"الإقلاع عن التدخين سهل جداً، فعلتُه ألف مرة"؛ مارك توين، الكاتب الساخر الشهير ومؤلف رواية "توم سوير"، يعرفه جيل الثمانينيات جيداً:)
لن أذكر في مقالي هذا فوائد الالتزام بالتمارين الرياضية على الفرد والأسرة والمجتمع، ولن أتحدث عن مقدار الزيادة في الإنتاجية ، ولا السعادة في المنزل، ولا عشرات المليارات التي يمكن للدول توفيرها. لن أذكر هذا لضيق المكان ولأنها بحسب علماء النفس والسلوك لن تؤثر كثيراً في التزام الناس بالذهاب إلى النادي أو ممارسة الرياضة.
في دراسة قد تكون نتائجها مثبطة للعزيمة، استخدم باحثو المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في أميركا المحفّز الأشهر لتحفيز الناس، حيث دفعوا لهم مبالغ مالية مقابل الالتزام بالذهاب للنادي الرياضي 9 مرات خلال الستة أسابيع الأولى. النتيجة الصادمة هي أن هذا المحفّز لم يغيّر في درجة التزام أي واحد من أفراد عينة الدراسة.
لا يُفضل البشر عموماً الارتباط بعقود طويلة، بل إنهم يدفعون مبالغ أكبر مقابل عقود أقصر في للمنتجات والخدمات القائمة على نموذج عمل الاشتراكات، لكن في حالة النادي الرياضي تحديداً، يفضّل الناس عموماً العقود طويلة الأجل، لماذا؟ في علم الاقتصاد السلوكي (Behavioral Economics) تعطيهم هذه العقود حافزاً نفسياً يسمّيه الخبراء "الالتزام المسبق" (Pre-commitment). من خلال هذا الالتزام المُصطنع يضع الشخص على نفسه نوعاً من الإلزام ويرسم صورة ورديّة يرى فيها نفسه يذهب للنادي ثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع، لكن واقع الحال عند الأكثر، أنّهم لا يذهبون ولا يلتزمون.
تخبرنا الأبحاث العلمية أيضاً أن الناس يبالغون كثيراً فيما يمكن أن يفعلوه في المستقبل، إذ يبالغون بنحو ثلاثة أضعاف أكثر من الفعلي. مثلاً، يأخذ الأشخاص ملابس في السفر أضعاف ما يلبسونه حقيقة، ويعتقدون أنهم سيقرؤون كتباً أكثر، وسيخسرون كيلوجرامات أكثر، وهكذا. إدراك هذه الطبيعة البشرية أمر ضروري لأنه جزء من وعي الإنسان بنفسه وذاته.
كذلك، يميل البشر بطبعهم إلى تجنب يُسمى "الإشباع المؤجل" (Delayed Gratification)، ومرد ذلك إلى انحياز سلوكي يُسمى "انحياز التركيز الآني" (Present Focus Bias)، ويُقصد به الآلية التي يعمل وفقها الدماغ البشري، والتي تدفع بالإنسان إلى تفضيل المكافآت الفورية على تحقيق منفعة مستقبلية قد تكون قيمتها أكبر، حيث يمكن تفسير التخلي عن القيمة الأكبر بالرغبة في تحقيق الرضا الفوري، لذلك، فالالتزام بالذهاب للنادي الرياضي وممارسة الرياضة عموماً يعني قبول مرحلة من الألم والملل قبل أن نرى نتائج واضحة ونشعر بالسعادة التي نريدها.
أخيراً، يهتم الناس عموماً بتجنّب الخسارة أكثر من جني الأرباح، ومرد ذلك إلى انحياز سلوكي آخر اسمه انحياز تجنب الخسارة (Loss Aversion Bias)، أو "النفور من الخسارة"، وفحواه أنّ حدّة المشاعر السلبية التي نشعر بها عقب خسارة شيء ما وما يُحدثه ذلك من ألم هي تقريباً ضعف حدّة المشاعر الإيجابية الناتجة عن حيازة شيء جديد وما ينتج عنه من سعادة. وبعبارة أخرى، فإن فكرة فقدان شيء أو التخلي عنه يثير فينا ردة فعل أقوى مما نشعر به عند الحصول على شيء جديد. لذلك فإن تفادي الخسارة هو دافع قوي يمكن أن يدفعنا إلى التصرف بطرق معينة، وأحياناً بطرق غير عقلانية. فعدم وعي البشر لما يمكن أن يخسروه نفسياً وجسدياً عند عدم ممارسة الرياضة يجعلهم أكثر زهداً فيها.
إدراك هذه العوامل النفسية والانحيازات السلوكية وفهمها فهماً عميقاً يساعد على ابتكار حلول أفضل، وهذا هو الرابط الذي أراه بين الابتكار وعلم الاقتصاد السلوكي، حيث يساعد الاقتصاد السلوكي في فهم طبيعة تفكير الناس وسلوكهم وتأثيره على قراراتهم، ما يساعد المبتكرين في عدم إضاعة الوقت في تصميم حلول قد لا تتواءم مع الطبيعة البشرية والسلوك الغير منطقي أحياناً للإنسان.
من المفيد أيضاً أن نعرف أن الشخص يحتاج إلى نحو 66 يوماً كي يبني عادة جديدة تصبح جزءاً من حياته وشخصيته، بحسب دراسة قام بها باحثون من كلية الرعاية الصحّية في جامعة لندن، وليس 21 يوماً كما هو شائع. وهذه المعلومة أيضاً تساعدنا في تصميم حلول تدفع باتجاه تقديم حوافز قصيرة المدى تُعطي شعوراً بالمتعة والسعادة المستعجلة حتى ندفع الشخص للالتزام لتلك المدة الطويلة نسبياً ويبني العادة التي تجعله يداوم على النشاط البدني بصورة آلية دون الحاجة لمزيد من الحوافز. لكن أيضاً يخبرنا الاقتصاد السلوكي أن العادات إن لم نلتزم بها يمكن أن نخسرها بسرعة أكبر بكثير من سرعة بنائها.
هنا بعض الأفكار التي تم تجريبها لزيادة التزام الناس بالذهاب إلى النادي الرياض ولاقت شيئاً من النجاح:
- أنشأ أحد المتخصصين في علم النفس والاقتصاد السلوكي موقعاً إلكترونياً اسمه Stickk.com لمساعدة الأشخاص على الالتزام بنشاطات يختارونها. الموقع لا يعطيك مكافأة، بل يُحتّم عليك وضع مبلغ مالي قد يذهب لجمعية أو مؤسسة لا تدعمها أو إلى نادي رياضي لا تحبه ولا ترغب بدعمه. لو كان المبلغ يذهب لجمعيات تريد دعمها فلن تشعر بالذنب أو بشيء من الندم، بل ستكون مرتاحاً حتى عند إخفاقك بالالتزام، لأنك على الأقل نفعت مريضاً أو أنقذت حياة. بالمناسبة، اشتركت (بالخطأ) في تحدي لإكمال كتابي خلال 16 أسبوعاً وإلا سأخسر 1,600 دولار، دعواتكم 🙂
- شركة "يونيفيرسال هيلث" (Universal Health) في جنوب إفريقيا تُهديك ساعة آبل حديثة يمكنهم من خلالها متابعة التزامك بالتمرين لمدة سنة، وبعدها تصبح الساعة ملكك، لكن إذا لم تلتزم فستدفع ثمنها.
- تطبيق "جيمباكت" (Gympact) (يعمل في أميركا) يُهديك 0.5 دولار على كل مرة تقضي بها 30 دقيقة في النادي، لكن يجب عليك أن تضع 5 دولارات كإيداع مبدئي ستخسرها إن لم تلتزم.
- شركة التعاونية للتأمين لديها تطبيق "فيتاليتي" (Vitality) الذي يعطيك مكافآت قيمتها تتراوح بين 10 ريال و20 ريال إذا التزمت بعدد معين من الخطوات أسبوعياً.
- خلُصت دراسة قادتها خبيرة الاقتصاد السلوكي كاتي ميلكمان (katy Milkman) ونُشرت نتائجها في دورية نيتشر (Nature) إلى أن مساعدة الشخص على اختيار جدول تدريبي معين وإرسال تذكير له قبل موعد ذهابه للتمرين بثلاثين دقيقة مع مكافأة بسيطة على الالتزام قد زاد من التزام الأشخاص بنسبة تصل إلى 27٪. وهذا يمكن القيام به بين الأصدقاء.
- وجود مدرّب خاص يرفع من التزام الناس بالذهاب إلى النادي الرياضي. ترتفع نسبة الالتزام في صالات الرياضة كثيراً عندما يكون التدريب تحت إشراف مدّرب، لكن تكلفة المدرّب الخاص قد تكون مرتفعة.
- وجود صديق تدريب دائم أو الالتزام في الرياضات الجماعية يزيد عادة من التزام الناس، وهذا من الحلول السهلة نسبياً.
إذا أردنا أن نوجد جانباً مشرقاً في عدم التزام الناس بالذهاب إلى النادي الرياضي فثمة فوائد منها تقليل الزحام على الملتزمين وانخفاض تكلفة الاشتراك مقارنة فيما لو قرر عدد كبير الالتزام. النادي الرياضي الشهير في الولايات المتحدة "بلانت فيتنس" (Planet Fitness) يأخذ ما بين 10 و20 دولار اشتراكاً شهرياً ولديه متوسط 6,500 مشترك في كل نادي رياضي، بينما الطاقة الاستيعابية للنادي الواحد هي 300 شخص في المتوسط.
نقطة أخيرة أريد أن أشير إليها وهي أنه بحسب علماء النفس والسلوك، فإن تغيير السلوك والثبات على التغيير أمر صعب جداً، أصعب مما يتخيّل الكثيرون، لا أريد أن أظهر بمظهر المتشائم، لكنني أريد أن أكون واقعياً وأشارك معكم الدراسات والحقائق حتى نصمم حلولاً أفضل. دعك من الذين يقولون أقلع عن التدخين في خمسة أيام أو اخسر خمسة كيلوجرامات في خمسة أيام أو غيّر حياتك في عشرين يوماً، أو أطلق ذلك العملاق الذي بداخلك في يومين، هذه كلها مبالغات تضر ولا تنفع.
أدعو نفسي ومن يقرأ المقال للالتزام بالرياضة قدر الإمكان، ويمكن البدء بالأفكار الثلاث الأخيرة في النقاط السابقة، وفي الوقت نفسه أدعو الأفراد والمؤسسات لابتكار حلول أفضل لتعزيز الالتزام تجاه ممارسة الرياضة، نريدها جزءاً من حياتنا وثقافتنا، نريد أن نحيا دائماً شباباً في عمر العشرين وإن كنا قد تجاوزنا الأربعين كما تقول الدراسات.