ملخص: الاحتراق الوظيفي متلازمة تصيب الأفراد في مكان العمل وتتميز بثلاث سمات رئيسية: نفاد الطاقة أو الشعور بالإرهاق، واليأس أو السلوكيات السلبية تجاه العمل، وتراجع الكفاءة المهنية. فيما يخص السمة الثانية وهي اليأس، فلعلها ليست مفهومة بدرجة كافية، وأحد الأسباب هو تعقيدها؛ فللإرهاق وتراجع الكفاءة المهنية أسباب وآثار واضحة نسبياً، أما اليأس فينجم عن عدة عوامل في مكان العمل ويعبّر عنه الفرد بمجموعة واسعة من الحالات العاطفية والسلوكيات. يمثل اليأس خطراً على سلامة الأفراد والمؤسسات، ويمكن أن ينتشر بسرعة بين الفِرق من خلال ظاهرة تُعرف باسم "العدوى العاطفية". بإمكانك تخفيف اليأس ولو كان متجذراً، والأفضل وقاية مؤسستك منه في المقام الأول. يقدم المؤلف استراتيجيات للمساعدة على الحد من اليأس في المؤسسة وخلق ثقافة مناهضة له. بدأ جيسون* التدريب التنفيذي معي في نهاية العام حين كانت مؤسسته تخرج من فترة ضغط العمل الذي تفاقم بسبب رحيل قائد فريقه المفاجئ. أخبرني بأن الأمور في العمل ساءت جداً، إذ تفاقم الغضب والصراع على السلطة وتحولت الاجتماعات إلى جلسات لتبادل الشتائم والتشهير. لم تتدخل الإدارة العليا، واختارت تأجيل النظر في المشكلات المتعلقة بالموظفين إلى ما بعد تحقيق الجميع أهدافهم في نهاية العام. بالإضافة إلى عبء العمل المتزايد عليه، أخذ جيسون على عاتقه التوسط بين زملائه المتوترين لتهدئة الأجواء، فطاله الأذى من صراعهم. ولأنه شعر بالغضب والألم وافتقر إلى الدعم بدأ ينأى بنفسه عن زملائه وتزايد خوفه من العمل، وعندما تواصل معي لتلقي التدريب كان محبطاً ومنعزلاً ويعاني الاحتراق الوظيفي.
تُبرز قصة جيسون أحد جوانب الاحتراق الوظيفي الأساسية غير المفهومة بدرجة كافية: اليأس في مكان العمل. لاحظت مؤخراً زيادة في عدد العاملين الذين يعانون خيبة الأمل هذه وفقدان الثقة بمؤسساتهم، وعلى القادة أن يدركوا أسباب اليأس في مكان العمل وآثاره وأن يتخذوا الخطوات اللازمة لخلق ثقافات مناهضة له.
مخاطر اليأس في مكان العمل
في حين عانى جيسون ضغوطاً حادة سرّعت إصابته بالاحتراق الوظيفي، فإن غالبية حالات الاحتراق الوظيفي تتطور نتيجة للضغوط الطويلة الأمد وغير المُدارة في مكان العمل، وقصص معظم الموظفين ليست بهذه الدرجة من السوء، لكن هذا لا يعني أن تجاربهم أقل إيلاماً، أو أن العواقب أقل خطورة. من الآثار السلبية العديدة ذات الصلة بالاحتراق الوظيفي نذكر: أمراض الجهاز القلبي الوعائي وآلام العضلات والعظام والأرق وأعراض الاكتئاب والتعب وضعف وظائف المناعة والصداع، كما أن العاملين المصابين بالاحتراق الوظيفي يتغيبون عن العمل أكثر من غيرهم وتتدنى مستويات الرضا الوظيفي والأداء لديهم.
إليك كيف وصف بعض عملائي والحاضرين في المؤتمر والمشاركين في البحث تجربتهم الحالية في العمل:
يقول مدير المنتج في إحدى الشركات، واسمه جوشين: "لا حماس لدي تجاه العمل، وخطتي هي الاستمرار فيه فقط إلى أن تحصل زوجتي على ترقية، ثم سأستقيل".
تقول أدريانا الموظفة الاجتماعية في مؤسسة غير ربحية: "ما الفائدة من المحاولة؟ لا أشعر أن أياً مما أفعله له أثر ذو معنى".
يقول رقيب في الشرطة، اسمه توني: "لا أهمية للعمل الذي نؤديه، ففي حين نواصل اعتقال المجرمين، لا يؤدي المدّعون العامون المطلوب منهم، بل يعيدونهم إلى الشارع مرة أخرى، وهذا محبط تماماً".
تقول معلمة الصف الثامن، ماليندا: "وصلت توقعات أولياء الأمور من المعلمين إلى مستويات مستحيلة وغير أخلاقية، وهذا يستنزف طاقتي ويقتل حافزي للعمل الذي كنت أحبه".
على الرغم من عدم توفر تعريف واحد مقبول عالمياً للاحتراق الوظيفي، يتفق الخبراء عموماً على أنه متلازمة في مكان العمل تتسم بثلاث سمات أساسية: نفاد الطاقة أو الشعور بالإرهاق، واليأس أو السلبية تجاه العمل، وتراجع الكفاءة المهنية أو شعور الفرد بأنه لم يعد مُنتِجاً أو قادراً على تأدية عمله كما يجب.
فيما يخص السمة الثانية وهي اليأس، فلعلها ليست مفهومة بدرجة كافية، وأحد الأسباب هو تعقيدها؛ فللإرهاق وتراجع الكفاءة المهنية أسباب وآثار واضحة نسبياً، أما اليأس فينجم عن عدة عوامل في مكان العمل ويعبّر عنه الفرد بمجموعة واسعة من الحالات العاطفية والسلوكيات.
أشارت الدراسات الأولى حول الاحتراق الوظيفي إلى اليأس باسم "تبدد الشخصية"، وهي حالة انفصال الفرد المصاب بالاحتراق الوظيفي تماماً عن الأفراد الذين يعمل معهم، لكن لا يقتصر الأمر على مجرد شعورك بالبعد عمن حولك، بل يصل إلى إلغائهم عقلياً وعاطفياً لدرجة أن يفقدوا فرديتهم وإنسانيتهم. من الأمثلة على تبدد الشخصية، مقدمو الخدمات الإنسانية الذين ينظرون إلى عملائهم على أنهم مجموعة حالات لا هوية لها أو المدراء الذين يعتبرون موظفيهم نقاطاً في جدول بيانات.
وسّعت أبحاث أحدث نطاق التجربة لتشمل السلوكيات السلبية أو غير المناسبة تجاه العملاء أو العمل، ومنها سرعة الانفعال وغياب المثل العليا والانسحاب من العمل أو الانفصال عنه. حينما يترسخ اليأس في مكان العمل فقد يتجلى في شكل فقدان الحافز أو التشاؤم أو الاستسلام أو الانفصال أو اليأس أو الغضب أو الخدر العاطفي أو ضعف الأداء، أو الشعور بالعجز أو فقدان الثقة.
ومهما كان مظهره فمن المهم أن نتذكر أن اليأس في مكان العمل لا يرجع إلى عيب شخصي لدى الفرد أو ميله إلى التشاؤم، إذ إن مصدره بيئة العمل وليس الفرد نفسه. في الواقع، يرى العديد من الخبراء أن اليأس في مكان العمل وتبدد الشخصية يمثلان نوعاً من آليات التأقلم الدفاعية؛ فالابتعاد والانسحاب يقيان الموظف الإرهاق العاطفي واستنزاف الطاقة اللذين تسببهما له وظيفته. حتى التدابير الوقائية التي يتخذها المتفائلون جداً قد تنهار حينما يتعرضون لضغط كبير، لا سيما إذا كان مستمراً.
يمثل اليأس في مكان العمل خطراً على صحة الأفراد والمؤسسات، إذ يمكن أن يسيطر علينا بسرعة ما يؤدي إلى السلبية وسرعة الانفعال والتشاؤم فيصبح العمل الذي كان يمنحنا الطاقة والبهجة صعباً جداً أو مصدراً لخيبة الأمل، ويمكن أن تتوتر علاقاتنا بزملائنا عندما ننعزل عنهم أو نفقد الثقة بهم أو حين تسود العدوانية مثلما حصل بين جيسون وزملائه. أظهرت الدراسات أن الموظفين الذين يعانون اليأس في مكان العمل لا يثقون كثيراً بزملائهم وبالمؤسسات التي يعملون فيها، كما يتراجع أداؤهم الوظيفي وتنخفض قدرتهم على الكسب ويعلو معدل دورانهم الوظيفي. يقول خبيرا الاحتراق الوظيفي كريستينا ماسلاك ومايكل لايتر: "مع تطور اليأس في مكان العمل يتوقف الفرد عن بذل قصارى جهده ويكتفي بالحد الأدنى من العمل"، وقد كلف تدني اندماج الموظفين في المؤسسات وحده الاقتصاد العالمي 7.8 تريليونات دولار من الإنتاجية المفقودة.
ينتشر اليأس بسرعة أيضاً بين الفرق والمؤسسات من خلال ظاهرة تُعرف باسم "العدوى العاطفية"، إذ من المرجح أن يتبنى الموظفون السلوكيات السلبية والانتقادية التي يظهرها زملاؤهم المقربون، ما يزيد توتر الجميع ويحد من فعاليتهم ويجعلهم أكثر عرضة للاحتراق الوظيفي.
من العناصر الثلاثة للاحتراق الوظيفي، يعد اليأس أقوى مؤشر على نية الاستقالة لدى الموظفين، ولا عجب في ذلك، فعندما يُفقدك اليأس دوافعك ويمنعك من رؤية سبل تحسين الوضع، يصبح الاستسلام أسهل بكثير من محاولة تغيير بيئة عملك. وفي الواقع، فقدان الموظفين السعداء المندمجين في المؤسسة تماماً، والمتحمسين بشدة، بسبب الاستقالة أو ضعف الأداء، هو أحد أسوأ عواقب اليأس في مكان العمل.
كيف تخلق ثقافة مناهضة لليأس في مكان العمل؟
على الرغم من أن هذا الوضع يبدو مأساوياً، فمن الممكن الحد من اليأس المتجذر، والأفضل من ذلك وقاية مؤسستك منه في المقام الأول. فيما يلي بعض الاستراتيجيات للمساعدة على الحد من اليأس في مكان العمل وخلق ثقافة مناهضة له.
ابدأ بنفسك أولاً
يجب أن يتمتع القادة بالوعي الذاتي لمراقبة عواطفهم وسلوكياتهم، والتنظيم الذاتي لإظهار المشاعر والسلوكيات الإيجابية التي يرغبون في رؤيتها لدى الآخرين. إذا وجدت أن السلبية أو مشاعر اليأس تتسلل إليك، فاتخذ تدابير مضادة بسيطة وفعالة لاستعادة التفاؤل والأمل، ويمكنك تخفيف شعورك باليأس باتباع إجراءات مثل: الحد من تصفح الأخبار أو وسائل التواصل الاجتماعي، وتدوين النعم التي تشعرك بالامتنان، والتحدث مع ناصح تثق به عن مشاعرك السلبية، وقضاء المزيد من الوقت في الطبيعة أو مع أحبائك، والتركيز على الجوانب الإيجابية لدى الناس بدلاً من أخطائهم.
ليساعد نفسه على تغيير سلوكه السلبي، أعدّ جيسون قائمة بنقاط القوة والصفات المحببة لدى زملائه في العمل، ما سمح له باسترجاع الذكريات الإيجابية وفتح خطوط تواصل جديدة مع فريقه.
امنع العواطف السلبية من الانتشار في مؤسستك
إذا وجدت أن الآخرين يتبنون مواقف وسلوكيات يائسة (على سبيل المثال، السلبية والسخط والنميمة وإلقاء اللوم، وما إلى ذلك)، فتعامل مع الأمر على الفور لوقف انتشار العواطف السلبية في المؤسسة. رتب لقاءات فردية لتعيد توضيح توقعاتك وتستكشف ما يحفز هذا السلوك السلبي، فالإصغاء يمكن أن يخفف مشاعر اليأس في كثير من الأحيان. أجرِ تغييرات على ظروف مكان العمل التي قد تسبب هذا السلوك، بالاعتماد على آراء الموظفين ومشاركتهم.
مارس التعاطف وشجع عليه
على عكس اليأس، يشجعنا التعاطف على رؤية الأمور من وجهة نظر الآخرين، وليس من وجهة نظر محدودة إذ نتوقع الأسوأ ممن نتعامل معهم والتجارب التي نواجهها. أنشئ بيئة من التعاطف في العمل من خلال التعرف إلى موظفيك أكثر وتقبل وجهات نظرهم والاستماع إلى آرائهم، لا تتجاهل مخاوفهم أو تؤجل النظر فيها بل تصرف بناءً عليها.
عزز الثقة
أفاد موظفون في الشركات التي يسودها جو من الثقة العالية عن شعورهم بضغوط أقل بـ 74% وطاقة أعلى بـ 106%، وازدياد إنتاجيتهم بـ 50%، واندماج في العمل أعلى بـ 76%، وتدني إصابتهم بالاحتراق الوظيفي بـ 40% مقارنة بموظفين في الشركات التي تفتقر بيئتها إلى الثقة اللازمة. عزز بيئة من الأمان النفسي يشعر الموظفون فيها بالحرية الكافية للتحدث صراحة عن مشاعرهم وأفكارهم وارتكاب الأخطاء دون خشية العواقب أو الشعور بالخزي، إذ يعزز ذلك الابتكار أيضاً. تجنب التدخل في أدق التفاصيل، فهذا السلوك يُعبر عن غياب الثقة.
تعامل بشفافية
وجد استطلاع أجرته شركة ديلويت (Deloitte) أن ما يقرب من نصف الموظفين اليائسين في أماكن عملهم ذكروا أن الافتقار إلى التواصل الشفاف هو السبب الرئيسي للاستقالة. لا أحد يحب أن يشعر بأنه مهمل خاصة عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات التي تؤثر فيه، لذا شارك القرارات المؤثرة مع الموظفين وحافظ على خطوط اتصال مفتوحة، وعند حدوث نكسات أو أخطاء، يجب عليك أنت ومؤسستك الاعتراف بها ومعالجتها بدلاً من تجاهلها.
امنح الموظفين تحكماً أكبر
ينبع اليأس والتشاؤم لدى الموظفين غالباً من إحساسهم بالعجز والافتقار إلى الاستقلالية؛ فشعورهم بعدم القدرة على التحكم في وقت العمل أو مكانه أو كيفيته سيقوّض إحساسهم بالقدرة على التصرف ويستنزف طاقتهم ويفقدهم الأمل في تحسّن الوضع. لذلك احرص على إتاحة المرونة في جداول عمل موظفيك وترتيباته كلما أمكن، وشجعهم على الإسهام بأفكارهم والمساعدة على توجيه العمل وامنحهم السيطرة على منجزاتهم.
تخلص من الغموض وعدم اليقين
يعد عدم اليقين من أهم أسباب التوتر والقلق، كما أن غموض الأهداف -أي عدم تحديد ماهيتها وأسبابها- يمكن يشعر الموظفين بالضياع وتدني القيمة الذاتية. تأكد من وضوح رسالة الفريق وواجباته الفردية والجماعية وقابلية تحقيقها، ووضّح للموظفين ما يمكن أن يتوقعوه منك أيضاً.
جرّب اتخاذ إجراءات إيجابية بسيطة
قد يكون تغيير ثقافة الشركة بأكملها مستحيلاً، ولكن يمكنك إضفاء بعض الإيجابية في بيئة العمل لتخفيف التوتر وزيادة التواصل والمشاركة ورفع الروح المعنوية. من أمثلة ذلك: التعبير عن شكرك لموظفيك وجهاً لوجه، وتقديم وجبات الغداء لهم والاحتفال بالإنجازات معهم، وإعلان انتهاء الدوام قبل موعده بساعتين مثلاً لمرافقتهم جميعاً إلى صالة البولينغ أو البلياردو.
أو جرّب طريقة جيسون المتمثلة في ترك رسالة امتنان على مكتب شخص ما بين الحين والآخر، فبسبب هذه اللفتة شعر أعضاء فريقه بالتقدير، وسمحت لهم المشاعر الدافئة التي ولّدتها بتعديل النبرة العاطفية في العمل والبدء بمعالجة العلاقات المتأزمة.
تنتشر العواطف السلبية بسهولة، والمشاعر الإيجابية أيضاً، لذلك من السهل نشر مشاعر التعاطف والثقة والتقدير والمُثل العليا الأصيلة، وفي بيئة العمل التي تسودها الإيجابية لن يكون لليأس مكان.