في عام 2025، سيمثل أبناء جيل الألفية 75% من القوى العاملة العالمية مع تزايد العاملين من أبناء الجيل زد على نحو متسارع، وهي رؤية توصل إليها استبيان الألفية الذي أجرته شركة ديلويت في عام 2014، تمهد الطريق لنقلة نوعية في مكان العمل. توقع القادة لعقود من الزمن تأثير جيل الألفية في القوى العاملة، لكن أبناء الجيل زد يؤدون في هذا الشأن دوراً غير مسبوق، فمهمتهم لا تنحصر في ملء الأدوار الوظيفية، بل إنهم يعيدون صياغة جوهر ثقافة العمل مستعينين بمهاراتهم التكنولوجية ووعيهم الشامل ورغبتهم في العمل الهادف.
يتطلب مثل هذا التغيير الكبير في الفئات العمرية ضمن القوى العاملة إعادة تقييم استراتيجيات القيادة، إذ لا يتمحور التعامل مع هذا التغيير حول فهم كل من هذين الجيلين على حدة بل اغتنام تأثيرهما معاً لخلق بيئة عمل متجددة وشاملة تعتمد التفكير الاستشرافي، ويمثل التحلي بالذكاء العاطفي أساس هذا التحول.
فهم تنوع الأجيال في مكان العمل
شهد مكان العمل تحولاً كبيراً منذ نشر رون زيمكي كتابه المؤثر "الأجيال في العمل" (Generations at Work) عام 1999، إذ تناول فيه صراع القيم واختلاف العقليات بين الأجيال المختلفة وهي ظاهرة باتت أوضح اليوم. يصوغ العاملون الأصغر سناً، ولا سيما أبناء جيل الألفية والجيل زد، سوق العمل من خلال سعيهم إلى شغل أدوار تتوافق مع قيمهم الشخصية ومثلهم المجتمعية، وهو اتجاه تناولته دراسة أجرتها جامعة ميونيخ، إذ يعطي أبناء هذين الجيلين أولوية للرضا الوظيفي وتحقيق الذات على الحوافز المهنية التقليدية، ما يعكس تغيراً ثقافياً أوسع في قيم مكان العمل.
في المقابل، نشأ أبناء الأجيال الأكبر سناً مثل مواليد جيل الطفرة وجيل إكس في وقت كان فيه الاستقرار الوظيفي والولاء على المدى الطويل أمرين بالغي الأهمية. تواجه هذه المجموعات التحدي المتمثل في التكيف مع التغيرات التكنولوجية السريعة وثقافات مكان العمل المتطورة، وتؤكد الدراسة التي أجرتها جامعة ميونيخ هذه الفجوة، إذ تُظهر قدرة العاملين الأصغر سناً على التكيف التكنولوجي وتمتعهم بالمعرفة الرقمية في تناقض صارخ مع الأساليب التقليدية التي يستخدمها نظراؤهم الأكبر سناً.
توظيف الذكاء العاطفي لردم الفجوات بين الأجيال
نشهد اليوم نقلة نوعية في مكان العمل إذ يغيّر جيل الألفية مع الجيل زد بسرعة طبيعة القوى العاملة، ومن ثم يواجه القادة تحدياً يتمثل في سد الفجوات بين الأجيال، الأمر الذي يتطلب استخدام الذكاء العاطفي بدقة وهو أداة لا غنى عنها للتغلب على الصعوبات التي يفرضها تعدد الأجيال ضمن القوى العاملة. يكمن سر توحيد وجهات النظر المتنوعة هذه في استخدام الذكاء العاطفي، فالقادة أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع يمكنهم التعامل ببراعة مع هذه الصعوبات من خلال التعرف إلى الدور الفريد لكل فئة عمرية واحترامه وتسخيره لصالح المؤسسة بأكملها.
لا يتمحور الأمر حول تغيير سمات الأجيال المتأصلة، بل حول اغتنامها لصالح المؤسسة باستخدام الذكاء العاطفي الذي يمثل ضرورة فعلية في مكان العمل المتعدد الأجيال، لا مجرد مفهوم نظري، ذلك أن عناصر الذكاء العاطفي وهي التعاطف والتواصل والتنوع والشمول والقدرة على حل النزاعات، تسهم معاً في إنشاء ثقافة مؤسسية موحدة وبنّاءة.
التعاطف: من أهم عناصر الذكاء العاطفي في مكان العمل القدرة على التعاطف مع مختلف الفئات العمرية لفهم أساليب عملها ودوافعها المتنوعة. يسلّط البحث الذي أجراه مركز القيادة الخلّاقة الضوء على هذا الجانب من خلال إظهار الدور المهم للتعاطف في القيادة الفعالة. توضح الدراسة أن القادة المتعاطفين يديرون الفِرق المتنوعة بمهارة أكبر، الأمر الذي يؤدي غالباً إلى زيادة الرضا الوظيفي وتحسين الأداء. يتمتع هؤلاء القادة بقدرة استثنائية على تجاوز الصور النمطية للأجيال، وتقييم الإسهامات الفردية لكل موظف وتعزيز الشمول في مكان العمل.
التواصل: تمثل القدرة على تكييف أساليب التواصل مع الأفراد جانباً مهماً آخر للذكاء العاطفي. يردم التواصل الفعال الفجوات ويخلق تفاهماً وهو لا يقتصر على التحدث بلغة تلقى قبول العاملين على اختلاف أجيالهم، بل يتضمن أيضاً الاستماع إلى مخاوفهم وآرائهم، ويعزز هذا التواصل الثنائي الاتجاه ثقافة الشمول والانتماء.
التنوع والشمول: ليس التنوع والشمول مجرد كلمتين رنانتين، فهما حجر الأساس في ثقافة مكان العمل الدائمة التطور. يساعد الذكاء العاطفي القادة على خلق بيئة يتقبّل أفرادها وجهات النظر المتنوعة بل حتى يحتفون بها، ويحفز هذا النهج الشامل الموظفين، ويعزز المشاركة والتعاون فيما بينهم.
حل النزاعات: القدرة على حل النزاعات عنصر مهم من عناصر الذكاء العاطفي، تبرز أهميته على وجه الخصوص في بيئة العمل المتعددة الأجيال. لا مفر من سوء الفهم واختلاف وجهات النظر بشأن أخلاقيات العمل وقيمه، ومع ذلك، يسمح اتباع نهج يعتمد على الذكاء العاطفي بالوصول إلى أرضية مشتركة، وتحويل النزاعات المحتملة إلى فرص للنمو والابتكار.
يؤدي استخدام الذكاء العاطفي بفعالية في مكان العمل إلى تعزيز التعاون بين الموظفين وزيادة مشاركتهم، فحينما يرى هؤلاء أن الإدارة تفهمهم وتقدّرهم بغض النظر عن الجيل الذي ينتمون إليه، فإنهم سيستثمرون غالباً إمكاناتهم الكاملة في العمل ما يخلق دينامية فريق متماسكة أكثر وثقافة مؤسسية أقوى.
استخدام الذكاء العاطفي مع الجيل الجديد في عالم يسوده التقلب وعدم اليقين والغموض والتعقيد
في عالم تسوده حالة من التقلب وعدم اليقين والغموض والتعقيد أو ما يعرف بالفوكا (VUCA)، حيث يتعاظم دور جيل الألفية والجيل زد، فقد بات تحلي القادة بالذكاء العاطفي أمراً محورياً. تشير دراسة ذات صلة أجرتها جمعية علم النفس الأميركية إلى أن الأجيال الشابة تواجه ضغوطاً كبيرة تتعلق بالقضايا المجتمعية، ما يؤكد الحاجة إلى قادة يتمتعون بمستوى عالٍ من الذكاء العاطفي، يتعاطفون مع الموظفين الأصغر سناً ويدعمونهم، ويساعدونهم على توجيه مخاوفهم بطريقة إيجابية في مكان العمل.
يجب على القادة، الذين هم في غالبيتهم من مواليد جيل الطفرة وجيل الألفية، تعديل استراتيجيات الذكاء العاطفي التي يتبعونها لدعم أفراد القوى العاملة الأصغر سناً وتمكينهم، ومن ثم خلق بيئة شاملة وداعمة في المؤسسة، تتضمن الاعتراف بمخاوف هؤلاء وتعطي الأولوية لصحتهم النفسية، ما يساعدهم على تطوير مرونتهم. يشبه تطوير الذكاء العاطفي تعلّم لغة جديدة، وهو ضروري لتعزيز ثقافة أساسها التعاطف والشمول في مكان العمل.
فن المواءمة بين الفرق المتعددة الأجيال
كيف يمكننا تسخير ديناميات الفريق المتعدد الأجيال الحيوية والمعقدة في الوقت نفسه؟ تكمن الإجابة في فهم استراتيجيات محددة تلبي الاحتياجات المتنوعة للأجيال المختلفة، ثم تطبيقها. توفر دراسة حديثة تناولت التفاعلات بين الأجيال بدءاً من جيل طفرة المواليد وحتى الجيل زد، معلومات قيّمة في هذا الشأن، إذ كشفت أن استراتيجيات مثل التدريب والتوجيه وبرامج الملازمة الوظيفية فعالة في تعزيز الاحتكاك الإيجابي ضمن الفرق المتنوعة.
يؤكد هذا البحث أهمية أساليب التدريب المصممة بوجه خاص في تعزيز التفاعلات الهادفة بين الأجيال، ومن خلال تنفيذ هذه الممارسات، يمكن للمؤسسات أن تلبي بفعالية احتياجات كل جيل وتفضيلاته المختلفة. على سبيل المثال، يفضل الموظفون الأصغر سناً، مثل أبناء جيل الألفية والجيل زد، المشاركة في مناقشات مفتوحة والحصول على معلومات من زملائهم الأكثر خبرة، فتعزز هذه التفاعلات قدرتهم على التعلم وتوفر أيضاً منصة للأفكار المبتكَرة ووجهات النظر الجديدة. ومن ناحية أخرى، يفضل أبناء الأجيال الأكبر سناً، مثل جيل طفرة المواليد والجيل إكس، تولي القيادة المنظمة والإرشاد، إذ يمكّنهم ذلك من نقل معارفهم وخبراتهم. ولا يعزز تبادل الأفكار على هذا النحو ثقافة التعلم المستمر فحسب، بل يعزز أيضاً الروابط بين الفئات العمرية المتنوعة.
توفر هذه الاستراتيجيات التي تجمع بين الأجيال والمدعومة بأدوات مثل مقياس الذكاء العاطفي (EQ-i 2.0) وتقييم الأداء بطريقة 360 درجة، نهجاً منظماً لتطوير المهارات العاطفية لدى القوى العاملة المتنوعة. يوفر مقياس الذكاء العاطفي رؤى معمقة حول مجموعة من المهارات العاطفية، في حين يوفر تقييم الأداء بطريقة 360 درجة مجموعة متنوعة من وجهات النظر، وهو أمر بالغ الأهمية لفهم نظرة الفئات العمرية على اختلافها إلى السلوكيات والمهارات، ويضمن إدراج هذه الأدوات في برامج التطوير توافق الجهود مع احتياجات كل جيل، ومن ثم احتياجات المؤسسة بأكملها.
في الختام، تمثل قيادة قوى عاملة متعددة الأجيال باستخدام الذكاء العاطفي رحلة لا تنتهي من التعلم والتكيف والنمو، تتطلب فهماً عميقاً للديناميات الفريدة للفرق المتنوعة والتزاماً بتطوير ثقافة تقدّر التعاطف والتواصل والتنوع والشمول، والمكسب الأعظم من هذه الرحلة هو إنشاء فريق موحد ومتماسك أساسه التفاهم والتعاون، ما يدفع المؤسسة نحو إحراز نجاح مشترك في عالم متزايد التعقيد.