ملخص: الإجهاد المتناهي الصغر هو تراكم الضغوط الصغيرة غير الملحوظة الناجمة عن التفاعلات الروتينية، وهي لحظات قصيرة جداً لدرجة أننا بالكاد ننتبه لها. قد يبدو أنه من الممكن التحكم في مصادر الإجهاد المتناهي الصغر كلاً منها على حدة، لكن تأثيرها التراكمي يمكن أن يخلق مشاكل كبيرة. كيف يمكننا تحديدها والتقليل من أثرها؟ تحدد هذه المقالة، التي تستند إلى أبحاث وتجارب أُجريت في العديد من المؤسسات المدرجة في قائمة فورتشن 100، 5 خطوات تساعدك على تحديد مصدر الضغوط التي تتعرض لها وكيف يمكنك الحد من تأثيرها بطريقة تحافظ خلالها على علاقاتك.
مُستنزف؛ مرهق؛ كليل؛ الاحتراق الوظيفي؛ كلمات شائعة يستخدمها الموظفون لوصف حالتهم في حياتهم المهنية والشخصية، والوضع آخذ في التدهور فعلاً. فوفقاً لبحث أجراه معهد إنتاجية الشركات (i4cp) في عام 2021، يُعد الاحتراق الوظيفي السبب الرئيسي الذي يدفع الموظفين إلى البحث عن الراحة ربما عن طريق وظيفة جديدة أو فرص التقدم أو الرواتب الأعلى، والأهم من ذلك، المرونة المستمرة. وقد أشار 67% من الموظفين الذين شملهم الاستقصاء في المؤسسات الكبيرة (التي توظف أكثر من 1000 شخص) إلى أن الاحتراق الوظيفي هو السبب الرئيسي لخسارة المواهب المحتملة في مؤسساتهم.
يمكننا بسهولة إلقاء اللوم على وتيرة العمل وحجمه، لكن بحثنا يشير إلى أن السبب الحقيقي غالباً ما يكون أدق في الواقع. لا يتعلق الأمر بزيادة عبء العمل بقدر ما يتعلق بحجم العمل التعاوني المطلوب الذي ازداد كثيراً في عملنا. لقد خلق ذلك شكلاً جديداً من التوتر وثقناه في كتابنا الجديد "أثر الإجهاد المتناهي الصغر: كيف تتراكم الأشياء الصغيرة وتخلق مشاكل كبيرة، وماذا نفعل حيال ذلك" (The Microstress Effect: How Little Things Pile Up and Create Big Problems — and What to Do About It). الإجهاد المتناهي الصغر هو التراكم المستمر للضغوط الصغيرة غير الملحوظة الناجمة عن التفاعلات الروتينية مع الآخرين في حياتنا، وهي لحظات قصيرة جداً لدرجة أننا بالكاد ننتبه لها. قد يبدو أنه من الممكن التحكم في مصادر الإجهاد المتناهي الصغر كلاً منها على حدة، لكن تأثيرها التراكمي يمكن أن يخلق مشاكل كبيرة.
حددنا 14 مصدراً للإجهاد المتناهي الصغر في بحثنا، وصنفناها إلى 3 مجموعات مختلفة: الضغوط الصغيرة التي تستنفد إنتاجيتك (مثل الزيادة المفاجئة في المسؤوليات) والضغوط الصغيرة التي تستنفد طاقتك العاطفية (مثل إدارة الآخرين) والضغوط الصغيرة التي تتحدى هويتك (مثل الضغط لمتابعة أهداف تتعارض مع قيمك الشخصية).
ما مصدر الإجهاد متناهي الصغر؟
يتسلل الإجهاد المتناهي الصغر إلى حياتنا بطرق لا ندركها في كثير من الأحيان. فيما يلي 14 نوعاً منها، مقسمة إلى 3 فئات. هل تلمس أي منها في حياتك اليومية؟
الإجهاد المتناهي الصغر الذي يستنفد قدرتك على إنجاز المهام
- عدم التوافق بين المتعاونين بشأن أدوارهم أو أولوياتهم
- عدم اليقين بشأن موثوقية الآخرين
- سلوك غير متوقع من شخص في موقع سلطة
- متطلبات العمل التعاوني المتنوعة وذات حجم العمل الكبير
- تزايد المسؤوليات في العمل أو المنزل
الإجهاد المتناهي الصغر الذي يستنفد طاقتك العاطفية
- إدارة الآخرين والشعور بالمسؤولية تجاه نجاحهم ورفاههم
- المحادثات الصدامية
- انعدام الثقة بشبكة علاقاتك
- الأشخاص الذين ينشرون عدوى التوتر
- المناورات السياسية
الإجهاد المتناهي الصغر الذي يتحدى هويتك
- ضغوط لتحقيق أهداف لا تتوافق مع قيمك الشخصية
- انتهاك إحساسك بالذات؛ ثقتك أو قيمتك أو السيطرة
- التفاعلات المستنزفة أو السلبية مع العائلة أو الأصدقاء
- الزعزعة في شبكة علاقاتك
ركزنا في بحثنا في البداية على 300 شخص من أصحاب الأداء العالي في مؤسسات متعددة الجنسيات، لكننا قيمنا في العام الماضي عينة عالمية تضم أكثر من 11 ألف شخص لفهم مصادر الإجهاد المتناهي الصغر الأكثر شيوعاً على نحو أفضل. أظهر بحثنا بوضوح أن مصدر الإجهاد المتناهي الصغر ليس فقط نتيجة التعامل مع مدير صعب المراس أو ثقافة مكان العمل التي تتسم بالضغط الشديد.
تزداد المشكلة سوءاً في الواقع. فقد أدت التطورات التكنولوجية والتحولات طرأت على المؤسسات لزيادة مرونتها وتقليل التراتبية فيها إلى زيادة الضغوط الصغيرة التي تهدد إنتاجية الموظفين ورفاههم أيضاً. وما يجعل الأمر أكثر تعقيداً هو أن هذه الضغوط الصغيرة تأتي على الأرجح من الأشخاص في حياتنا الشخصية مثل أولئك الذين نواجههم في حياتنا المهنية. مع ذلك، تشير أبحاثنا إلى أنه يمكنك اتخاذ خطوات للتخفيف من تأثير هذه الضغوط في حياتك إلى حد كبير إذا تمكنت من تحديدها.
أين يكون تأثير الإجهاد متناهي الصغر على أشده؟
ما أصبح واضحاً من خلال بحث المتابعة الذي أجريناه هو أن الإجهاد متناهي الصغر يؤثر فينا جميعاً، سواء في العمل أو المنزل، لكن البعض يعانون أكثر من الآخرين. كشف بحثنا وجود علاقة ذات دلالة إحصائية بين التعليم والمستوى الهرمي والعمر وجميع أشكال الإجهاد المتناهي الصغر. ويبدو ذلك منطقياً في البيئة المهنية، لأننا كلما ارتقينا في مؤسساتنا، نتعرض لمزيد من التفاعلات التي تحفز الإجهاد متناهي الصغر، مثل عدم التوافق مع الزملاء والمسؤولية عن إدارة أداء الفرق والمحادثات التصادمية. ما كان مثيراً للاهتمام أننا اكتشفنا أن الحياة الشخصية لهؤلاء الأشخاص كانت أكثر إرهاقاً نتيجة التوقعات المتزايدة لدورهم في تقديم الرعاية والتفاعلات السلبية مع العائلة والأصدقاء والتحديات التي تواجه طبيعتهم من حيث ما يعنيه أن يكونوا أبناءً أو أشقاء "صالحين" يساعدون أفراد أسرهم.
أبلغت النساء على وجه الخصوص عن مستويات أعلى من الإجهاد في 13 من أصل 14 نوعاً من أنواع الإجهاد المتناهي الصغر (وكان الاستثناء الوحيد إبلاغ الرجال بأنهم يعانون مزيداً من التوتر بسبب الزعزعة في شبكاتهم). كانت هناك فجوات ملحوظة خصوصاً بالنسبة للنساء في التفاعلات المستنزفة أو السلبية مع العائلة والأصدقاء والمحادثات التصادمية وحجم المطالب التعاونية وتنوعها. كما أبلغ المشاركون من الأقليات العرقية عن مستويات أعلى من التوتر في مجالات معينة، مثل الضغوط لتحقيق أهداف لا تتوافق مع قيمهم الشخصية والمناورات السياسية وعدم اليقين بشأن مصداقية الآخرين.
الجدير بالملاحظة أن المشاركين اختاروا التفاعلات المستنزفة أو السلبية مع العائلة أو الأصدقاء بصفتها أول مصدر للإجهاد المتناهي الصغر بمعدل ثلاثة أضعاف المصدرين التاليين الأكثر شيوعاً (المحادثات التصادمية والمطالب التعاونية المتنوعة والكبيرة الحجم). وقد شاركنا أحد المشاركين في تجربة تعلّم لاحقة أجريناها في إحدى المؤسسات الكبرى للبيع بالتجزئة تجربته قائلاً:
ابنتي الكبرى هي المصدر الأساسي للبهجة والمعنى في حياتي، وأنا أحبها حباً يفوق الوصف، لكني أشعر بالقلق عليها أيضاً. فهي شديدة الحساسية للتوتر وغالباً ما تلوم نفسها أو تقلق بشأن كل ما يحدث في حياتها مع زوجها وأبنائها ومحيطها الاجتماعي. لحسن الحظ، فهي تثق بي وتتحدث إلي بشأن معاناتها، وأبذل قصارى جهدي لتقديم الدعم لها، لكن ذلك يسبب لي قلقاً مستمراً. يس لدي شك في أن هذا التوتر ينتقل إلى عملي، ما يجعلني أحياناً مشتتة وأفتقر إلى المشاركة بسبب قلقي عليها وعلى ما تواجهه من مشاكل.
تتحدى مثل هذه التجارب الفكر السائد حول الرفاهة، التي تحثنا على زيادة التركيز على بناء علاقات وثيقة وعالية الجودة في حياتنا لتكون مصدراً للسعادة على المدى الطويل. العائلة والأصدقاء والزملاء هم بالفعل مصدر مهم للإحساس بالغاية والإنجاز، لكن يمكن أن يكونوا أيضاً مصدراً مهماً للتوتر.
إذاً ما الذي يجب علينا فعله؟ يختار العديد منا تحمل الإجهاد المتناهي الصغر لأننا لا نستطيع ببساطة التخلي عن أهم العلاقات في حياتنا. يكمن الحل في فهم أن العلاقات ليست بالضرورة ما يجب تغييره، بل التفاعلات التي تنشأ خلالها.
نهج عملي للتعامل مع الإجهاد المتناهي الصغر
يحتاج الأشخاص إلى إدارة تفاعلاتهم اليومية بوعي لتطوير عادة معالجة الإجهاد المتناهي الصغر بمرور الوقت. لاختبار بناء هذه القدرة بنجاح، تعاونا مع العديد من المؤسسات المدرجة على قائمة فورتشن 100، حيث دعت كل مؤسسة مجموعة من 20 موظفاً من أصحاب الأداء العالي (مجموعة متوازنة من الرجال والنساء) للمشاركة في تجربة مدتها 6 أسابيع تهدف إلى الحد من الإجهاد المتناهي الصغر.
طلبنا في بداية الأسبوع الأول من الأشخاص اختيار مصدر واحد للإجهاد المتناهي الصغر سيركزون على معالجته خلال الأسبوع التالي ومشاركتنا خطة مكتوبة لمعالجته. شملت المشكلات الشائعة التي اختارها المشاركون تغيير التفاعلات مع الأشقاء حول رعاية الوالدين المسنين أو التعامل مع قائد يغير توقعاته بسرعة أو معالجة عدم توافق الأهداف مع الزملاء في فريق عمل متعدد الاختصاصات أو تقديم النصح لأحد أعضاء الفريق حول نشرهم للتوتر الذي يعانونه إلى الآخرين دون داعٍ. جمعنا كل مشارك مع مشارك آخر من داخل مؤسسته لدعم بعضهما بعضاً في التغلب على أي تحديات تنشأ في أثناء التجربة. ثم طلبنا منهم في آخر يوم في الأسبوع إرسال رسالة بالبريد إلكتروني تتضمن الخطوات التي اتخذوها والنتائج التي حققوها. كانت مهمتنا، نحن القائمين على التجربة، خلال الأسبوع تقديم الدعم والأفكار حول طريقة التعامل مع مصدر الإجهاد المتناهي الصغر عند ظهور مشكلات أو أسئلة. يمكنك إذا رغبت في إجراء هذه التجربة بنفسك أن تستخدم تطبيقنا المجاني "تأثير الإجهاد المتناهي الصغر" (The Microstress Effect).
كان المشاركون متوترين من اتخاذ إجراءات في البداية، حيث بدا القلق بشأن التعامل مع مصادر الإجهاد المتناهي الصغر بوضوح في رسالتهم الإلكترونية الأولى. ولكن بحلول آخر يوم في الأسبوع، كانت الملاحظات التي تلقيناها في رسائلهم الإلكترونية جميعها إيجابية إلى حد كبير تقريباً، فقد تمكنوا من اتخاذ إجراءات لتقليل الإجهاد المتناهي الصغر الآتي من تفاعلاتهم اليومية، مثل التحدث إلى أحد الأشقاء حول طريقة خلقه للتوتر بشأن رعاية الوالدين أو التواصل مع القائد حول تأثير توقعاته المتغيرة على الآخرين.
مع ذلك، أبلغ المشاركون في بداية الأسبوع الثاني من التجربة عن المستوى نفسه من الخوف الذي عانوه في بداية الأسبوع الأول. فقد وجدوا مرة أخرى صعوبة في الإرادة لتغيير تفاعلاتهم التي تحفز الإجهاد المتناهي الصغر وشعروا في كثير من الأحيان أنه من الأسهل الحفاظ على الوضع الراهن. مرة أخرى، قدمنا لهم الدعم والتشجيع والمساندة، وبحلول نهاية الأسبوع الثاني، اعتبر المشاركون تقدمهم نجاحاً آخر.
شيئاً فشيئاً، كان بمقدورنا رؤية بداية التحول بالنسبة لبعض الأشخاص في الأسبوع الثالث، وبالنسبة للجميع تقريباً بحلول الأسبوع الرابع. بدأت رسائلهم الإلكترونية تعكس ثقة متزايدة بمرور الوقت، حيث أظهرت أن المشاركين بدؤوا التفكير ملياً في إزالة الإجهاد المتناهي الصغر وإضافة تفاعلات إيجابية في حياتهم، وقد لاحظنا تحسناً في قدرتهم على تحديده والتحلي بالشجاعة لاتخاذ إجراء للحد منه وإجراء محادثات صعبة لمعالجته. والأهم أن ذلك منحهم شعوراً بالسيطرة على حياتهم. يصف أحد المشاركين الذين ركزوا على معالجة الإجهاد المتناهي الصغر المتمثل في "الزيادات المفاجئة في تحمل المسؤولية" تجربته قائلاً:
"أخذت زمام المبادرة ووضعت التوقعات وحددت أدوار الآخرين بدلاً من ترك الموقف غامضاً وتولي المزيد من العمل. أدركت أنني كنت أتحمل أكثر مما يمكنني إنجازه بدلاً من تحميل الآخرين المسؤولية عن مهامهم وإنجازاتهم، لأجد نفسي بمرور الوقت مثقلاً بالعمل الإضافي. لقد أدى إدراكي لهذا الجانب وإعادة توجيه الأشخاص بلطف بطريقة تبني قدراتهم إلى تقليل حجم العمل والتوتر الذي أتعامل معه الآن إلى حد كبير. من الصعب تصديق أنني لم أدرك ذلك فيما مضى؛ كنت ضائعاً فعلاً في خضم ذلك كله".
كان هذا الجزء الجانب الأكثر إثارة وإفادة من عملنا. لقد بدأ المشاركون رؤية عوالمهم بطريقة مختلفة من خلال اتخاذ خطوات صغيرة وملموسة أسبوعياً، وبدؤوا في اكتشاف طرقٍ يمكنهم من خلالها تشكيل تفاعلاتهم اليومية بطريقة تحد من الإجهاد المتناهي الصغر وتحسين نوعية حياتهم.
خطة من 5 خطوات للحد من الإجهاد المتناهي الصغر
كانت إحدى الرؤى الرئيسية المستخلصة من تجربتنا هي أن المشاركين بحاجة إلى بناء استعدادهم وقدرتهم على تحديد الإجهاد المتناهي الصغر في حياتهم ومعالجته ببطء وتدريجياً، إذ من غير المجدي التعامل مع مصادره جميعها دفعة واحدة. ولكن استناداً إلى بحثنا والتكرارات العديدة لهذه التجربة التي استمرت 6 أسابيع، حددنا 5 خطوات رئيسية يمكنك اتخاذها للبدء بالسيطرة على الإجهاد المتناهي الصغر.
ابدأ بخطوات صغيرة
يمكن أن يكون للتغييرات البسيطة تأثير إيجابي في رفاهنا، لذلك التزم بمعالجة مصدر واحد صغير وسهل التحكم فيه من مصادر الإجهاد المتناهي الصغر كل أسبوع خلال الأسبوعين الأولين لمساعدتك على بناء الثقة وتعزيز عقلية مختلفة وتنمية الشعور بالسيطرة. تجنب في هذه المرحلة التركيز على الضغوط الأكبر (والأصعب والأكثر رسوخاً) التي يمكن أن تعوقك عن التعامل مع الضغوط التي يمكنك السيطرة عليها. فيما يلي الطريقة التي عالج بها أحد المشاركين الإجهاد المتناهي الصغر المتمثل في "انعدام الثقة في شبكة العلاقات":
"أعتقد أني كنت أكثر انفتاحاً وكشفت عن ضعفي بشأن عملي والأسئلة التي كانت لدي. لقد طلبت المساعدة في أحد جوانب العمل مرتين، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لي، وشاركت في مناقشات مع العديد من أعضاء الفريق حول عبء عملي الحالي لذلك الأسبوع، وحرصت على الاستفسار عن مهامهم وكيفية تقدمهم في العمل. أعتقد أن الأمور سارت على خير ما يرام عموماً. حتى أنني تمكنت من إجراء حوار مع نائب الرئيس المساعد حول قضية تتعلق بمهمة كنت أعمل عليها. كانت هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها إلى مكتبه لطرح سؤال منذ انضمامي إلى العمل هنا! وقد كان لطيفاً ومتعاوناً للغاية.
حوّل انتباهك إلى التفاعلات الإيجابية التي تساعد على بناء القدرة على التحمل
يفترض العديد من الأشخاص أن التعامل مع الضغوط يتطلب استجماع القوة الداخلية من خلال الإرادة الشخصية المطلقة. لكن أبحاثنا تشير إلى أن هناك استراتيجية مكملة تتمثل في تطوير ما ندعوه "شبكة القدرة على التحمل" المكونة من الأشخاص الذين يمكنهم مساعدتنا على التعامل مع الأوقات الصعبة. لقد كشف بحثنا عن أن وجود أشخاص داعمين في حياة المرء يمكنهم تقديم منظور أو المساعدة في رسم طريق للمضي قدماً أو خلق مساحة للاسترخاء أو حتى إضفاء لمسة من الفكاهة يمكن أن يكون له تأثير عميق على قدرتنا على التحمل. من المثير للاهتمام أن هذه التفاعلات غالباً ما تأتي من شبكة متنوعة من العلاقات، وليس فقط من صديق أو شريك مقرب. يعزز التركيز على خلق تفاعلات إيجابية قدرتنا على التحمل عبر مجموعة من الطرق اختبر فوائدها المشاركون في تجربتنا على الفور.
فيما يلي النهج الذي اتبعته إحدى المشاركات لتعزيز شبكة القدرة على التحمل في التجربة، حيث تصف بعض الخطوات التي اتخذتها في سبيل ذلك:
- تخصيص وقت للعب الغولف مع سيدات في النادي لم يسبق لي أن قضيت وقتاً معهن.
- الانضمام إلى دوري الغولف في شركتي مع أحد زميلاتي في العمل، ما ساعدني على تعزيز علاقتي الشخصية بها بدلاً من التركيز فقط على المواضيع المتعلقة بالعمل.
- الانخراط أكثر في الجمعية الخيرية التي أعمل في مجلس إدارتها.
- استفدت كثيراً من توجيه محامٍ جديد.
- تخصيص وقت للعائلة المقربة (قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع والدتي وأختي).
كانت هذه الأنشطة كلها مبهجة وهادفة بالنسبة لهذه المشاركة، لكنها كانت أيضاً خيارات متعمدة للانخراط بأصالة في مجموعة متنوعة من العلاقات التي عززت قدرتها على التحمل في المواقف البسيطة والصعبة على حد سواء. على سبيل المثال، مكّنها إنشاء علاقة ذات طابع شخصي أكثر مع إحدى زميلاتها من الشعور براحة أكبر في طلب مساعدتها على فهم السياسات في مكان العمل، واتضح أن زميلتها تشاركها حسّ الفكاهة حول التعامل مع تحديات العمل. عزز هذان التفاعلان قدرتها على التحمل بطريقة لم تكن لتحققها دون هذه الصلات.
معالجة اثنين من الإجهادات المتناهية الصغر الرئيسية
غالباً ما يساعدك تعزيز شبكة القدرة على التحمل على الانتقال إلى اتخاذ إجراءات بشأن الإجهادات المتناهية الصغير الأهم والأكثر تأثيراً. بعد 4 أسابيع في تجارب التعلم التي أجريناها، شعر المشاركون عموماً بثقة أكبر في قدرتهم على تشكيل التفاعلات وبدؤوا يرون فوائد معالجة الإجهادات المتناهية الصغر في حياتهم، الأمر الذي حفزهم على المضي قدماً للتعامل مع المصادر الأهم لها.
فيما يلي كيف عالجت إحدى المشاركات أحد مصادر الإجهاد المتناهي الصغر الذي اختارته؛ عدم التوافق بين المتعاونين حول الأدوار والأولويات، الذي كان يسبب لها ضغوطاً صغيرة مستمرة:
- إجراء عصف ذهني مع أعضاء الفريق كلاً على حدة، طرحت فيه أسئلة مثل:
- كيف يمكننا تحديد الأدوار والمسؤوليات والأولويات بصورة أفضل على مستوى عالٍ للبرامج التي يتحمل الفريق مسؤوليتها؟
- كيف يمكننا تحديد الأدوار والمسؤوليات والأولويات بصورة أفضل على مستوى أكثر تفصيلاً للمهام أو المشاريع الفردية؟
- كيف يمكن تقديم ما ورد أعلاه وتنفيذه مع الفريق؟
- تعاونت مع مشاركين آخرين في تجربة الإجهاد المتناهي الصغر لتوليد الأفكار حول هذا العمل ومناقشة التقدم المحرز وأي عقبات واجهتهم.
- أخذت زمام المبادرة لتحديد موعد لعقد اجتماع استهلالي مع شركاء العمل لمناقشة التوقعات.
- قدمت اقتراحاً للبدء بوضع بعض الأدلة المرجعية ووثائق الإجراءات، الأمر الذي من شأنه تحديد التوقعات، ليس بالضرورة لكل عضو في الفريق، ولكن للمشاريع والمهام الفردية التي يعمل عليها الفريق. بغض النظر عمن يعمل على مهمة أو مشروع معين، سيكون هناك اتساق مع الهدف النهائي المحدد والمخرجات المتوقعة.
انتبه إلى المجالات التي تسبب لك القلق بسبب اهتمامك بالآخرين
لقد كان المشاركون في تجاربنا عموماً أكثر ميلاً إلى تحديد التفاعلات السامة بصفتها مصادر رئيسية للتوتر. لكننا لاحظنا في منتصف التجربة تحولاً في كيفية إدراكهم لمصدر توترهم. لم تقتصر مصادر الإجهاد المتناهي الصغر الأكثر استنزافاً عاطفياً على "الأشخاص السيئين" في العمل بالنسبة للمشاركين في بحثنا، بل أتت أيضاً من الأشخاص الذين يهتمون بهم بشدة، وقد أعرب المشاركون عن قلقهم الشديد من عدم تلبية توقعات الآخرين أو خذلانهم. على الرغم من أن هذا يشمل العمل في بعض الأحيان، فقد روى من قابلناهم أمثلة عديدة عن الحالات التي كانوا فيها مهتمين جداً برفاهة الأسرة والأشخاص المهمين والأصدقاء لدرجة أنهم أهملوا العناية بأنفسهم، مثل التضحية بوقت نومهم أو وقت الراحة الشخصية أو الانشغال المفرط بمشاكل الآخرين. عندما يعاني الأشخاص الذين نهتم لأمرهم، نشعر بشدة بقلقهم وتوترهم وآلامهم.
ثمة العديد من الخطوات التي يمكنك اتخاذها لإعادة تشكيل تفاعلاتك مع الأشخاص الذين تشعر بالقلق المستمر بشأنهم بطريقة أكثر إيجابية. يمكنك على سبيل المثال تدريبهم على الاستقلالية. شجع أعضاء فريقك على حل المشاكل بأنفسهم بدلاً من الاعتماد المفرط عليك. وقاوم الرغبة لتقديم التوجيه أو المساعدة على الفور، حتى لو بدا ذلك أكثر كفاءة أو جعلك تشعر بالرضا في ذلك الوقت.
يمكنك أيضاً العودة إلى الأساسيات. ابدأ بعلاقتك الأساسية (أي شريكك): احرص على إجراء محادثات منتظمة والتوصل إلى تسويات متبادلة وتوضيح النتائج المهمة لكليكما. على سبيل المثال، كان أحد المشاركين في تجربتنا يجري محادثة "مواءمة" فصلية مع زوجته لضمان توافقهما حول أولوياتهما وطريقة قضاء كل منهما وقته وأنشطته.
وبدأ مشارك آخر بمعالجة "التفاعلات المستنزفة مع العائلة والأصدقاء" من خلال استبدال التزامه المعتاد بقضاء أكثر من ساعتين ونصف الساعة يوم السبت أو الأحد في منزل والديه للدردشة (مع عدم تحديد الوقت واليوم بالضبط حتى اللحظة الأخيرة) بغداء لساعة ونصف الساعة مع والدته بعد ظهر يوم الجمعة (بعد الخروج مبكراً من العمل). وأفاد بأن هذا الإجراء كان:
- مفيداً في توفير المزيد من الوقت وإبقاء عطلة نهاية الأسبوع مفتوحة لأولويات أخرى، مع الحفاظ على التواصل مع والدته.
- مفيداً لأنه وضع الخطة مسبقاً، ما قلل من التوتر المرتبط بعدم اليقين، مثل التعارضات والتعقيدات المحتملة في جدول المواعيد.
- الاستمرار في قضاء بعض الوقت في مواقف منخفضة التوتر للرعاية الذاتية، شملت تناول العشاء أو قضاء الوقت مع أصدقاء "التفاعلات الإيجابية"، وحضور الحفلات الموسيقية، وأخذ يوم إجازة بهدف وحيد هو الاسترخاء وزيارة الأصدقاء. وواصلت جهودي هذه من خلال تناول الطعام بعد العمل مع الزملاء لأكوّن بذلك مجموعة جديدة أتفاعل معها، والخروج في نزهات مع صديق لمجرد الدردشة وتبادل أطراف الحديث، وأخذ يوم إجازة آخر من العمل دون تخطيط للاسترخاء وزيارة الأصدقاء.
لا تعني معالجة الإجهاد المتناهي الصغر بالضرورة أن عليك قطع العلاقات مع الأشخاص الذين ترى أنهم يستنزفونك، ففي كثير من الحالات يكونون أقارب أو زملاء لا يمكنك الابتعاد عنهم، ولكن يمكنك تشكيل التفاعلات التي تجريها معهم بطريقة تحد من الإجهاد المتناهي الصغر.
أخيراً، انخرط في الأنشطة التي توفر لك إحساساً أكبر بالغاية
في الواقع، من المستحيل القضاء تماماً على مصادر الإجهاد المتناهي الصغر جميعها في حياتك حتى مع بذل أقصى جهودك. وهنا يأتي دور استنتاج مهم من بحثنا: أحد أسباب تأثير بعض الإجهادات المتناهية الصغر فينا هو ببساطة لأننا نسمح لها بذلك. لقد اكتشفنا أن الأفراد الأكثر سعادة كانوا أكثر فعالية في وضع الإجهاد المتناهي الصغر في حياتهم في منظوره الصحيح مقارنة بنظرائهم الأقل سعادة، وسبب ذلك انخراطهم في مجموعتين أو 3 مجموعات -خارج نطاق دوائرهم المهنية والعائلية المباشرة- توفر أنشطة هادفة بالنسبة لهم. وقد خدمت الطبيعة المتعددة الأوجه لهذه الأنشطة والمجموعات غرضاً حاسماً، إذ ساعدت الأشخاص على تمييز التفاصيل الصغيرة التي لا تستحق أن تكون أكثر من ذلك، الأمر الذي جنبهم الآثار الساحقة للإجهاد المتناهي الصغر، ومكنتهم من التعامل مع المواقف التي لم يكن بمقدورهم السيطرة عليها.
ندعو ذلك حياة "متعددة الأبعاد". يجد الأشخاص الذين يعيشون حياة متعددة الأبعاد باستمرار، حتى في اللحظات البسيطة، فرصاً للتواصل مع الآخرين خارج بيئات العمل والمنزل، ما يساعدهم على الحد من تأثير الإجهاد المتناهي الصغر. على سبيل المثال، انخرط بعض الأشخاص في أنشطة كانوا يمارسونها في الماضي وساعدتهم على الانخراط في مجموعات جديدة. وأعاد آخرون التواصل مع المعارف أو الأصدقاء القدامى، متبعين نصيحة مؤلفي كتاب "سر الحياة السعيدة" (The Good Life)، مارك شولتز وروبرت والدينغر، بجدولة 7 مكالمات هاتفية لـِ 8 دقائق للتواصل. كان المفتاح هو أن هؤلاء الأشخاص عثروا على علاقات هادفة مع الآخرين، حتى في اللحظات البسيطة.
فيما يلي كيف سعى أحد المشاركين إلى بناء حياة متعددة الأبعاد:
أعتقد أن الأمر بسيط للغاية، ما عليك سوى العثور على مكان تجد فيه عملاً تطوعياً. لدي تاريخ من العمل التطوعي وأفتقده. بعد انتقالي من منزل والديّ، انشغلت كثيراً في حياتي الاجتماعية اليومية والعمل، وتراجع عملي التطوعي إلى حد ما. أشد ما أود فعله الآن العمل في مكان ما في مجتمعي ومساعدة الجيران من حولي. قد يكون إجراء بعض الأبحاث الأساسية عن المجموعات في منطقتي نشاطاً يساعدني في العثور على الفرصة المناسبة.
توجه المؤسسات على مستوى العالم اهتمامها إلى رفاهة موظفيها، وهي محقة في ذلك. لكن العديد من هذه المبادرات الحسنة النية (مثل اليقظة الذهنية والتأمل والامتنان وما إلى ذلك) لا توفر للموظفين سوى جزء من الحل. تركز هذه الجهود في المقام الأول على مساعدة الموظفين على التعامل مع ضغوط الحياة اليومية، لكنها تركز بصورة أقل على مساعدتهم على التخلص من بعضها. يمكن أن يكون لتزويد الموظفين بالأدوات ومهارات التواصل والدعم المؤسسي الصريح للتخفيف من الإجهاد المتناهي الصغر في العمل والمنزل تأثير كبير. لكن التعامل مع الإجهاد المتناهي الصغر في جوهره هو مسعىً شخصي. عليك أن تتعرف على مصادر الإجهاد المتناهي الصغر في حياتك التي تؤثر فيك إلى حد كبير ومن ثم العثور على طرق للتخفيف من أثرها.
ما يدعو للتفاؤل أن ذلك ممكن. فلدينا القدرة على تشكيل تفاعلاتنا وأنشطتنا في حياتنا الشخصية والمهنية. ربما تخلينا عن الكثير من السيطرة على حياتنا، ولكن ليس بعد الآن.