إطار جديد لصنع السياسات، إن مجال صنع السياسات أبعد ما يكون عن الثبات ويجب أن تكون طبيعته الديناميكية بمثابة تذكير لضرورة مراجعة المبادئ والنهج السائدة لصياغتها بهدف تحسين فعاليتها وتأثيرها على المواطنين.
تستند هذه المقالة إلى سنوات من التحليل لتحديد علاج لقضايا لطالما أعاقت التنفيذ الناجح للسياسات. وأدّى هذا العمل التأسيسي إلى صياغة إطار "الحوكمة الكمّية" الذي يبرز الدور الأساسي للمواطن في صلب هذا النموذج الجديد.
نادراً ما تأخذ الحكومات في الاعتبار القدرة الاستيعابية للأفراد من حيث تفاعلهم مع السياسات وقدرتهم على تحويلها إلى إنجازات ملموسة. وغالباً ما يتم التعامل مع هذه السياسات بشكل منفصل دون أي احتساب لشبكة الروابط الجامعة بينها حيث السياسات الفردية تؤثّر في بعضها البعض بدرجات متفاوتة.
يسهم نهج "الحوكمة الكمّية" في بناء جدول "ميزان السياسات" الوطني والذي من شأنه أن يرصد التوازن بين الإجراءات الحكومية من ناحية والقدرات الاستيعابية للمواطنين من ناحية أخرى. وبالتالي يهدف هذا الجدول إلى استكمال المقاييس التقليدية كالناتج المحلي الإجمالي ببعد جديد مرتبط مباشرة بالرفاهية التراكمية للفرد.
المعادلة الكمّية للتنمية
يصف إطار "الحوكمة الكمية" "أداء التطوير" (D) كدالة لـ "طاقة السياسات" (E) و"التعلم الكمي" (Q) :
كتلة "طاقة السياسات" (E) – بدورها، فإن مدخلات "طاقة السياسات" الخاصة بكل بلد دالة لأربعة عوامل تشمل "مزيج السياسات" (P) و"الشرعية" (L) و"الكفاءة الإدارية" (A) و"السرد" (N).
يشمل العامل الأول (P) والذي يقع تقليدياً في صميم دراسات التنمية، مجموعة السياسات العامة بالإضافة إلى مجموعة المتغيرات والظروف التي تؤثر في فعاليتها. لا تعمل السياسات في فراغ، ولكن كجزء من شبكة تظهر ترابطات معقدة وبالتالي، ومن أجل تحسين تأثيرها في التنمية، من المهم اختيار المزيج المناسب من السياسات وإعطاء الأولوية لتلك التي لها التأثير الأكبر عند أخذ روابط الشبكة في عين الاعتبار.
يمكننا الملاحظة أن هناك علاقة ثنائية الاتجاه. فمن ناحية، نعرّف "التأثير النظامي" بأنه التأثير التراكمي لسياسة معينة على باقي السياسات. ومن ناحية أخرى، يمكننا تحديد "الاعتماد النظامي" كسلوك السياسة من منظور "النتيجة" ومقياس لمدى اشتراط فعالية سياسة معينة بسياسات أخرى في الشبكة.
تجدر الإشارة إلى أن هذا التحليل يكشف أيضاً أن السياسات تتميز بروابط عبر القطاعات وأن تصنيفها التقليدي المحصور في قطاع معيّن (مثل السياسة التعليمية أو السياسة البيئية) لا تدعمه الأدلة التجريبية. علاوة على ذلك، تخضع هذه السياسات لهيكل هرمي يعكس الاختلافات في تأثيراتها واعتماداتها النظامية. في الواقع، تتمتع بعض السياسات بتأثير نظامي كبير من شأنه أن يؤدي إلى فعالية أقوى على تحقيق الأهداف الإنمائية. ويسهم الرسم البياني لـ "منحنى الخبرة" في توضيح هذه العلاقة من خلال تصوير بعد "التأثير النظامي" كدالة لبعد "الاعتماد النظامي" لمختلف السياسات. ونخص بالذكر ملاحظتان بارزتان:
- أولاً، لا يمكن للبلدان أن تتبنى طريقا مختصرا وأن تتخطى مراحل معينة لتبني السياسات الأكثر تأثيراً في حال كانت تلك السياسات تظهر بطبيعتها المزيد من التبعيات والترابط.
- ثانياً، إن العلاقة بين "التأثير" و"الاعتماد النظامي" ليست ثابتة وتتبع ثلاث مراحل رئيسية. في مرحلة "التجربة البطيئة" تُترجم أي زيادة في "الاعتماد" إلى زيادة نسبية أقل في "التأثير". أما في مرحلة "التجربة السريعة"، فتتزايد العوائد الهامشية من "الاعتماد وفي مرحلة "الركود"، تصطدم البلدان بـ "سقف زجاجي".
في هذا السياق، تتوافق الحالة المثلى مع الممارسة المزدوجة لتعظيم العوائد من خلال الاستفادة من تلك السياسات ذات "التأثير النظامي" الأعلى وتقليل متطلبات التكامل كما تقاس من خلال "الاعتماد النظامي" للسياسة.
العامل الثاني هو "الشرعية" (L) وهي المادة اللاصقة التي تربط نظام السياسة بشبكة الأفراد. يمكن قياس هذا العامل من خلال تقييم درجة الثقة في صانعي السياسات والارتكاز على عوامل أخرى تشمل توقعات المواطنين، وأداء الموظفين العموميين، ودرجة مشاركة المواطنين في عملية صنع السياسات ومواءمتها مع نظام القيم الجماعي.
بالإضافة إلى اختيار المزيج الصحيح من السياسات وضمان الشرعية، ينبغي أن يتمتع صانعو السياسات بإدارة فعّالة. "الكفاءة الإدارية" (A) هي العنصر الثالث وهي دالة لمهارات وموارد النظام الإداري وهياكله التنظيمية التي تؤثر في جودة تنفيذ السياسات وتسليمها.
أما العامل الأخير في كتلة الطاقة هو "السرد" (N) أو القصة التي يبتكرها صانعو السياسات والتي يعتمدون عليها في التواصل مع المواطنين. من الواضح أن السرد غير المتسق أو الضعيف لن يؤدي إلى تنفيذ ناجح للسياسة. تعتمد قوة السرد على عدة عوامل بما في ذلك مدى انتشاره، واتساقه مع أهداف السياسات، ومدى ارتكازه على القيم والمعتقدات الأساسية للمجتمع.
كتلة "التعلم الكمي"(Q) - يتأثر مدخل "التعلم الكمي" بعاملين يتضمنان "المعنى الفردي" (I) و"المجتمع" (C).
في جوهره، يشير التعلم الكمي إلى قدرة المواطنين والأفراد على استيعاب تدخلات السياسة العامة وتحويلها إلى إنجازات وفوائد. تكمن هذه القدرة في مجموعة من التفاعلات بين الأفراد والسياسات العامة التي تتراوح من الوعي البسيط إلى الفهم والالتزام والامتثال ثم التحويل. يتم تحديد مسار تحويل التعلم الكمي إلى حد كبير بواسطة "المعنى الفردي" (I) الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرات وتطلعات ودوافع أي شخص على النحو الذي تمليه خلفيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصفات التي تشكل أساس هويته الفريدة.
العامل الأخير هو عامل "المجتمع" (C) الذي يتمثّل بمجموعة من المؤسسات غير الرسمية والتي تشمل الأعراف والمعتقدات والتقاليد والقيم السائدة في مجتمع معين والتي تتجاوز الخلفيات المحددة للأفراد والمواطنين.
منظور حول دولة الإمارات العربية المتحدة
بحسب العلاقة بين مستوى "طاقة السياسات" (E) ومستوى "التعلم الكمي" (Q)، يمكن للبلدان اتباع أحد مسارات التنمية الثلاثة. الإمارات العربية المتحدة هي مثال لدولة تتبع مسار "الطاقة"، أي دولة تكون فيها طاقة أنظمة السياسات أعلى من القدرة الاستيعابية للأفراد. بشكل عام، تميل هذه البلدان إلى إبراز تنمية منتظمة ومتماسكة. المساران الآخران هما "المسار الفردي" ومسار "التمكين الكمي". في الحالة الأولى، تكون طاقة أنظمة السياسات أقل من القدرة الاستيعابية للأفراد، وعادةً ما تعرض هذه البلدان تطوراً متسارعاً، ولكن غير متماسك. في المسار الأخير، تتماشى طاقة أنظمة السياسات مع القدرة الاستيعابية للأفراد، وتخضع هذه البلدان عمومًا لتنمية متسارعة ومتماسكة.
لتحديد مستوى "مزيج السياسات" في دولة الإمارات العربية المتحدة، تم بناء قاعدة بيانات لأهداف التنمية المستدامة ومؤشرات أدوات السياسة. ثم تبع ذلك تحليل شبكي لقاعدة البيانات للكشف عن الروابط بين أهداف التنمية المستدامة والسياسات العامة. وقد ساعد ذلك في حساب درجة "التأثير النظامي" ودرجة "الاعتماد النظامي" على مستوى كل سياسة بالإضافة إلى حساب "درجة التأثير" المرتبطة بهما والتي تمثل نسبة الأولى على الثانية. ومن ثم تم احتساب مستوى "مزيج السياسات" على أنها متوسط النتيجة لكل سياسة عامة مرجحة بـ "درجة التأثير" الخاصة بها.
وفيما يتعلق بـ "الشرعية"، فقد تم حسابها من خلال قياس الثقة في المؤسسات العامة وصانعي السياسات، فضلاً عن درجة المشاركة المدنية والاجتماعية. تم تقييم "الكفاءة الإدارية" في الدولة باستخدام نهج التعقيد الاقتصادي كبديل لقدراتها الإدارية وتم تقييم "السرد" من حيث مدى انتشاره ومدى تفاعل المواطنين معه ومواءمته بشكل عام مع هدف ورؤية التنمية المنشودة.
تم تقدير "المعنى الفردي" باستخدام مؤشر مبني على قياس أداء دولة الإمارات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي مقارنة بالدول الأخرى. لتحديد عامل "المجتمع"، تم تصميم نموذج تعلم آلي لإجراء تحليل دلالي شامل لسلوك الأشخاص على منصات وسائل التواصل الاجتماعي (مثل Twitter). وكان الهدف من التحليل قياس ردود أفعال الناس على الإعلانات والتغريدات التي يصدرها صانعو السياسات من أجل تقدير درجة توافق أو عدم توافق الناس مع سياسة معينة.
جدول "ميزان السياسات"
يتضمن جدول "ميزان السياسات" إدخالين مخصصين لمدخلات السياسة ومخرجاتها:
- تصف مدخلات السياسة أداء الدولة فيما يتعلق بكتلتي "طاقة السياسات" و"التعلم الكمي". وكما قد أشرنا سابقاً فإن كتلة "طاقة السياسات" تقيس الجهود المستثمرة لتحقيق أهداف التنمية، بينما تقيس كتلة "التعلم الكمي" قدرة الأفراد على استيعاب هذه الطاقة وتحويلها إلى إنجازات ملموسة.
- على الجانب الآخر، تصف مخرجات السياسة أداء الدولة فيما يتعلق بأهدافها الإنمائية مثل أهداف التنمية المستدامة. والجدير بالذكر أنه يجب على الفرق بين أداء التطوير المتوقع والتطوير المحقق والذي يظهر في خانة مخرجات السياسة أن يكون متوازن كلياً مع الفرق بين "طاقة السياسات" و"التعلم الكمي" الذي يظهر في خانة المدخلات.
ويتجلى في دولة الإمارات العربية المتحدة، بأنها تنفق كمية أكبر من "الطاقة" نسبياً لمستويات استيعاب السياسات التي تم تحقيقها.
لمعالجة هذا الفرق، يمكن للدولة دراسة إمكانية تبسيط السياسات الحالية من خلال رفع دور القطاع الخاص وتسهيل إنشاء هيئة تنظيمية بين القطاعين العام والخاص والتي تسمح لمجموعة واسعة من المشاركين أن تتعاون مع الحكومة لتطوير وتنفيذ المعايير لتعزيز الابتكار والسلامة والأمن والسلوك الأخلاقي في صناعة معينة. ويمكن أن يلعب هذا دورًا محوريًا في ترسيخ ثقة المستخدمين وزيادة مستويات استيعابهم للسياسات.
إن إحدى المزايا الإضافية لمثل هذا التنظيم أنه يمكن أن يستجيب بشكل أسرع لظروف السوق المتغيرة والتطورات التكنولوجية وأن يضع تحت تصرف الحكومة ثروة من المعرفة الصناعية ونهج استجابة أكثر فعالية للتكيف مع التغيرات السوقية.
إضافة الى ذلك، فإن أحد سبل زيادة فعالية صنع السياسات يكمن في تطوير وتعزيز الاقتصاد التشاركي الذي يركز على تبادل السلع والخدمات والموارد بين الأفراد والمنظمات من خلال منصات رقمية مختلفة. ويمكن لدولة الإمارات العربية المتحدة أن تستفيد بشكل رئيسي من هذا الاقتصاد التعاوني الناشئ من خلال توفيره الكثيف لكافة المعلومات والبيانات إذ أن منصاته الرقمية تسهل معاملات المشاركة وتسمح بجني ثروة من المعلومات حول سلوك المستهلك وتفضيلاته.
ويمكن أن تساعد هذه المعلومات على فهم احتياجات ومطالب المواطنين بشكل أفضل، وتصميم سياسات وخدمات وفقاً لذلك. على سبيل المثال، من خلال تحليل بيانات مشاركة الركوب، يمكن للحكومة أن تحدد أنماط النقل واحتياجاتها، وأن تصمم أنظمة نقل عام أكثر فعالية. وكذلك، من خلال تحليل بيانات تقاسم السكن، يمكن للحكومة تحديد تأثير الإيجارات قصيرة الأجل على توافر المساكن والقدرة على تحمل تكلفتها، وتنظيم القطاع لمعالجة أي عوامل خارجية سلبية.
علاوة على ذلك، يمكن للاقتصاد التشاركي أن يساعد الدولة على زيادة فعالية سياساتها من خلال توفر منصات تسهل مشاركة المواطنين في التعبير عن مخاوفهم وتقديم اقتراحات وتعليقات حول السياسات والخدمات وأخذ ملاحظاتهم في الاعتبار. بهذه الطريقة، يمكن تعزيز الشفافية وتمكين المواطنين من لعب دور أكثر نشاطاً في تشكيل مجتمعاتهم.