ملخص: يركز معظم مدراء المشاريع على التخطيط والتنفيذ؛ لكن، يندر أن تتقدم المشاريع الكبيرة في خط سير مستقيم، وفي كثير من الأحيان لا يراعي مدير المشروع الافتراضات الأساسية في تخطيط المشروع الأولي فينحرف التنفيذ في اتجاه خاطئ قبل أن يدرك الحاجة إلى إجراء تغييرات. لا تعالج المنهجيات المرنة هذه المشكلة على نحو ملائم لأنها تركز على إعادة التمحور والاستجابة للمشكلات بدلاً من تجنبها منذ البداية. يقترح المؤلف، وهو مستشار استراتيجي للشركات الكبيرة، أن يتبنى قادة المشاريع عقلية مشابهة لعقلية مؤسسي الشركات الناشئة ويستفيدوا من الأدوات السائدة في ذلك القطاع، مثل مخطط المشروع وتطوير العملاء وغيرها. من خلال تبني هذا النهج، يمكن لقادة المشاريع تحديد بعض أهم الأسئلة والمخاطر المرتبطة بالمشروع ومعالجتها قبل الشروع في التنفيذ على نطاق واسع.
في معظم المؤسسات، غالباً ما تكون المشاريع عبارة عن جهد مؤقت لتحقيق هدف محدد، مثل تنفيذ نظام ما أو طرح منتج جديد أو حل مشكلة تتعلق بالعملاء، ويقود مدراء المشاريع الفرق لتحقيق هذه الأهداف ضمن إطار زمني وميزانية محددين مسبّقاً. لذلك غالباً ما يركز التدريب المقدم لمدراء المشاريع على مهارات التخطيط والتنفيذ، التي تشمل تحديد العمل الذي يتعين أداؤه ومعايير النجاح المتفق عليها ووضع خطة عمل وتجميع الفريق وتخصيص الموارد وتتبع التقدم وضمان إنجاز المشروع بنجاح.
لكن التركيز على التخطيط والتنفيذ يتجاهل حقيقة أساسية، وهي أن معظم المشاريع الواسعة النطاق لا تتقدم في خط سير مستقيم مثل المخطط الهندسي، خصوصاً التي تنطوي على قدر كبير من عدم اليقين. يُعرف عن الملاكم مايك تايسن قوله: "يملك كل منا خطة إلى أن يتلقى لكمة على فمه". في تلك المرحلة، لا تعود الخطة الأصلية قابلة للتطبيق ويجب إعادة النظر في الافتراضات التي قامت عليها، ويجب على مدير المشروع إجراء التعديلات عليها في أثناء العمل.
في أثناء عملي مستشاراً للمؤسسات الكبيرة التي تنفذ مشاريع كبيرة، لاحظت أن مدراء المشاريع الناجحين الذين يديرون مشاريع معقدة يسودها قدر كبير من عدم اليقين يجرون تعديلات مستمرة لكنهم لا ينتظرون ظهور المشكلات للتفاعل معها، وهم على غرار مدراء الشركات الناشئة يبدؤون العمل على مشاريعهم بافتراض أنه لا يمكن تحقيق أهدافها إلا من خلال الاكتشاف والتكرار المستمرين، وليس من خلال تنفيذ خطة عمل محددة (لكي أكون واضحاً، لا أتحدث هنا عن إدارة المشاريع المرنة، وهو نهج محدد يعتمد على إجراء التعديلات أو "إعادة التمحور" عندما تتغير الظروف أو تتوافر معلومات جديدة. بدلاً من ذلك، على مدراء المشاريع تغيير عقلياتهم وعمليات التخطيط التي يتبعونها بهدف توقع تلك التغييرات، وبالتالي تقليل الحاجة إلى إعادة التمحور باستمرار). سأشرح في هذه المقالة كيف يمكن لمدراء المشاريع تحقيق هذا التحول من خلال دمج العديد من الأدوات المفيدة جداً من عالم الشركات الناشئة في عمليات إدارة مشاريعهم.
إذا لم تفكر مثل شركة ناشئة
دعونا أولاً نفهم كيف يمكن أن يتعثر المشروع النموذجي عندما يركز مدير المشروع على التنفيذ فقط ولا يتبنى عقلية الشركة الناشئة: قبل سنوات قليلة، عملت مستشاراً مع شركة للأغذية الاستهلاكية المعبأة كانت تحقق نمواً سريعاً من خلال الاستحواذ على العديد من العلامات التجارية. كلّف الرئيس التنفيذي والرئيس التنفيذي للشؤون المالية أحد كبار قادة تكنولوجيا المعلومات بتنفيذ نظام لإعداد التقارير المالية للشركات المستحوذ عليها بهدف جمع البيانات من العلامات التجارية جميعها ودمجها معاً بطريقة تعكس الأداء العام للشركة. كان الهدف من هذه العملية إعداد هذا النظام وتشغيله بكامل طاقته في غضون عام واحد.
بعد الاتفاق على التقارير المحددة المطلوبة، اختار مدير المشروع شركة برمجيات مؤسسية ذات سمعة طيبة ثم شكّل فريقاً من خبراء الماليات وتكنولوجيا المعلومات لتثبيت نماذج التمويل اللازمة لكل علامة تجارية داخل المؤسسة. على هذا النحو، كان هذا المشروع المرن يركز بصورة أساسية على تنفيذ البرنامج، إذ تتضمن العملية تعديل الأنظمة وفقاً لخصائص كل علامة تجارية ثم اختبارها والتدريب عليها وتشغيلها بالتوازي وتصحيح أخطائها وما إلى ذلك. بعد 9 أشهر من بدء العملية وإنفاق بضعة ملايين من الدولارات، بدأ تشغيل النظام وكان بمقدور العلامات التجارية كافة إنتاج مجموعة التقارير نفسها وهي تشمل البيانات المتعلقة بحجم المبيعات والمخزون وتكلفة الوحدة وغير ذلك، لكن كل علامة تجارية استخدمت معايير وتعريفات مختلفة. على سبيل المثال، استخدمت بعض العلامات التجارية الرطل وحدة قياس للوزن، واستخدمت أخرى الكيلوغرام، وبالمثل، حدد بعضها وحدة القياس بالعلبة وحددتها أخرى بالكيس أو منصة التحميل، وهكذا دواليك. لذلك، وعلى الرغم من تنفيذ البرنامج بنجاح، بقي إعداد التقارير المالية للشركات مربكاً يتطلب قدراً هائلاً من العمل اليدوي لتفسيره نظراً لاختلاف المقاييس والتعريفات التي تستخدمها كل علامة تجارية، ونتيجة لذلك لم يتحسن وضع الشركة بصورة ملموسة عما كان عليه قبل إطلاق المشروع.
وباسترجاع ما حدث، من الواضح أنه كان على مدير المشروع إدراك أن كل علامة تجارية تستخدم وحدات قياس وتعريفات مختلفة، لكن الكشف عن الاختلافات بين العلامات التجارية والتعامل معها كان يتطلب منه توظيف مهارات متطورة جداً مثل الاسكتشاف والتيسير والتفاوض وإنشاء رؤية مشتركة والتجريب، وغيرها. كان يجب أن يكون التنفيذ الفعلي للأنظمة، الذي كان مجال خبرة مدير المشروع، مجرد جانب صغير نسبياً (لكنه لا يزال حاسماً) من المشروع بأكمله.
نهج الشركات الناشئة لإدارة المشاريع
باختصار، كان اتباع هذا النهج سيتطلب من مدير المشروع أن يفكر مثل قائد شركة ناشئة، لا مجرد منفذ للمشروع. ولحسن الحظ، هناك مجموعة معروفة من الأدوات الممتازة المتاحة للشركات الناشئة طورها ستيف بلانك وآخرون، وهناك تحديداً 4 أدوات ذات أهمية كبيرة لمدراء المشاريع ويمكن تكييفها لتناسب غايتهم، وهي:
- مخطط إدارة المشروع: وثيقة من صفحة واحدة تصف عرض القيمة للمشروع وأصحاب المصالح المختلفين والشركاء المحتملين وتسرد الموارد التي قد تكون مطلوبة وتسلط الضوء على مسارات العمل الرئيسية. إنشاء هذه الوثيقة هو في الواقع وسيلة للإجابة عن الأسئلة المهمة في بداية المشروع وتصور كيفية توافق عناصر المشروع جميعها معاً. فيه ميل إلى وضع افتراضات والبدء سريعاً بتنفيذ المشروع، خصوصاً إذا كانت هناك مواعيد نهائية صارمة له، لكن أخذ الوقت الكافي لإجراء هذه العملية بعناية يسمح بالتمعن في الافتراضات والاحتياجات وفحصها بدقة قبل بدء المشروع.
- عملية تطوير العملاء: تتضمن مناقشة مخطط إدارة المشروع مع أكبر عدد ممكن من أصحاب المصلحة والشركاء المحتملين بهدف فائدة المشروع المقترح وآثاره.
- الحد الأدنى القابل للتنفيذ من المشروع: ينطوي على تنفيذ تجربة صغيرة محدودة النطاق لتحقيق نتائج مبكرة وتعزيز التعلم وحشد المزيد من التأييد للمشروع.
- استراتيجية التنمية: خطة للاستفادة من نتائج التجربة الصغيرة السابقة والانتقال إلى التنفيذ على نطاق أوسع.
من خلال استخدام هذه الأدوات، يمكن لمدير المشروع العمل بالتدريج نحو تحقيق الهدف النهائي للمشروع من خلال سلسلة من المراحل المتتالية التي تتضمن الاكتشاف والتعلم والاختبار والقياس، بدلاً من مجرد التركيز على التنفيذ.
في نهاية المطاف، اعتمد مدير المشروع في شركة المنتجات الاستهلاكية التي عملت معها عملية تكرارية مشابهة لتلك التي تتبعها الشركة الناشئة، مع بعض التشجيع من الرئيس التنفيذي والدعم من إدارة الموارد البشرية. بمجرد أن أدرك مدير المشروع أن التقارير "المعتادة" لم تكن مستخدمة فعلياً في أنحاء المؤسسة كافة، نظّم ورشة عمل ليومين في المقر الرئيس للقادة الماليين للعلامات التجارية كافة. كانت ورشة العمل في الأساس أشبه بجلسة مكثفة لتطوير العملاء حيث أُتيحت الفرصة ليعبر الجميع عن أفكارهم حول ما يتطلبه وضع مقاييس موحدة لإعداد التقارير المالية. اتفق الفريق أيضاً على الفئات الأولية التي ستُدرج في النموذج الموحد (أقرب إلى الحد الأدنى القابل للتطبيق من المشروع) بحلول فترة التقرير التالية. أتاحت تجربة الحد الأدنى القابل للتطبيق من المشروع توسيع نطاق الجهود على مدى الأشهر الستة اللاحقة وتحقيق هدف إعداد التقارير المؤسسية، وإن كان ذلك في وقت متأخر عن الموعد المقرر وبتكلفة أعلى.
من بداية المشروع:
من الأفضل بالطبع اعتماد منهج الشركات الناشئة منذ بداية المشروع. لننظر إلى حالة شركة أدوية عالمية كبيرة عملت معها مستشاراً منذ وقت ليس ببعيد: طورت الشركة مئات الأدوية المستهدفة أو رخصت استعمالها، لكن عدة من هذه الأدوية لم يحظ باهتمام كافٍ من فرق التسويق والمبيعات لأنها كانت تستهدف مجموعة صغيرة نسبياً من المرضى. مع ذلك، لا تزال تلك الأدوية تحمل براءة اختراع ومفيدة لمجموعات محددة من المرضى. لذلك كلف رئيس العمل التجاري أحد أعضاء فريقه بتنظيم مشروع وإدارته بهدف توليد إيرادات إضافية من هذه الأصول الموجودة بالفعل.
بدلاً من الانتقال بسرعة إلى مرحلة التخطيط للتنفيذ -مثل المسارعة إلى اختيار منتج أو اثنين وتخصيص موارد تسويقية لكل منهما- استفادت مديرة المشروع من مناقشاتها الأولية مع المسؤول التنفيذي التجاري للتحقق من النطاق المحتمل للمشروع، إذ ناقشا الأهداف العامة والأشخاص الرئيسيين الذين يجب إشراكهم والأسئلة التي تجب الإجابة عنها والموارد التي يُحتمل أن تكون مطلوبة والحوكمة المقترحة وغير ذلك؛ أي أن المناقشة مثلت مخطط المشروع فعلياً.
ثم شاركت مديرة المشروع أفكارها الأولية هذه مع الرئيس الذي بدأ المشروع، وبعد التأكد من دقة مخطط المشروع بدأت إجراء مقابلات مع العديد من أصحاب المصلحة، ومنهم قادة المبيعات الإقليميون وخبراء تسويق المنتجات والمحللون الماليون ومحللو المنتجات وغيرهم. هدفت اجتماعات "تطوير العملاء" هذه إلى معالجة العديد من الأسئلة: ما المنتجات التي يمكنها مساعدة أكبر عدد من المرضى؟ ما التأثير المالي لزيادة مبيعات هذه المنتجات؟ ما العوامل التي كانت تمنع فريق المبيعات من التركيز على هذه المنتجات؟ ما المواد التسويقية التي ستكون ضرورية؟ وأسئلة أخرى.
نتيجة لاجتماعات تطوير العملاء، جمعت مديرة المشروع قائمة واعدة تضم 20 إلى 25 منتجاً تنطوي على إمكانات كبيرة لتحقيق أثر أكبر في المرضى والمبيعات. بالإضافة إلى ذلك، كوّنت فهماً أوضح حول سبب عدم تسويق هذه المنتجات وبيعها بفعالية أكبر، إذ أُهملت بعض المنتجات لأنها أقدم ببساطة مثلاً، وافتقرت منتجات أخرى إلى مواد تسويقية حديثة.
من أجل التوصل إلى حل، جمعت قائدة المشروع فريقاً صغيراً متعدد الوظائف لإنشاء الحد الأدنى من المشروع القابل للتطبيق، مع التركيز على مبيعات المنتجات في بلد واحد. تضمن الحد الأدنى من المشروع القابل للتطبيق تحليل بيانات مبيعات المنتجات في البلد المختار لتحديد أفضل المنتجات لزيادة التركيز عليها، ومن ثم عقد ورشة عمل لنصف يوم لفريق المبيعات والتسويق في ذلك البلد. خلال ورشة العمل، اختار الفريق بعض المنتجات التي لا تُسوّق بصورة جيدة ويمكنهم ترويجها دون تقليل تركيزهم على المنتجات التي كانوا يعملون عليها بالفعل، ووضعوا أهدافاً محددة لزيادة الوصفات الطبية لهذه الأدوية في غضون شهرين. ابتكر الفريق أيضاً خطة مخصصة لدعم التسويق وطور مواد ترويجية إضافية وأدوات قياس لمساعدته على تحقيق هذه الأهداف.
في غضون أسابيع قليلة، لاحظ الفريق زيادة كبيرة في الوصفات الطبية للمنتجات المستهدفة في هذا البلد دون تسجيل أي انخفاض في مبيعات المنتجات الأخرى، ونتيجة لذلك، اختار الفريق بلدين آخرين لتنفيذ عملية مشابهة، مصممة خصوصاً لأسواقهما. من خلال اعتماد هذا النهج، تمكن فريق المشروع من توسيع نطاق جهوده بسرعة وكفاءة.
شهدت مبيعات هذه المنتجات زيادة سريعة وصلت إلى مئات الملايين من الدولارات في غضون عام واحد، مع تسجيل مبيعات متزايدة كل عام. في الأساس، نجح فريق المشروع في إطلاق عمل تجاري ناشئ من خلال تبني عقلية الشركة الناشئة.
من الواضح أن عقلية الشركات الناشئة هذه قد لا تكون ملائمة للمشاريع جميعها، لا سيّما المشاريع التي تتطلب جهود تنفيذ واضحة ومحددة جيداً. من ناحية أخرى، يمكن أن يكون اتباع نهج الشركة الناشئة مفيداً جداً في المشاريع التي يكتنفها عدم اليقين والغموض بشأن ما يجب تحقيقه أو كيفية تحقيقه. على الرغم من أن اعتماد نهج الشركات الناشئة يمثل تحدياً ويتطلب تكراراً واكتشافاً مستمرين، لكنه يبقى بالتأكيد أفضل من انتظار ظهور المشكلات ثم الاستجابة لها.