ملخص: جرت العادة منذ زمن بعيد على لجوء المؤسسات إلى الإطاحة بالإدارة الوسطى كلّما ضاقت بها الحال وتعرّضت لظروف صعبة، وظروف اليوم لم تبعد عن هذه العادة! ويعتقد مؤلفو هذه المقالة أن هذا السلوك خطأ فادح، ويقولون إن رأس المال البشري لا يقل أهمية عن رأس المال النقدي، إن لم يكن يفوقه أهمية! فمدراء الإدارة الوسطى هم مَنْ يعيّنون موظفي المؤسسة ويطورون أداءهم، ولذلك هم أهم أصول المؤسسة على الإطلاق، ولا بد من وجودهم لتجاوز أوضاع اليوم التي تشهد تغيُّرات متلاحقة ومعقدة؛ فهم يمكنهم خلق بيئة تمنح العمل معنى هادفاً وتجعله أكثر إثارة للاهتمام وتزيد إنتاجيته، وهم عنصر حاسم في عمليات التحول المؤسسي الحقيقي. ولكن إذا أردنا من المدراء أن يرتقوا إلى مستوى هذه الطموحات، فيجب على القادة إعادة النظر في الأدوار الوظيفية لهؤلاء المدراء والضغط من أجل إدراك قيمتهم بجوانبها كلها وتدريبهم وتأهيلهم وإلهامهم لإدراك إمكاناتهم بوصفهم عنصراً محورياً في نهضة أي مؤسسة.
أعلن الكثير من الشركات في الأشهر الأخيرة، وسط دلائل قوية على احتمالات تراجع الاقتصاد، عن تسريح العاملين بهدف خفض النفقات، والقاسم المشترك بين هذه الشركات كلها هو استهداف الإدارة الوسطى بعمليات التسريح. قد يكون الاستغناء عن هذه الوظائف على عجل أو بطريقة جائرة خطأً فادحاً يكلّف المؤسسة الكثير. فعلى مدى السنوات العديدة الماضية من تقديم المشورة للعملاء والبحث في اتجاهات قوة العمل، رأينا أن هذا المستوى المؤسسي يتعرّض للتقليص في كثير من الأحيان مع أهمية دوره المحوري! فمدراء الإدارة الوسطى يلمسون العمل الميداني على أرض الواقع، وفي الوقت نفسه ليسوا بعيدين كثيرًا عن الإدارة العليا، ولذلك هم يؤدون دوراً لا غنى عنه لمساعدة الشركات على تجاوز التغيُّرات المتلاحقة والمعقّدة! يمكنهم خلق بيئة تمنح العمل معنى هادفاً وتجعله أكثر إثارة للاهتمام وإنتاجية، ويستحيل حدوث تحول مؤسسي حقيقي إلا بمشاركتهم. ونستطيع تشبيههم في هذا المقام بالمادة اللاصقة التي توطّد العلاقة بين فِرق العمل والمؤسسات، وهذا يعزز فُرص الشمول والأمان النفسي التي يحتاج إليها الأفراد والجماعات للنمو.
وإذا أردنا من المدراء تلبية هذه الطموحات، فيجب على القادة إعادة النظر في الأدوار الوظيفية لهؤلاء المدراء، ومنحهم من التدريب والدعم ما يحتاجون. وبدلاً من فصلهم أو تحويلهم إلى مناصب مكتبية بسيطة أو تكليفهم بأعمال فردية لا تليق بإمكاناتهم، يجب على الشركات إعادة تقييم مسؤولياتهم والضغط من أجل إدراك قيمتهم بجوانبها كلها، ثم تطوير مستوى أدائهم وتدريبهم وإلهامهم لإدراك إمكاناتهم بوصفهم عنصراً محورياً في نهضة أي مؤسسة.
قد يبدو كل هذا مهمة بالغة الصعوبة! لكنّ قادة الشركات مطالبون باتخاذ هذه الخطوات؛ لأنهم لا يستطيعون تحمُّل تكلفة عدم اتخاذها، وهو ما توصلنا إليه حديثاً عندما حاولنا دراسة الأثر الاقتصادي للاستثمار في تنمية رأس المال البشري، وشمل ذلك مستوى الإدارة الحرجة. لقد درسنا بيانات الموارد البشرية التي تخص 1,700 شركة عالمية، مثل معدلات دوران الموظفين وعدد ساعات التدريب والتنقلات الوظيفية الداخلية. وتناولت دراستنا أيضاً الدرجات المرصودة على مؤشر ماكنزي للصحة المؤسسية التي تستند إلى تحليل نتائج الأداء المؤسسي (مثل تحفيز الموظف ومستوى الشمول في بيئة العمل) والممارسات الإدارية (مثل التمكين الإداري للموظفين وبيئة منظومة الابتكار). وعندما قارنا هذه المعلومات بالنتائج المالية للشركات، وجدنا أن الشركات التي تفوّق مدراؤها في مقاييس رأس المال البشري حققت عائدات عالية على رأس المال المستثمر (بنسبة 28%) وكان أداؤها المالي أفضل من نظيراتها على المدى البعيد بمقدار 4 أضعاف وشهدت نمواً مستداماً للإيرادات في أثناء جائحة فيروس كورونا المستجد.
لماذا قد يكون مدراء الإدارة الوسطى اللاعبين الأكبر قيمة في مؤسستك؟
لا يعرف الكثير من الشركات كيفية تحقيق أقصى استفادة ممكنة من مدراء الإدارة الوسطى؛ أي الأشخاص الذين يشغلون مناصب على بعد واحد من كلٍّ من موظفي الخطوط الأمامية ومسؤولي القيادة العليا. وقد صرّح هؤلاء المدراء في استقصاءات متتالية بأنهم غارقون في العمل البيروقراطي والإسهامات الفردية، وأنهم إذا حُررِوا من هذه المطالب فيمكنهم تولي زمام المبادرة في العديد من المجالات الحاسمة والتحديات التي تواجه أماكن العمل في القرن الحادي والعشرين.
الاستجابة لارتفاع وتيرة الأتمتة
باتت الخوارزميات والآلات تحل محل البشر في أداء المهمات، ولذلك ستنخرط الشركات فيما نسميه إعادة التركيب العظيم، ويعني إيجاد سبل لإعادة صياغة عمل الموظفين. ومع أن الجزء الأكبر من عمليات إعادة الصياغة هذه قد يتم في المقرات الرئيسة للشركات، لا يمكن تحديد التفاصيل وتنفيذها إلا بأولئك الذين يمتلكون معرفة مباشرة بما يحدث على أرض الواقع. ومن هذا المنطلق تصر المؤسسات الذكية على تكليف مدراء الإدارة الوسطى بتفكيك الوظائف المتأثرة وإعادة تجميع أجزائها بصيغة جديدة.
لقد أدرك مسؤولو سلسلة متاجر وول مارت –وهي أكبر جهة توظيف خاصة في العالم- أهمية إعادة التركيب في مواكبة التطورات التكنولوجية وتفضيلات المستهلكين التي تشهد تغيُّرات متلاحقة. وتحرص أكاديمية وول مارت التابعة للشركة الأم على توفير التعليمات والتدريبات اللازمة في أثناء العمل لإعداد منتسبي الشركة للمناصب الإشرافية، ويقدم برنامج لايف بِتر يو (Live Better U) دروساً وتدريبات مجانية في مجالات تشمل الأمن المعلوماتي الحاسوبي (الأمن السيبراني) وإدارة الأعمال وإدارة سلاسل التوريد والخدمات اللوجستية، استباقاً للمهارات التي تشير التوقعات إلى أن منتسبي الشركة سيحتاجون إليها للمضي قُدماً. وقالت النائبة الأولى لرئيس وول مارت لشؤون المهارات القيادية والتعلُّم، لورين ستومسكي، للأستاذ في كلية هارفارد للأعمال، جوزيف فولر، في حلقة بودكاست: إن بناء خط إمداد إداري قوي أمرٌ ضروري! وأوضحت أن المدير هو "الشخص الذي يثق في قدراتك، ويرى أنك تستطيع الوصول إلى مستويات أعلى".
الفوز في التنافس الحادّ لاستقطاب المواهب
أثبتت الأبحاث التي أجرتها شركتنا وغيرها من المؤسسات أن الأفراد لا يبحثون عن الراتب الجيد فحسب، بل يريدون أن يفهموا العلاقة بين الوظيفة المرتقبة واستراتيجية المؤسسة ومدى توافقها مع غاياتهم وأهدافهم الشخصية. يريدون الانضمام إلى فريق يراعي مشاعرهم وجدير بنيل ثقتهم ويثير اهتمامهم ويحرص على وصول أفراده إلى أعلى مستويات الأداء ويعمل في بيئة يسودها المرح. يريدون من الشركة أو المؤسسة التي يعملون فيها أن تسهم في تطوير مسيرتهم المهنية، ويريدون امتلاك قدر أكبر من السيطرة على عملهم ومكان أدائهم له وزمانه.
ويستطيع مدراء الإدارة الوسطى إحداث فرق كبير في قدرة الشركة على جذب المواهب؛ فهم قادرون - بما يفوق رؤساءهم أو زملاءهم في الموارد البشرية- على صياغة ترتيبات العمل الفردية المخصصة التي تسهم في تعزيز عمليات التوظيف ومعدلات استبقاء العاملين والتنوع مع تيسير العمل البنّاء الذي يحقق نتائج عالية القيمة. ولنأخذ مثالاً على ذلك شخصية تُدعى جوليا، وهي فتاة حديثة التخرُّج تمتلك مؤهلات ممتازة، وقد أجرت مقابلتين شخصيتين في شركتين استثماريتين؛ فدُهش في إحدى المقابلتين مدير التعيينات الذي يدعى عدنان عندما رفضت جوليا العرض الذي قدّمته شركته بمنحها راتباً سنوياً مكوناً من 6 أرقام! لقد فشل في أن يدرك أنّ عملية التوظيف لم تعد تقتصر على التبادل الاقتصادي فحسب! وانعقد لسانه ولم يُبدِ جواباً عندما سألته جوليا عن تقاسم العمل وإذا ما كانت الشركة قد تعهدت بالوصول إلى الحياد الكربوني.
ولكن في الوقت نفسه، وافقت جوليا على شغل وظيفة في الشركة الثانية التي ركزت على الاستثمار في الحوكمة البيئية والحوكمة الاجتماعية وحوكمة الشركات؛ إذ تحدث المدير الذي أجرى معها مقابلة شخصية هناك، ويُدعى أسامة، عن قيم الشركة وأولوياتها وإذا ما كانت ترتبط بقيم جوليا وأولوياتها الشخصية. فلا يمكن أن يجُري هذا النوع من المحادثات إلا شخصٌ على دراية وثيقة بميدان العمل؛ لأنه يستطيع فهم حاجات الشركة وحاجات كل فرد على حدة. وقد أعرب أسامة عن انفتاحه على العمل عن بُعد والعمل بدوام جزئي، وأبرم الصفقة بتقديم جوليا إلى فريقه الذي نال إعجابها بسبب حماس أعضائه والتزامهم بتحقيق هدف مشترك.
إنه بتخليص المدراء من المهمات التي تثقل كاهلهم يمكن حينئذ رفع مستوى عملهم، ومن ثَم السماح لهم برفع مستوى عمل مرؤوسيهم.
لقد أصبحت طبيعة العمل حيوية أكثر من أي وقت مضى، فيجب أن تتطور معها أساليب تعيين الموظفين الأخرى. وإنّ إدارة الموارد البشرية منوطة بضمان اتساق السياسات وعدالتها وقانونيتها، لكن المدراء وحدَهم هم مَنْ يفهمون طبيعة سير العمل في إداراتهم بالعمق الكافي الذي يتيح لهم رؤية الفجوات بين الواقعين القديم والمستجد وتحديد السياسات التي يجب تغييرها. مثلاً، أما يزال الحصول على الشهادات الجامعية شرطاً منطقياً لشغل أدوار معينة، أم لا بد من وضع استراتيجيات أكثر إبداعاً للتوظيف؟ يستطيع المدراء ومسؤولو الموارد البشرية العمل معاً لتوسيع نطاق تعيين الموظفين الجُدد وجلب أنواع جديدة من المواهب. وبذلك سيساعدون شركاتهم أيضاً على تحقيق أهداف التنوع مع إتاحة الفرصة أمام الفئات الاجتماعية التي طالما تعرّضت للتهميش.
قيادة تطوير الموظفين
يجدر بمدراء الإدارة الوسطى التباحث مع مسؤولي إدارة الموارد البشرية في كيفية الإشراف على موظفي المؤسسة وتطويرهم؛ إذ يعرفون أعضاء فريقهم أكثر من أي شخص آخر، وهم مسلحون بأفضل الأدوات اللازمة لتوفير التدريب المستمر وتحديد مشكلات الأداء ومعالجتها في مراحل مبكرة.
كان يوسف يعمل في وكالة إعلانية، وكان على دراية جيدة بطبيعة هذا القطاع ولديه أفكار إبداعية، ولكنْ كان يعيبه كثرة الخوض في مسارات جانبية والابتعاد عن صلب الموضوع، فذلك يزيد من تعقيد المشاريع ويجعلها تستغرق وقتاً طويلاً بدون داعٍ. وبدلاً من أن يعالج مدير يوسف مشكلته هذه، شجعه على الانتقال إلى وظيفة أخرى! ولكن لحسن الحظ أخذت مديرة يوسف الجديدة، عائشة، وظيفتَها مدرّبةً ومطوّرةً مهنية على محمل الجد؛ فأبلغت يوسف بتوقعاتها منذ البداية، وتحدثت معه عن طرقٍ أكثرَ فعالية لممارسة العمل. فمثلاً، أشارت إلى أنه كان بإمكانه حل مشكلة معينة واجهها أحد عملاء الوكالة بمكالمة هاتفية واحدة بدلاً من إرسال رسالة إلكترونية جماعية، وبذلك يوفر وقته ووقت الآخرين. وهكذا استطاع يوسف بفضل توجيهات عائشة أن يقدّم إسهامات إيجابية ويصبح موظفاً مفيداً للعمل ولزملائه.
إظهار الغاية والتعاطف
لا تنتهي الحاجة إلى التحلي بهذا السلوك باكتمال تعيين الموظفين؛ فعندما يشعر العاملون بأنّ ثمة هدفاً أسمى يسعون لتحقيقه ويشعرون بالانتماء إلى مؤسستهم دائماً، فإن ذلك يرفع من مستوى رضاهم والتزامهم وأدائهم. ويستطيع الرئيس التنفيذي أن يبدأ بصياغة رواية مقنِعة للقيم التي تمثلها الشركة وتدافع عنها، لكنّ المحادثة المستمرة تتطلب مدراء مَهرة يمكنهم إجراء أبحاث مكثفة لمعرفة القيم التي يعتز بها كل موظف، وربطها بالصورة العامة، ومحاولة تكييف كل وظيفة مع مصدر إلهام كل موظف على حدة. وتزداد أهمية هذا السلوك في ضوء تداعيات جائحة فيروس كورنا المستجد. ففي استقصاء أجرته شركة ماكنزي في أغسطس/آب 2020 شمل موظفين أميركيين، قال ثلثاهم إن فيروس كوفيد-19 جعلهم يعيدون النظر في غايتهم الشخصية، وقال نصفهم تقريباً إنهم يفكرون في تغيير وظائفهم نتيجةً لذلك.
ويمكن لمدراء الإدارة الوسطى توضيح مغزى الأهداف المؤسسية من خلال طرح أسئلة، مثل: ما العمل الذي يجب أداؤه؟ وما سبب أهمية هذا العمل؟ والإجابة عنها بالتعاون مع مرؤوسيهم؛ فربما يكونون رواة قصص وصنَّاع أهداف من الطراز الرفيع. وفي ظل إقدام الكثير من المؤسسات على تخفيف صرامة نموذج عملها القائم على الالتزام بالحضور إلى مقراتها الرئيسة استجابةً للظروف المصاحبة لتفشي فيروس كورونا المستجد، أصبح ربط الموظفين بأهداف الشركة وغاياتها المنشودة أكثر تعقيداً وأهمية من أي وقت مضى.
ومن ناحية أخرى، يدرك المدراء المهرة أن موظفيهم هم أشخاص يتمتعون بحياة غنية وذات معانٍ عميقة، فيبدون اهتمامهم لا بعملهم فحسب، ولكن أيضاً بآمالهم وأحلامهم. ويدرك هؤلاء المدراء أن ضعف مستوى أداء الموظف قلّما يرجع إلى عدم اهتمامه أو لا مبالاته بالعمل؛ بل يرجع عادة إلى عدم الملاءمة الوظيفية أو بسبب تعرُّضه لضغوط شخصية. وإذا كان الأمر كذلك، يمكن للمدراء أن يجوبوا آفاق الشركة بحثاً عن شيء أكثر ملاءمة. أمّا إذا كانت المشكلة في تعرُّض الموظف لضغوط شخصية، فيمكنهم التخفيف من الأعباء المُلقاة على كاهل الموظف.
لم يعد الاطمئنان على الصحة النفسية لأعضاء الفريق مطلباً اختيارياً؛ بل أصبح أمراً لا بد منه. ففي استقصاء أجراه معهد ماكنزي للصحة (McKinsey Health Institute) شمل 15,000 موظف في 15 دولة، صرح 59% من المشاركين بوجود تحدٍّ واحد على الأقل يهدد صحتهم النفسية. وتعد المحادثات الثنائية وسيلة مثالية لمعرفة التحديات التي يواجهها الموظفون وللتعبير عن التعاطف وتقديم مساعدات ملموسة. ويمكن لمدراء الإدارة الوسطى الذين يجرون محادثات ثنائية بانتظام مع مرؤوسيهم زيادة شعور موظفيهم بالولاء ورفع مستوى أدائهم.
الاستخدام الذكي للبيانات
يؤدي إهمال البيانات وإساءة استخدامها إلى تعريض المؤسسات لمخاطر جسيمة، لا سيما في البيئات المتقلبة التي تشهد تغيُّرات متلاحقة في طبيعة العمل. ويشتكي قادة كثيرون من أنّ استثمارهم في تكنولوجيا البيانات الباهظة الثمن لا يعود عليهم سوى بالقليل من النتائج الملموسة!
وتنبع الصعوبات في الغالب من المشكلة التي تسمى "المحطة الأخيرة"؛ أي التحدي المتمثل في صياغة البيانات بلغة مفهومة للموظفين مع تمكينهم من استخدامها وإعطائهم توصيات واضحة لتنفيذها. ولذلك وكّلت بعض الشركات فرقاً متخصصة في علوم البيانات متعددة الوظائف لإجراء مناقشات حول المعلومات وتحليلها ونشرها والمساعدة في إدارة أي مشاريع جديدة تنتج عن ذلك. ويمكن لمدراء الإدارة الوسطى أداء أدوار رئيسة في مثل هذه الفرق بأن يساعدوا في صياغة تحليلاتها وتنظيم عملها. ولأن مدراء الإدارة الوسطى هم أفضل من يستطيع فهم كيفية جمع البيانات وتطبيقها على الأعمال اليومية، فلا بد من وجودهم لضمان عدم تسبُّب الأنشطة القائمة على البيانات في ترسيخ مظاهر التحيز أو عرقلة الأداء.
ولكن يجب ألا تتضمن فكرة تسخير البيانات اعتماد تكنولوجيا معقدة؛ فمثلاً قد تكون استقصاءات الموظفين البسيطة طريقة فعالة لمعرفة ما يريده الآخرون. لذلك يجب أن يعمل كبار القادة مع مدراء الإدارة الوسطى لضمان صياغة الأسئلة الواردة بها بعناية فائقة؛ ويعرف المدراء أكثر من أي شخص آخر العوامل المهمة التي يجب قياسها. ويمكنهم ترجمة النتائج لكلٍّ من رؤسائهم ومرؤوسيهم، بل يمكنهم المساعدة في وضع خطط عمل من شأنها أن تسفر عن نتائج ملموسة.
ما يجب على كبار القادة فعله
يفشل عدد كبير جداً من كبار المسؤولين التنفيذيين في تمكين مرؤوسيهم من أداء العمل الذي يلائمهم أكثر من غيرهم. وقد عانى مدراء الإدارة الوسطى على وجه الخصوص من ذلك. وفي استقصاء أجرته شركة ماكنزي حديثاً، صرّح الكثيرون منهم بأنهم يُمضون ما يقرب من نصف وقتهم في أداء مهمات مكتبية يسيرة أو تنفيذ أعمال فردية منخفضة القيمة. وقالوا في المقابلات الشخصية إنهم يفتقرون إلى ثقة رؤسائهم. إنّ هذه الأشياء قد تؤدي إلى إصابة المؤسسة كلها بحالة من العجز المُكتسب.
ويتحدث الكثير من المؤلَّفات عن ضرورة التخلي عن الأسلوب القديم القائم على التحكم والسيطرة، وإعادة تقييم الأدوار الوظيفية ومنح مزيد من الصلاحيات للموظفين الذين لا يشغلون مناصب رفيعة. ويعجز القلم عن تأكيد هذه النقطة بالقدر الكافي؛ إذ يحتاج المدراء إلى الاستقلالية والمرونة لكي يؤدوا دورهم كما يجب، وبتخليصهم من المهمات التي تثقل كاهلهم- سواء عن طريق أتمتة هذه المهمات أو إعادة توزيعها أو إلغائها تماماً- يمكنك رفع مستوى عملهم والسماح لهم بالارتقاء بمستوى عمل مرؤوسيهم. وهذا يعني إعطاء الأولوية للثقة على البيروقراطية والتخلي عن نموذج "اللاعب/المدرب" الشهير الذي يطالب المدراء بتحقيق التوازن بين وظيفتين بدلاً من التركيز على واحدة فحسب.
ابدأ عملية إعادة التقييم بتحديد أهم الأدوار الإدارية، تلك التي ستحقق أكبر هامش ربح أو تنطوي على أعلى قدر من المخاطر، وفكر جيداً فيمن ستكلفه بشغل هذه الأدوار وفقاً للمهمات المحددة الواجب إنجازها. بعد ذلك حدّد أكثر المدراء تأثيراً. ويمكنك فعل ذلك باستقصاء آراء الموظفين في الأشخاص الذين يلجؤون إليهم عندما يريدون معرفة ما يحدث، فاحرص على معرفة الأسماء التي تظهر بوتيرة متكررة. واعلم أنه لن يتولى هؤلاء الأشخاص كلهم أدواراً مهمة؛ لذا يجب أن تتعرف إلى ما نسميه "الفئة الحرجة"، وهي مجموعة من الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على التأثير ويتمتعون بقيمة عالية. فيجدر بك استدعاؤهم إلى غرفة العمليات عند اتخاذ قرارات استراتيجية مهمة. وقد يتحول المؤثرون الذين لا يشغلون مناصب عالية القيمة إلى ما يشبه مُكبّرات الصوت، فإذا أطلعتهم على المستجدات وحرصتَ على إلهامهم، فيمكنهم حينئذٍ نشر طاقة إيجابية وخلق حالة من الإثارة بين صفوف العاملين.
ويمكن تشجيع المدراء الأذكياء والمبتكرين الذين يفتقرون إلى القدرة على التأثير أو لا يمتلكون علاقات وطيدة بالآخرين، على الانضمام إلى الشبكات التي تساعدهم على توليد الأفكار ومشاركتها وتنفيذ الخطط الناتجة عنها. ويستطيع المدراء الذين يتصفون بضعف التأثير أو يعجزون عن تحقيق قيمة مضافة أن يُحدثوا فرقاً ملموساً إذا استُعين بخدماتهم بحرص وعناية فائقتين؛ لأن تكليفهم بمشاريع مهمة أو ربطهم بزملائهم الأقدر على التأثير قد يمنحهم الحافز للتألق.
وعند انخراطك في عملية إعادة تقييم الأدوار قد تصطدم بواقع صعب؛ فبعض الأشخاص يفتقرون إلى الإمكانات التي تؤهلهم لشغل أيٍّ من هذه الأدوار؛ فيمكنك تدريب الكثيرين ليكونوا أكثر فعالية أو تكليفهم بقيادة فريق أكثر ملاءمة. ويمكن لأولئك الذين برعوا في أداء الأعمال الفردية العودة إلى هذا الدور ووضعهم في مسار الترقيات في مجالات خبراتهم. وقد لا يكون البعض ملائماً للمهمات المعدّلة وتلقي تدريب إضافي، فتجد نفسك مضطراً إلى الاستغناء عن هذه الفئة القليلة من المدراء.
ويتعيّن عليك أيضاً أن تغيَّر أساليب تقييم مدرائك، فلا تحدد مكافآتهم وفقاً للإيرادات والأرباح التي تنتجها إداراتهم. واحرص على معرفة المدراء الذين يتولون أداء مهمات صعبة بغض النظر عن الإيرادات المحتملة. والأهم من ذلك أن تكافئ المدراء على أهم متطلبات وظيفتهم، ألا وهي الإدارة. إننا نعرف مسؤولاً تنفيذياً ابتكر بطاقةً لقياس الأداء، وتستخدم هذه البطاقة المقاييس التقليدية؛ ولكنها تراعي أيضاً مستوى أداء الفريق والتنوع ومعدلات الدوران الوظيفي وعدد المناصب الشاغرة في الفريق وعدد الاجتماعات الثنائية مع مرؤوسيهم والتخطيط لتعاقب الموظفين وشعورهم بالاندماج. وأياً كانت المعايير التي تعطيها الأولوية، كن صريحاً بشأن السلوكيات التي تريد تعزيزها.
في أثناء عملك على تجديد طاقة مدراء الإدارة الوسطى وحيويتهم، يجب عليك الالتزام بما يلي:
- تأكد من وجود بيان واضح يستعرض غاية مؤسستك ويتماشى مع الغاية المنشودة للمدراء.
- ابذل كل ما في وسعك للحفاظ على المدراء الجيدين في مناصبهم الإدارية، واحرص على ترقيتهم داخل المسار الإداري ونقلهم إلى مناصب عالية القيمة ومكافأتهم بزيادات كبيرة في الأجور تقنعهم بعدم البحث عن وظائف أخرى.
- أخبرهم بأن هذه الأدوار مرغوبة، بمعنى أنها غاية في ذاتها وليست محطة مؤقتة.
- شجِّع المدراء على أن يعقد بعضهم مع بعض اجتماعات يتبادلون فيها أفضل الممارسات.
- اخلق ثقافة يشعر فيها المدراء بحرية التحدُّث والإدلاء بدلوهم؛ لأنهم أول مَنْ يحدد المشكلات النظامية وأول مَنْ يرى الحلول في أغلب الأحيان.
- أظهِر التعاطف مع مدرائك، تماماً كما تتوقع منهم أن يُظهِروا التعاطف مع مرؤوسيهم.
يؤدي المدراء واحدة من أصعب المهمات على الإطلاق! وقد أثبتت الاستقصاءات أنهم أكثر العاملين عُرضة للإصابة بالاكتئاب والتوتر؛ فضعْ هذه الاعتبارات نُصب عينيك وقدّم لهم دعماً كاملاً غير منقوص.
واعلم أنه لا يقل رأس المال البشري في عالم العمل اليوم أهمية عن رأس المال النقدي! إن لم يكن يفوقه أهمية! وإذا أرادت المؤسسات البقاء والازدهار فعليها أن تغيّر طريقة تفكيرها والاعتراف بأن الموظفين هم أحد الأصول الحاسمة! بل عليها الإقرار أيضاً بأن أولئك الذين يوظفونهم ويطورونهم هم أهم الأصول على الإطلاق.
وسيكون البدء بإجراء التغييرات التي أوضحناها أصعب جزء من العملية؛ لذا يجب أن تكون هذه التغييرات مصحوبة بتدريبات مكثفة؛ لأنك لن تجد مدراء كثيرين يمتلكون مهارات التعامل مع الأشخاص على المستوى المطلوب في أدوارهم بعد إعادة النظر فيها. ولكنْ من المؤكَّد أن مؤسستك ستجني مكاسب هائلة بعد أن تستثمر الوقت والطاقة في تمكين مدراء الإدارة الوسطى.