التواصل الحكومي لتعزيز العلاقة بين الجهات الحكومية والمجتمع

6 دقائق
تواصل حكومي
shutterstock.com/mapsandphotos

تسعى دول العالم إلى إجراء حوار حقيقي مع مواطنيها، لوضعهم في صورة الأحداث والقرارات وكسب ثقتهم، وكذلك الحفاظ على العمليات الديموقراطية، لبناء صورة المؤسسة الحكومية وضمان استقرار المجتمع ومجابهة أي مشاكل قد تعصف بأمنه أو تهدد استقراره. لكن ذلك لن يحصل إلاّ بالمرور عبر طريق امتلاك استراتيجية تواصل حكومي مُحكمة، وهو سرٌ مكشوف منذ القرن الماضي، أو منذ سنة 1960 تحديداً، عندما نشرت الحكومة البريطانية إعلانات عبر الصحف بهدف إقناع العمال بالتنازل عن جزء من رواتبهم بغرض الاستفادة منها لتكون ضماناً عند المرض أو التقاعد.

ظهور وسائل الإعلام الشعبية كالتلفزيون فيما بعد، جعل المؤسسات الحكومية أكثر احتضاناً لاستراتيجيات التواصل الحكومي، لكن ظهور الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، جعل الاتصال الحكومي يصبح قطاعاً استراتيجياً تتقاطع مكوناته وأهدافه مع أهداف الجهات الحكومية ومبادراتها وخططها الاستراتيجية الشاملة.

ولم يكن الاتصال الحكومي ليتبوأ هذه المكانة لولا نجاعته في تعزيز مشاركة المواطنين وتعزيز الشفافية وبناء الثقة، وهو ما تؤكده الإحصائيات والبحوث المنجزة في المجال، إذ يتضح أن البلدان ذات معدلات الشفافية الأعلى تميل إلى أن تكون لديها مستويات أعلى من الثقة في المؤسسات الحكومية، كما تشير نتائج بحث آخر أجراه مركز بيو للأبحاث، أن 80% من البالغين في الولايات المتحدة الأميركية يرون أن تغطية الإجراءات الحكومية هي عامل مهم لتحديد مستوى ثقتهم في الحكومة، وهذا تحديداً ما يوفره التواصل الحكومي بتقديم تغطية محدّثة لآخر القرارات والمستجدات الحكومية.

لكن مع أن قوة تأثير التواصل الحكومي قد أُثبتت، وأن قدرته على فرض الشفافية وتمكين المواطنين وخلق صورة واضحة المعالم والأهداف للحكومة أمام المواطنين هو أمر لا شك فيه، فإن هناك العديد من المؤسسات الحكومية التي لم تستوعب هذا بعد، يشير تقرير منظمة "التواصل العام، السياق العالمي والطريق إلى الأمام" إلى أنه غالباً ما تفوّت حكومات كثيرة فرصة التواصل الفعال مع مواطنيها بسبب عدم استثمارها في وضع استراتيجية تواصل حكومي مُحكمة.

سويسرا، وعلى الرغم من التطور الذي تعيشه على جميع الأصعدة فإن مؤسساتها الحكومية لم تستطع وضع استراتيجية تواصل حكومي محكمة خلال فترة كوفيد-19، فوفقاً لاستطلاع رأي أُجري على مواطني هذه الدولة خلال أكتوبر/تشرين الأول من العام 2021، عبّر 34% من المشاركين عن عدم رضاهم عن طريقة تواصل الحكومة معهم خلال فترة انتشار فيروس كوفيد-19.

مع العلم أن سويسرا ليست الدولة المتطورة الوحيدة التي لا تجيد إقامة تواصل فعال بين الحكومة والشعب، فالولايات المتحدة الأميركية هي الأخرى تعاني مشكلة مشابهة على الرغم من التطور الكبير الذي يشهده هذا البلد في مجالات الإعلام والاتصال، وعلى الرغم من أن الموضوع يبدو غير قابل للتصديق فإن هذا ما تؤكده بيانات (Sprout Social Index)، التي كشفت أن الجمهور الأميركي يرى أن الحسابات الحكومية الأميركية هي الأكثر إزعاجاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وسبب اختيارها الأكثر إزعاجاً من قِبل الجماهير هو تركيزها على المحتوى الترويجي والاستجابة البطيئة لما يحدث؛ أي عدم وضع الجمهور في صورة ما يحدث بسرعة، وهو ما يطرح التساؤل حول التزام هذه الحسابات الحكومية بتطبيق استراتيجية تواصل مناسبة، أو إذا ما كانت تملك واحدة في الأساس.

تخلّف الحكومات عن تطوير استراتيجية فعالة للتفاعل مع المواطنين لا يغيب عن أفراد شعوبها، ويجعل هذه الحكومات محطّ سخط منهم بحسب ما تؤكده الدراسات المختصة في المجال، مثل الدراسة التي أجريت في كوريا الجنوبية سنة 2018 التي توصلت إلى أن قصور البرامج الاتصالية التي تعتمدها الجهات الحكومية للتواصل يدفع الجمهور إلى استحقار أدائها والسخرية منه.

في المقابل، هناك دول فهمت أهمية هذا الاتجاه الإعلامي الجديد وانخرطت فيه مبكراً، أستراليا على سبيل المثال هي إحدى تلك الدول، وعليه فقد أصبحت اليوم أحد أفضل النماذج التي يمكن أن تُقدم حول نجاح الحكومات في التواصل مع مواطنيها، رئيسة الوزراء الأسترالية السابقة، جوليا جيلارد سبق أن تحدثت عن أسرار نجاح استراتيجية التواصل الحكومي الأسترالية خلال مشاركتها في المنتدى الدولي للاتصال الحكومي المنعقد سنة 2015، والتي اتضحت أنها الالتزام بالحديث عن القضايا المحورية المرتبطة بالدولة مع التحلي بالسرعة في أثناء الاستجابة للقضايا الطارئة والتحلي بالصدق والشفافية والموضوعية حتى في الحالات التي تُخلف فيها الوعود.

على مستوى المنطقة العربية، الأمر لا يختلف كثيراً عن بقية أنحاء العالم، فلا يتواصل بعض الحكومات مع المواطنين كما يجب، والبعض الآخر يفعل ذلك بطريقة صحيحة، أما القلة القليلة جداً فتقدم نماذج مثيرة للإعجاب، للدرجة التي تجعلنا نقف على أقدامنا ونصفق، وأعني هنا النموذج السعودي والنموذج الإماراتي.

الإمارات العربية المتحدة، مرجعاً عالمياً في مجال الاتصال الحكومي

يمكن القول إن دولة الإمارات العربية المتحدة هي أول دولة عربية عرفت قيمة التواصل الحكومي واهتمت به كما يجب، ويظهر ذلك جلياً من خلال المبادرات والإصلاحات التي تجريها منذ سنوات بغية تعزيز دور الاتصال الحكومي في المجتمع، ففي سنة 2008 استُحدث نظام "المتحدث الرسمي في الحكومة الاتحادية" بهدف تقديم معلومات دقيقة للجمهور، أعقبه تأسيس شبكة الاتصال الحكومي التي تضم كل مدراء الاتصال بالجهات الاتحادية.

وفي يناير/كانون الثاني 2015 أطلقت الإمارات "البرنامج الوطني للاتصال الحكومي"، بمشاركة مختلف فِرق الاتصال في الجهات الاتحادية والمحلية، أوكلت لها مهمة إنجاز حملات اتصالية دارت مواضيعها في المجمل حول 7 محاور رئيسية هي: " أطفالنا أصحاء"، و"أسرتنا متماسكة"، و"إماراتنا خالية من السكري"، و"مدارسنا أفضل"، و"غذاؤنا أمن"، و"أفكارنا خضراء"، و"مستقبلنا مزدهر"، وغيرها من المحاور الوطنية المهمة.

تلاها في أكتوبر/تشرين الأول 2017، اعتماد مجلس الوزراء لاستراتيجية اتصال حكومي للسنوات 2017-2021 تضمنت مجموعة من الأهداف والأولويات الوطنية المتماشية مع رؤية الإمارات لسنة 2021 وتعزيز التفاعل المستمر بين الجهات الحكومية وأفراد المجتمع، وكذا تعزيز صورة الدولة الإيجابية في الخارج.

وانطلاقاً من تلك الاستراتيجية اتُخذ القرار بتأسيس مكتب الاتصال لحكومة الإمارات سنة 2018، ليتولى مهمة تعزيز قنوات الاتصال بين الجهات الاتحادية لبناء نظام متكامل للاتصالين الداخلي والخارجي في الحكومة الاتحادية.

ولحسن الحظ، تلك الجهود لم تذهب سدى، فوفقاً لدراسة أجرتها جامعة الشارقة حول إدراك الجمهور الإماراتي لجودة الاتصال الحكومي عبر الإنترنت أبدى المواطنون الإماراتيون انطباعاً إيجابياً حول تواصل الجهات الحكومية معهم.

المملكة العربية السعودية تسير بخطى ثابتة نحو وضع استراتيجية اتصال حكومي نموذجية

على الرغم من أنّ الجهات الحكومية في المملكة العربية السعودية اهتمت كثيراً بالتواصل مع المواطنين، فإنها أصبحت تولي هذا الموضوع اهتماماً أكبر في السنوات الأخيرة، اهتماماً يتماشى مع ما تمثله أهمية الاتصال الحكومي لرؤية 2030.

الرؤية الطموحة التي أطلقت سنة 2016، بهدف تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة بحاجة إلى اتصال حكومي فعّال لإعلام المواطنين وإشراكهم في اتخاذ القرارات.

وهو أمر تعيه قيادة المملكة العربية السعودية جيداً، وتوليه أهمية بالغة تتجسد في الاستثمارات الضخمة التي تجريها لتوسيع قنوات الاتصال، وزيادة الشفافية، وتعزيز مشاركة المواطنين خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي التي يسجل فيها الشعب السعودي حضوراً كبيراً، إذ تُظهر إحصائيات (Datareportal) أن هناك 29.10 مليون مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي في في المملكة العربية السعودية حتى بداية 2023؛ أي ما يعادل 79.3% من إجمالي السكان، مع متوسط استخدام يقدّر بنحو 3 ساعات و24 دقيقة، لتكون بذلك واحدة من أعلى الدول استخداماً للمواقع الاجتماعية في العالم.

ولتأكيد عزمها تجاه التأسيس لاتصال حكومي جاد وفعال يتماشى مع أهداف رؤية 2030، أنشأت الحكومة السعودية سنة 2018 مركز التواصل الحكومي، بهدف تحسين الأداء الإعلامي للأجهزة الحكومية وتطويره، وتنسيق جهود التواصل، وتوحيد الرسالة الإعلامية، وذلك ضمن استراتيجية تبنتها وزارة الإعلام للتواصل، وتعزيز التكامل بين الأجهزة الحكومية، والتنسيق بينها وبين وسائل الإعلام، ومواكبة النهضة التي تشهدها المملكة، ومساندة الإدارات الإعلامية الحكومية في تحقيق أهدافها الإعلامية وفق أفضل الممارسات العالمية، والعمل على إنتاج محتوى إعلامي متطور، ونقل الخبرات والتجارب الدولية والمحلية في هذا المجال؛ لإبراز إنجازات الوطن الحضارية وإبراز مكتسباته وقدراته وكفاءاته الثمينة محلياً ودولياً.

ويعمل مركز التواصل الحكومي بصورة متواصلة على ضبط إيقاع الأداء الإعلامي للأجهزة الحكومية، ويقدم خدماته المتنوعة وفق نظام حوكمة متقدم. ومنذ إنشائه عام 2018؛ بادرت هذه الأجهزة بالتفاعل مع المركز والدخول في شراكات مهمة، من خلال أنشطته ومبادراته المختلفة.

وفي إطار تلك الجهود أيضاً جاء إطلاق البرنامج الإعلامي الموحد الذي يعد أداة اتصال تجمع بين كل الإدارات الإعلامية في الأجهزة الحكومية، تساعد على تبادل الخبرات، وضمان صناعة المحتويات الإعلامية وفق استراتيجية المركز.

ويهدف البرنامج إلى رفع مستوى كفاءة الأداء الإعلامي في الأجهزة الحكومية، وتوحيد رسائلها الإعلامية، وتعظيم جهودها المختلفة عبر خدمات متعددة يقدمها البرنامج، وذلك بتنسيق فعّال للعمل الإعلامي المشترك، باعتباره حلقة وصل تربط أكثر من 180 جهازاً حكومياً.

ولتأكيد قصة النجاح في المركز يجري مركز التواصل الحكومي قياساً لتفاعل الأجهزة الحكومية بصورة دورية، آخرها الذي أُجري عام 2022 كشف عن أخبار مفرحة، مفادها أن 4 أجهزة حكومية تحصل على تفاعل كامل بنسبة 100% منذ النصف الأول من عام 2022، وهي كل مـن وزارتي الداخليـة والتجارة، والهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، والهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة، وهناك 5 أجهزة حكومية أخرى ارتفعت نسبة تفاعلها إلى 100% مقارنة بنسبة تفاعلها في النصف الأول من عام 2022، وهي كل من وزارتي العدل، والموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والهيئة العامة للترفيه، والهيئة العامة للموانئ، وهيئة الزكاة والضريبة والجمارك.

وما يبعث على الاطمئنان على صواب الخطة السعودية نحو تأسيس تواصل حكومي فعّال وشامل ليست النتائج الإيجابية للدراسات المحلية فقط، بل الدراسات الأجنبية أيضاً، ففي دراسة مقارنة أجراها الباحث العماني خميس البوسعيدي بين التواصل الحكومي في مواقع التواصل الاجتماعي في المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، أظهرت النتائج تفوقاً كاسحاً لمركز التواصل الحكومي السعودي من حيث نوعية المحتوى وعدد الرسائل التي يجري إنتاجها وبثها وكذلك حجم الانتشار والتفاعل.

ما توصلت إليه تحليلات المختصين في التواصل تؤكده آراء المواطنين، ففي استطلاع مؤشر الثقة السنوي 2023 الخاص بشركة إيدلمان العالمية الرائدة في مجال التواصل الاستراتيجي والعلاقات العامة، احتلت المملكة العربية السعودية المرتبة السابعة عالمياً بين أكثر الدول التي تثق شعوبها في حكوماتها، إذ أظهرت نتيجة المؤشر أنّ ثقة المواطن السعودي في حكومته حققت نسبة 83%، وهي نسبة أعلى من المتوسط العالمي للثقة في الحكومات الذي قدّر بنحو 50%، مع العلم أنّ التقرير قد أشار إلى أنّ المنظمات الحكومية وغير الحكومية محل الدراسة قد اكتسبت هذه الثقة نتيجة نجاعتها في عدة مجالات، أحدها تقديم المعلومات المعتمدة والموثوقة للجمهور، وهي المهمة التي يتولاها الاتصال الحكومي.

مما هو واضح حتى الآن، يبدو أن مستقبل الاتصال الحكومي في المملكة العربية السعودية واعد، ومع ما توفره الدولة من إمكانيات رقمية وما تجريه من إصلاحات مؤسسية ستتمكن المملكة في النهاية من بناء نموذج اتصال حكومي شامل وشفاف وفعّال يرضي جميع مواطنيها ويبرز التزامها بتحقيق الشفافية ومبادئ الديموقراطية.

ختاماً، لم يعد نجاح الحكومات متوقفاً عليها فقط، بل أصبح لزاماً عليها وضع منظومة اتصال حكومي متكاملة للتواصل مع مواطنيها وإدارة النقاش حول مختلف القضايا التي تهمهم، وإلاّ سيكون عليها مواجهة السخط الشعبي وانكسار العلاقة مع المواطنين، وهو آخر ما قد تريده الحكومات.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي