ملخص: من الطبيعي أن نفكر في المسارات المهنية البديلة التي لم نخترها في الماضي، لكن هل يمكن أن يؤثر تركيزنا المفرط على الماضي في نجاحنا في الحاضر؟ تُشير المؤلفة استناداً إلى النتائج التي توصل إليها استقصاء شمل أكثر من 300 موظف وزملائهم إلى أن التفكير في المسارات المهنية التي لم نخترها هو أمر شائع، لكنه قد يعيقنا عن التركيز بشكل كامل وفعّال على وظائفنا الحالية أحياناً. ومع ذلك، يسلّط البحث الضوء أيضاً على استراتيجيتين رئيسيتين لدرء هذا النوع الضار من اجترار الأفكار وتجنّب حالة عدم الرضا: أولاً، يمكن للموظفين والمدراء استكشاف الفرص التي تتيح لهم تصميم وظائفهم الحالية لدمج احتياجاتهم غير الملبّاة فيها. وثانياً، يمكن للعمال تعزيز قدرتهم على ضبط النفس للتركيز على الحاضر والمستقبل بدلاً من الوقوع في شراك الماضي. وتتوصل المؤلفة في النهاية إلى أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على إنتاجيتنا وتعزيز شعورنا بالرضا في وظائفنا وفي كل جانب من جوانب حياتنا هي الموازنة بين أسئلة "ماذا لو" المحيّرة وبين الوعي والتقدير لما نملكه في الوقت الحالي.
كل مسار مهني اخترناه سبقه وقوعنا في دوامة من الخيارات، لكننا نتوق بين فينة وأخرى إلى منصب أو مسار مهني لم نختره، حتى عند علمنا أننا اتخذنا القرار الصحيح بالفعل. هل يؤثر تفكيرنا على المسار المهني الذي لم نختره على أدائنا في العمل؟ وما الذي يمكن للموظفين والمدراء والمؤسسات فعله لمساعدة العمال الذين قد يواجهون نزاعاً داخلياً فيما يتعلق بوظائفهم المختارة؟
أجريت أنا وزميليّ جيسون كولكويت وإيرين لونغ استقصاءً على أكثر من 300 موظف في الولايات المتحدة وزملائهم العاملين في مجموعة واسعة من المهن ومستويات مختلفة من الأقدمية لاستكشاف الإجابة عن تلك الأسئلة. وسألناهم عن مدى رضاهم عن وظائفهم الحالية، وعدد المرات التي فكروا فيها في المسارات الأخرى التي لم يختاروها، ومدى تحكّمهم بقرارات مسارات حياتهم الشخصية والمهنية. ثم سألنا زملاءهم في العمل عن عدد المرات التي شارك فيها هؤلاء الموظفون في سلوكيات مفيدة وتعاونية، وعدد المرات التي أظهروا فيها سلوكيات تشير إلى فقدان رغبتهم في العمل، كالقدوم في وقت متأخر أو تشتيت الآخرين.
ووجدنا من خلال هذه الاستقصاءات أن العديد من العمال يقضون وقتاً طويلاً في التفكير في المسارات المهنية البديلة التي لم يختاروها، حتى بعد سنوات من اتخاذ القرار. وفي الواقع، أفاد 6% فقط من المشاركين في دراستنا أنهم لم "يفكروا مطلقاً" أو "نادراً ما فكروا" في المسارات الأخرى التي لم يختاروها، في حين أفاد 21% منهم أنهم يفكرون في هذه الأسئلة "كثيراً" أو "دائماً".
وتضمن المشاركون عاملين في مجال الخدمات الاجتماعية الذين كان بمقدورهم اختيار أن يكونوا أطباء بيطريين مثلاً، ومهندسين معماريين ربما كان بمقدورهم اختيار أن يكونوا رسامين، إضافة إلى معلمين ربما فكروا أولاً في العمل في مجال القانون. وقد وصف أحد المشاركين قراره بالعمل في مجال التمويل بدلاً من أن يُصبح عالماً بعد خوضه تجربة سيئة مع مشرفه في أثناء برنامج الدكتوراة. وعلى الرغم من أنه سعيد في منصبه الحالي اليوم، ما زال يفكر في الإنجازات التي كان ليحققها من خلال تلك الهوية المفقودة:
"لطالما فكرّت في الإنجازات التي كنت لأحققها لو أنني واصلت سعيي في الحصول على درجة الدكتوراة في الكيمياء الحيوية أو علم الوراثة. لدي ميل طبيعي تجاه المساعي والجهود العلمية، وكان أدائي مميّزاً بالفعل في تلك المجالات، ولو أنني أعمل الآن مهندساً في مجال علم الوراثة، لكنت في طليعة من يشارك في التطور العلمي ولأضفت إسهامات عديدة سُجّلت في تاريخ البشرية. كان من المحتمل ألا أحقق نجاحاً في المجال المالي لو أنني اخترت أن أكون عالماً بالطبع، لكن لربما كانت فرص العمل أكثر حينها".
أظهر جميع العاملين في دراستنا تقريباً بعض الحزن بشأن احتمالات مستقبلهم لو أنهم اختاروا خياراً بديلاً، سواء كانت اختياراتهم مدفوعة بالرغبة في تحقيق الاستقرار المالي، أو تحقيق إنجاز ما، أو دوافع أخرى. كما وجدنا أن تفكيرهم في الهويات المهنية البديلة منعهم من التركيز بشكل كامل وفعّال على وظائفهم الحالية. ووجدنا استناداً إلى كل من تقييماتهم الذاتية عن أنفسهم والمعطيات من زملائهم في العمل أن العمال الذين يفكرون في خياراتهم الماضية كانوا أكثر عرضة للتشتت وعيش أحلام اليقظة في أثناء العمل، كما أنهم طالبوا بمزيد من فترات الراحة وأيام العطلة، وكانوا أقل تفاعلاً مع زملائهم وأكثر عرضة للبحث عن وظائف أخرى. لكن الأهم من ذلك هو أنهم لم يستسلموا لليأس أو الندم، بل أشار العديد من المشاركين إلى مدى سعادتهم بما آلت إليه حياتهم، لكن يبقى التخلص من الشعور بأنهم خسروا مساراً مختلفاً مهمة صعبة، لا سيما ذلك المسار الذي توافق مع إحساسهم بالهوية والهدف.
وتتفاقم ظاهرة التركيز على ما نفقده نتيجة خوضنا تجربة شائعة تتمثّل في عبء الاختيار: فبما أن العمل عن بُعد وتطبيقات الإنترنت جعلت العالم مكاناً أصغر، أصبح العدد الهائل للوظائف المتاحة (نظرياً) هائلاً، وعلى الرغم من أن إمكانية الوصول إلى فرص العمل هي أمر جيد بشكل عام، يُسفر وجود عدد كبير جداً من الخيارات عن جعلنا أقل رضاً عن القرارات التي نتخذها في النهاية. ويزداد تأثير الخوف أن يفوتنا شيء بسبب وسائل التواصل الاجتماعي التي تعرض لنا الوظائف والأماكن وأنماط الحياة البديلة التي فاتتنا باستمرار.
لكن ما يدعو للتفاؤل في نتائج البحث أيضاً أننا لسنا مضطرين إلى قضاء حياتنا في توق إلى خياراتنا الماضية، إذ حددنا استراتيجيتين رئيسيتين ساعدتا العاملين في دراستنا على تجنب الإفراط في التفكير في الماضي، وتفادي الاجترار في الأفكار وعدم الرضا، ومواصلة التركيز على المستقبل.
1. صمّم هوية عملك
وجدنا أولاً أن العمال الذين مارسوا تصميم الوظائف، أي أولئك الذين صمموا أدوارهم بشكل استباقي لجعل وظائفهم أكثر إرضاءً، كانوا أكثر ارتباطاً بأعمالهم وأكثر عرضة لمساعدة زملائهم، حتى لو واصلوا التفكير بالمسارات المهنية البديلة. وعلى الرغم من أن مستوى المرونة المتاح يختلف باختلاف المناصب، يمكنك دائماً التوصّل إلى طريقة ما تتيح لك مواصلة عملك الحالي بشغف واهتمام.
على سبيل المثال، يمكن لعاملة في مجال الخدمات الاجتماعية التي كانت تفكر في أن تصبح طبيبة بيطرية أن تستخدم حيوانات الخدمة لمساعدة أولئك الذين تعرضوا لصدمات نفسية، فتدمج بذلك حبها للحيوانات في وظيفتها بطريقة تجعل المنصب أكثر ملاءمة لها. وبالمثل، يمكن لمندوب المبيعات الذي تخلى عن مساره المهني بصفته كاتب رحلات أن يختار التوسع في العمل مع العملاء الدوليين، ما يساعده على تلبية حاجته إلى الحديث عن السفر بينما يواصل عمله في مهنة مستقرة وعالية الأجر في الوقت نفسه. وبالتالي، قد يساعدك الدمج بين وظيفتك التي تستمتع بأدائها والجوانب غير الملباة من هويتك على خلق منصب يناسبك تماماً.
في الوقت نفسه، يجب أن يسعى المدراء جاهدين للتعرف على مواهب قوة عملهم واهتماماتهم ومشاعرهم المخفية وإيجاد طرق إبداعية لمساعدتهم على تقبّل هوياتهم. وعلى الرغم من صعوبة جعل كل منصب يلبّي التطلعات، قد يُفيد تكييف المناصب لتتواءم مع المهارات أو إسناد المشاريع استناداً إلى أنواع الأعمال التي تُرضي الموظفين في تعزيز الإنتاجية والرضا الوظيفي. قد يكون دعم هذا النوع من تصميم الوظائف لجعلها تتواءم مع احتياجات الموظفين صعباً بالطبع، لكن جعل الموظف الموهوب سعيداً ومرتبطاً بعمله من خلال تعديل واجبات وظيفته أسهل بكثير من انتظار طلب استقالته والاضطرار إلى توظيف شخص جديد.
2. تعزيز القدرة على ضبط النفس
ثانياً، أظهر بحثنا أن تغيير وجهات نظرنا قد يحدث فرقاً كبيراً في مشاعرنا وسلوكياتنا، حتى عندما لا تتغير الظروف الخارجية. ووجدنا أن الأشخاص الذين يمتلكون ما يُطلق عليه علماء النفس مركز ضبط داخلي، أي الميل إلى اعتبار ما يحدث لهم في الحياة نتيجة لأفعالهم، بدلاً من عوامل خارجة عن سيطرتهم، ستكون استجابتهم للمسارات الوظيفية التي لم يختاروها إيجابية، وذلك من خلال تكييف وظائفهم الحالية، بدلاً من تقويض مسارهم المهني نتيجة فقدانهم الرغبة في العمل وانفصالهم الذهني عنه.
ويبدأ تعزيز القدرة على ضبط النفس بإدراك قدرتك على التحكّم باختياراتك المهنية السابقة. حاول تقليل التركيز على ما فاتك، وذكّر نفسك بدلاً من ذلك بسبب اتخاذك تلك القرارات. ثم تخيّل مستقبلك والخطوات التي يمكنك اتخاذها للوصول إلى مبتغاك.
وقد يساعدك هذا النهج أيضاً على التفكير في النواحي الإيجابية في حياتك، فقد أظهر عدد كبير من البحوث أن إبداء الامتنان يساعدنا في التغلب على المحن ويحسّن صحتنا النفسية والجسدية. خصص بضع دقائق كل يوم لتدوين الأحداث أو الأشخاص الذين تشعر بالامتنان لهم في دفتر يوميات الامتنان أو جرّب التعبير عن شكرك لشخص ما في حياتك كل يوم. لا يعني ذلك أن تقبل العمل في بيئة غير مناسبة أو أن تتخلى عن أحلامك، لكن إبداء الامتنان يساعدك في إعادة تأطير خبراتك والتوصل إلى فهم أفضل للعوامل التي تجعلك سعيداً في حياتك ومسارك المهني.
باختصار، إن التفكير في المسارات المهنية البديلة التي لم نخترها هو أمر طبيعي. لكن الموازنة بين أسئلة "ماذا لو" وبين الامتنان لما نمتلكه في الوقت الحالي هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على إنتاجيتنا والشعور بالرضا عن وظائفنا وحياتنا على حد سواء، فحياتنا مليئة بالخيارات، وعلينا بالتالي أن نسعى جاهدين لتجاوز التفكير فيما نفقده ونبحث عن طرق لتحسين وضعنا الحالي وتقبّله في النهاية.