكثر قدرة على البروز وجذب الانتباه بطريقة إيجابية بناءة في مكان العمل. يقول بن بار: "الاهتمام هو أهم عُملة يمكن لأي شخص أن يمنحك إياها. إنه يساوي أكثر من المال والممتلكات".