في عام 2019، مُنحت جائزة نوبل في الكيمياء للعالم جون غوديناف تكريماً لإسهاماته في مجال بطاريات الليثيوم منذ الثمانينيات. الغريب في الأمر، أو لنقل الاستثنائي، أن غوديناف كانت سنّه تناهز 97 عاماً حين حصل على الجائزة، في حين أن سن الفائزين بهذه الجائزة تميل تقليدياً إلى أن تكون في منتصف الخمسينيات. هذا ما دفعنا إلى التساؤل: متى يصل الإنسان إلى ذروة حياته المهنية؟ في الثلاثين، في الخمسين، أو في التسعين؟
في الواقع، استكشاف السن التي يحقق فيها الشخص ذروة أدائه المهني أكثر من مجرد موضوع فضولي؛ إذ يساعد على فهم كيفية التقدم في الحياة المهنية، والوقت الذي تظهر فيه الأفكار الجديدة والمبتكرة، وفهم الأسباب التي تجعل الشخص أكثر إبداعاً فيما يفعله. بكلمات أخرى، إن البحث عن إجابة هذا السؤال مثل البحث عن الأدلة الخفية للنجاح في المجالات المختلفة. لذلك، دعونا نتعمق في هذا المقال في السن التي يصل فيها الأفراد إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه مهنياً، وخصوصاً الأفراد الذي نالوا التقدير على أعمالهم الرائدة؛ الحاصلين على جوائز نوبل، ودعونا نرى أيضاً كيف يمكن تحقيق أقصى استفادة من هذه المرحلة الذهبية وخارجها.
في أي سن يصل الحائزون جائزة نوبل إلى ذروة حياتهم المهنية؟
في الواقع، تغيّرت إجابة هذا السؤال بمرور الوقت؛ فبين عامي 1901 و1950، كان متوسط عمر الفائزين حينما حققوا إنجازاتهم الرائدة، التي حازت فيما بعد جوائز نوبل، نحو 39 عاماً، وفي عام 2019، بيّنت دراسة منشورة في دورية السيانتوميتريكس (Scientometrics)، قادها الباحث راسموس بيورك من جامعة التكنولوجبا في الدنمارك (Technical University of Denmark)، أن متوسط العمر الذي ينتِج فيه العلماء إسهاماتهم الأكثر ابتكاراً منذ مطلع الألفية وحتى السنوات الأخيرة بلغ نحو 44 عاماً، ما يدل على أن ذروة الإنجاز في الحياة المهنية في العديد من التخصصات تحصل في منتصف العمر تقريباً.
بالإضافة إلى ذلك، وُجد أن الفجوة العمرية للإبداع التي كانت موجودة سابقاً بين التخصصات المختلفة قد تقلصت كثيراً؛ إذ قدّم الحائزون جوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء في أوائل القرن العشرين إسهامات كبيرة في سن صغيرة نسبياً (نحو 35 و38 عاماً على التوالي)، مقارنة بعلماء الطب (42 عاماً). ويُعزى هذا الفرق إلى ظهور الفيزياء الحديثة حينها التي سمحت للعلماء الشباب بالازدهار. أما اليوم، فقد أصبحت السن التي يصل فيها العلماء إلى ذروة حياتهم المهنية متقاربة جداً في التخصصات المختلفة. مع العلم أن الفيزيائيين ما زالوا أصغر سناً من المتوسط؛ إذ يقدمون إسهاماتهم الرئيسية بسن 42 عاماً تقريباً، ويرجع ذلك إلى طبيعة عملهم وحاجتهم إلى نشر عدد أقل من الأوراق البحثية لتحقيق مساهمة كبيرة، بالإضافة إلى أن اكتشافاً واحداً كبيراً يكفيهم لنيل جائزة نوبل، في حين أن الاقتصاديين، على سبيل المثال، ينالون جوائز نوبل عن نظرياتهم التي يطورونها على مدى سنوات عديدة، ما يرفع متوسط أعمارهم.
ومن المثير للاهتمام أنه حتى في عالم الأدب، ثمة سن يصل فيها الإبداع إلى الذروة، فعلى الرغم من أن الكتّاب الذين قد لا يعتمدون على شهادات الدكتوراة أو معدّات المختبرات أو المنح، وهي إجراءات من المحتمل أن تؤخِّر الوصول إلى ذروة الحياة المهنية في التخصصات الأخرى، فغالباً ما ينتجون أفضل أعمالهم في منتصف العمر، وعلى نحو متوسط في سن 41 عاماً بالنسبة للمؤلفين الذين أشادت لجنة نوبل بأعمالهم الفردية.
كيف تحقق أقصى استفادة من ذروة الحياة المهنية؟
إذاً، يمكن القول إنه وبغض النظر عن التخصص، فإن الأشخاص الذي سينالون جوائز نوبل في المستقبل، سيكونون غالباً أكثر إنتاجية في أواخر شبابهم وحتى أوائل منتصف أعمارهم؛ فغالباً ما يحصل في هذه المرحلة تقاطع ما بين الأفكار الإبداعية والوسائل اللازمة لمتابعتها وتحقيقها. وغالباً ما ينطبق ذلك على الموظفين في المجالات المختلفة؛ إذ تتراوح سنوات الدخل الأكبر عادةً ما بين أواخر الأربعينيات إلى أواخر الخمسينيات من العمر، وعلى وجه التحديد، تكون سنوات الدخل الأكبر بالنسبة للرجال ما بين 45 و64 عاماً، في حين تكون بالنسبة للنساء ما بين 35 و54 عاماً. وإليك بعض النصائح للاستفادة من عصر التألق هذا:
- الاستفادة من الخبرة: فكِّر في طرائق مختلفة للاستفادة من معرفتك ومهاراتك خارج وظيفتك، مثل أن تصبح أستاذاً جامعياً أو مستشاراً أو مدرباً أو متحدثاً في مجتمعك.
- تخفيض الديون: ركِّز على استخدام الدخل المرتفع استخداماً جيداً خلال سنوات الذروة هذه، خصوصاً لسداد أي ديون مستحقة؛ مثل الرهون العقارية أو قروض السيارات أو غيرها. يضمن ذلك تقاعداً مستقراً مالياً دون عبء الديون.
- ريادة الأعمال: بالنسبة للمهتمين بريادة الأعمال، فكِّر في تحقيق هذا الحلم بينما ما زلت تعمل وتكسب المال. ابدأ مشروعك الخاص أو استثمر بعضاً من أموالك في مشروع ما.
- التأمين على الحياة والرعاية الطويلة الأجل: راجِع احتياجاتك من التأمين على الحياة وقيِّم إذا ما كنت تحتاج إلى تأمين رعاية طويل الأجل، واتخذ الإجراءات اللازمة.
- التخطيط للتقاعد: قيِّم وضعك المالي وخطط للتقاعد خلال سنوات الدخل المرتفع بدلاً من الانتظار حتى حافة التقاعد.
بعيداً عن الذروة، كيف تتغلب على العقبات التي تفرضها السن على الحياة المهنية؟
والآن، ماذا عن الأشخاص الذي يقعون خارج هذا الفترة الذهبية من الحياة المهنية، كيف لهم أن يتغلبوا على تأثير السن في الحياة المهنية؟ فمن المعلوم أن الخريجين الجدد يتمتعون بالحماسة والاستعداد للتعلم لكنهم يفتقرون إلى الخبرة، في حين يتمتع المهنيون الأكبر سناً بالخبرة اللازمة؛ لكن مهاراتهم أصبحت قديمة وتوظيفها مكلف لأصحاب العمل. فكيف يمكن للموظفين التغلب على تأثير العمر في الحياة المهنية وإثبات أنفسهم في بيئات العمل الشديدة التنافسية؟ إليك بعض النصائح:
- القدرة على التغيّر والتكيّف: القدرة على التكيف مع التغيير أمر ضروري في بيئة العمل الحديثة. وخلافاً للصورة النمطية، يُظهِر المهنيون الذين تتراوح أعمارهم ما بين 45 و54 عاماً قدرة أكبر على التكيف مع التغيير. عموماً، من الضروري لجميع الموظفين، بغض النظر عن أعمارهم، أن يتبنّوا عقلية التغير ويطوروا قدراتهم على التكيف ويتخذوا الخطوات اللازمة لمواكبة الصناعات والتقنيات المتطورة.
- التعلم مدى الحياة: يعد كل من التعلم المستمر وتطوير المهارات أمراً حيوياً بغض النظر عن العمر أو المرحلة المهنية. ولا يتعلق الأمر بتطوير المهارات الأساسية أو التقنية المتعلقة بمجال العمل، بل ينبغي أيضاً التركيز على اكتساب مهارات التواصل وحل المشكلات والتفكير النقدي والإبداع والتعاون.
- التركيز على نقاط القوة: ينبغي التركيز على نقاط القوة والتأكد من توضيحها في السيَر الذاتية وخلال العمل. يمكن للمهنيين الشباب تعويض افتقارهم للخبرة من خلال إظهار رغبتهم القوية في التعلم ومرونتهم في التعامل مع الانتقادات. في المقابل، من المفيد أن يظهِر المهنيون الأكبر سناً معرفة قيّمة والتزاماً بأدوارهم وبالمؤسسات التي يعملون فيها. يمكن لإبراز نقاط القوة هذه في طلبات العمل أن يجعلك مرشحاً مرغوباً فيه.
- مراعاة ثقافة الشركة: التفكير في التقدم للعمل لدى شركة تقدّر نقاط قوتك وتتوافق مع قيمك، حتى لو لم تكن الشركة تطلب موظفين. يمكن أن تؤدي ثقافة الشركة دوراً مهماً في التطوير والرضا الوظيفي.
- فهم الحقوق القانونية: التمييز على أساس السن غير قانوني، لذا من المهم توثيق أي ممارسات تمييزية غير عادلة والإبلاغ عنها.
ختاماً، يبدو أن الأشخاص يصبحون أكثر إبداعاً مع دخولهم سن الأربعين، وهو ما يتحدى الفكرة الشائعة المتمثلة بالاحتفاء بالمواهب الشابة. ينبغي أن تحمل هذه الرؤية دروساً قيّمة لعالم الأعمال، إذ يمكن للموهبة والابتكار أن يزدهرا في مراحل مختلفة من الحياة المهنية.