أثار الكثير من مشاهدي التلفزيون ضجة حول عودة عرض مسلسل Succession الشهير الذي أنتجته شركة آتش بي أو التي تستخدم دراما النفوذ بصفتها عدسة ناقدة للعلاقات المعقدة وديناميكيات القوة واللغة الاصطلاحية المستخدمة في الشركات الأميركية. وأتاحت الحلقة الأولى من الموسم الرابع التي تم بثها في 26 مارس/آذار فرصة للتأمل في المزالق التي يرضخ لها قادة الشركات عادة عند إجراء مفاوضات ذات مخاطر عالية. وبالفعل، دائماً ما يكون مآل المفاوضات الفشل في حياتنا الواقعية.

ويسلّط المسلسل الضوء على عائلة روي الثرية والقوية التي تملك الشبكة العالمية والترفيهية العملاقة وايستار رويكو (Waystar Royco). كبير العائلة، لوغان روي، هو رجل أعمال صارم يهابه الآخرون ويعاني مشكلات صحية. ولدى أبنائه الأربعة كونور وكيندال ورومان وشافان (شيف) طموحاتهم وأفكارهم الخاصة بشأن مستقبل شركة وايستار رويكو، ويمتلكون حصصاً مالية فيها أيضاً. ومع تقدّم أحداث المسلسل، تهدد الأزمات الداخلية والخارجية استقرار الإمبراطورية الإعلامية ومستقبلها.

وفي الحلقة الأولى من الموسم الرابع، يُجري لوغان المتعطش للسلطة مفاوضات مع شركة الوسائط الرقمية غوجو (Gojo) التي ترغب في الاستحواذ على شركته. لقد سحب بساط شركة وايستار من تحت أقدام أبنائه الثلاثة الأصغر سناً ووضع الاستحواذ على شركة بيرس غلوبال ميديا (Pierce Global Media) نصب عينيه، وهي عبارة عن تكتل شركات ذات توجهات يسارية تطلّع إلى الاستحواذ عليها منذ الموسم الثاني. وعلى الرغم من انخفاض تقييم أعمال هذه الشركة بشكل كبير، لا تزال ربة العائلة، نان بيرس، عازمة على بيعها. لم يقف السعر عائقاً في وجه لوغان في المفاوضات، بل ما وقف في وجهه هو عائلته، فقد اتّحد كيندرال ورومان وشيف لتقديم عطاء منافس لعرض والدهم للاستحواذ على شركة بيرس غلوبال ميديا من خلال تصفية حصصهم في وايستار بعد بيعها إلى شركة غوجو، وهو قرار مهّد الطريق لمعركة النفوذ والسلطة.

وبمجرد أن عزم الإخوة التنافس مع لوغان لكسب شركة بيرس غلوبال ميديا، قرروا مقابلة أفراد عائلة بيرس الذين استفادوا من العداء المتولّد بين أفراد عائلة روي لرفع سعر البيع، لتوافق ربة العائلة نان بعد تلقيها عدة عروض على بيعها للإخوة لقاء 10 مليارات دولار دون منح لوغان أي فرصة للتفاوض. وكانت خسارة حرب المناقصة وفوز أبنائه حقيقة صعب على لوغان تقبّلها.

والجدير بالذكر أن صفقة بيرس غلوبال ميديا تتوقف على تصفية الإخوة أصولهم في شركة وايستار، وهي بالتالي صفقة غير محسومة بعد. ومع ذلك، يسلّط هذا النزاع الضوء على الأخطاء التقليدية التي يكررها قادة الشركات في المواقف (الحقيقية) ذات المخاطر العالية، وفيما يلي نصائح لمن شاء أن يعتبر.

تجنب العروض التي لا يمكن تسويغها

عندما علم لوغان روي بوجود مزايدين منافسين (متمثّلين في أبنائه)، أخبره مستشاروه أنه “الخيار القوي”، وهو ما عزز ثقته بنفسه بشأن عرضه. وعندما تواصلت معه نان بيرس لتعرف عرضه، استبدل السبعة مليارات دولار التي طرحها سابقاً بـ 6 مليارات دولار.

وبالتالي، كانت ثقته العمياء بنفسه هي ما مهّدت طريق فشله، فالثقة المفرطة بالنفس تدفع المفاوضين إلى التقليل من شأن نظرائهم، وهو ما يقودهم بدوره إلى تقديم طلبات غير واقعية أو عطاءات منخفضة بشكل غير منطقي. وتبرز الأزمة إذا شعر الطرف الآخر بالإهانة. بالإضافة إلى ذلك، لا يستعد المفاوضون ذوو الثقة المفرطة للمحادثات ويتغاضون عن المخاطر ومكامن الضعف المحتملة في شخصياتهم، فيصبحون عدوانيين جداً أو يرفضون مخاوف الطرف الآخر، ما يضر بالعلاقات ويصعّب التوصّل إلى اتفاق مفيد للطرفين.

وثمة مشكلة ثانية تتعلق بعرض سعر لوغان البالغ 6 مليارات دولار، فهو سعر منخفض للغاية، ولم يكلّف لوغان نفسه عناء شرح سبب تقديمه هذا السعر المنخفض أو تسويغه لنان. ويُظهر أحد البحوث أن المفاوضين الذين يقدمون تفسيرات لمقترحاتهم قادرون على التوصل إلى اتفاقيات أكثر من أولئك الذين لا يقدمون أي مبررات، فالتفسيرات المقنعة والمنطقية تمثّل إشارة للطرف الآخر بأنك فكّرت ملياً في عرضك وأن له ما يسوّغه بالفعل.

تأطير الاقتراح

عندما قابل الإخوة كيندال ورومان وشيف بنان بيرس وجهاً لوجه لإخبارها بمدى اهتمامهم بتقديم عرض، سارعت في إخبارهم أن لديها عرضاً قوياً بالفعل وأنهم كلّفوا أنفسهم عناء لقائها دون جدوى. ويبدو أن نان تدرك جيداً قوة التأطير في التفاوض، بمعنى أن طريقة تقديم العرض قد تؤثر على قيمته المدركة وعلى نتيجة المفاوضات في النهاية، فقد أرسلت إشارة واضحة إلى الإخوة مفادها أنه عليهم تقديم عرض أقوى من عرض لوغان لجذب انتباهها.

ويمكن للمفاوضين زيادة احتمالية أن يحظى عرضهم بالقبول من خلال تأطير اقتراحهم بطريقة تؤكد فوائده وتقلّل عيوبه. وكان بمقدور رومان وكيندال وشيف أن يستخدموا التأطير لصالحهم من خلال إبراز الجوانب الإيجابية لاقتراحهم والتقليل من قيمة جوانبه السلبية. وبشكل عام، يمكن لكل من المشترين والبائعين التأثير بقوة على ديناميكيات التفاوض من خلال تأطير حججهم بشكل مدروس.

وضع ركائز ثابتة

عندما صرّح الإخوة روي باحتمالية أن يقدموا عرضاً أفضل من العرض الذي تلقته نان بالفعل، علّقت قائلة: “أشعر أنني في حرب مزايدة، 8 مليارات، 9 مليارات، مَن يزيد؟” بمعنى أنها حددت الركائز التي ستوجّه مسار العطاءات المستقبلية.

وتمثّل الركائز أداة قوية في التفاوض، وتنطوي على تحديد نقطة مرجعية أو ركيزة هدفها التأثير على تصوّر الطرف الآخر بشأن قيمة العروض اللاحقة. وتُعرّف الركائز عموماً بأنها العروض الأولى في عملية التفاوض، وذلك يعني أن للعرض الأول المقدّم في التفاوض تأثير كبير على النتيجة النهائية، حتى لو لم يحظ بالقبول. على سبيل المثال، يمكن للبائع الذي يحدد سعر طلب مرتفعاً لسيارة ما أن يؤثر على تصوّر المشتري لقيمة السيارة، ما يجعل المفاوضات تسير لصالح البائع. وعلى العكس من ذلك، إذا قدّم المشتري سعراً أولياً منخفضاً، فيمكنه تغيير تصوّر البائع لقيمة السيارة لصالحه.

أضافت نان بيرس سعر 8 و9 مليارات دولار للإشارة إلى قيمة العرض الذي قد تقبله. وبعد أن قضى الإخوة روي بضع دقائق في التفكير، تعود شيف بعرض 8 مليارات دولار. وبعد علمها أن هذا العرض قد لا يضمن لهم النجاح، اجتمعت مع إخوتها مرة أخرى، وتوقّعوا أن يقدّم والدهم عرضاً في حدود 9 مليارات دولار، وقرروا تقديم عرض نهائي قدره 10 مليارات دولار لهزيمته بشكل حاسم.

وتُظهر البحوث بالفعل أن للركائز الأولية تأثير قوي على العروض النهائية في عملية التفاوض. ومع ذلك، تعتمد فعالية الركائز على المعلومات التي نمتلكها لوضع سعر أولي مناسب. وكانت نان بيرس تمتلك مثل تلك المعلومات بالفعل، لكن إذا كنا لا نعرف إلا القليل عن قيمة العنصر المنشود، فقد نضع سعراً أولياً غير مناسب. وبالتالي، تمثّل الركائز أرقاماً ثابتة توجّه قيمة العروض التي تليها، مثل عرض سعر الإخوة روي البالغ 10 مليارات دولار.

إدراك حقيقة أن المشاعر تعرقل المفاوضات

كانت المشاعر متأججة طوال حرب تقديم العروض بين لوغان وأبنائه. فالإخوة حريصون للغاية على هزيمة والدهم لدرجة أنهم قدّموا عروضاً غير مبررة ويعوزها تحليل مدروس. وقد كتب زميلي في كلية هارفارد للأعمال ديباك مالهوترا وزملاؤه بالفعل عن مخاطر الإثارة التنافسية، وهي ظاهرة نفسية تحدث عندما تنتاب المفاوضون مشاعر قوية في أثناء التفاوض أو المزاد العلني.

ويميل المفاوضون الذين يعانون الإثارة التنافسية إلى تقديم طلبات عدوانية وعروض متطرفة، وقد يصبحون دفاعيين أو جدليين أكثر من اللازم، وهو ما يؤدي إلى تصعيد النزاع ويصعّب بدوره الوصول إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين، وقد يقودهم ذلك أيضاً إلى تقديم عروض غير عقلانية، كالعرض الذي قدّمه الإخوة روي، حيث تصبح الرغبة في الفوز أكثر أهمية من اتخاذ قرارات سليمة. ومن المعروف في مسابقات الاندماج والاستحواذ أن المشترين غالباً ما يبالغون في عروضهم ويدفعون مبالغ زائدة.

وعلى نطاق أوسع، قد تعرقل المشاعر المفاوضات بطرق مختلفة، فقد تدفع المشاعر السلبية، مثل الغضب والإحباط وخيبة الأمل، المفاوضين إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية والانخراط في سلوكيات عدائية. وفي الوقت نفسه، قد تؤدي المشاعر الإيجابية، مثل الإثارة والحماس، إلى إغفال المفاوضين المخاطر المحتملة وتقديم عروض متفائلة جداً. لكن قد تُضعف كل من المشاعر السلبية والإيجابية قدرة المفاوضين على تقييم المواقف بدقة واتخاذ قرارات عقلانية وتصعّب تحقيق نتيجة تفاوض ناجحة.

تفاوض على عملية التفاوض وليس على مضمونها فقط

تُعتبر معركة تقديم العروض التي خاضها الإخوة روي ووالدهم معركة خطرة لأنها دفعتهم إلى تقديم عطاءات أعلى قيمة ودفع مبالغ إضافية. ولتجنب هذا المزلق، كان على الإخوة روي التفاوض بشأن العملية قبل تقديم العرض، كأن يطلبوا من نان الموافقة على مزاد علني من جولة واحدة دون عروض “تافهة” (كالمزايدة بدولار أكثر مما عرضه مقدّم العطاء الآخر).

قد تتضمن عملية التفاوض وضع قواعد أساسية، والاتفاق على جدول زمني، وتحديد دور كل طرف ومسؤولياته. ففي المفاوضات التجارية، قد يتفق الطرفان على شكل الاجتماع، كالمدة التي سيتحدث فيها كل شخص وأوقات فترات الراحة، إذ توفّر مثل هذه القواعد هيكلاً واضحاً للتفاوض وتضمن شعور الطرفين أن صوتهم مسموع ومفهوم.

فالتفاوض على العملية بحسن نية والاتفاق عليها من كلا الجانبين يُرسي شعوراً بالإنصاف والشفافية، وهو ما يجعل عملية تفاوض أكثر تعاوناً ويزيد من احتمالية التوصل إلى اتفاق مفيد للطرفين.

وعلى الرغم من أن فكرة طرح مليارات الدولارات في المناقصات قد تبدو بعيدة عن الواقع، كما تفعل شخصيات هذا المسلسل، تبقى أساسيات النجاح في المفاوضات راسخة، وعليك ضمان اتباعها في المرة القادمة التي يكون فيها عملك التجاري على المحك.