تُظهر أفريقيا كل إشارة ممكنة على أنها ستكون السوق التالي الأسرع نمواً في العالم، فهي موطن لاقتصادات أسرع نمواً مقارنة بباقي المناطق، وتضم مئات الشركات الكبيرة الناجحة، فضلاً عن أنها سوق استهلاكي متمدّن يتجاوز إنفاقه الهند. وتمثل أفريقيا الاستثناء في عالمنا المتقدم في السن، إذ يقل أعمار نصف عدد سكانها عن 20 عاماً، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد السكان ليصل إلى 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050. وبناء على ما سبق، ستتبنى أفريقيا التقنية بوتيرة فائقة السرعة، حيث سيكون عدد الأجهزة الهاتفية المتصلة بالشبكة الخلوية ضعف تلك الموجودة في أميركا الشمالية.
إلا أنه وعندما يتعلق الأمر بقطاع الأعمال، فإنّ أفريقيا لا تزال مكاناً مليئاً بالتحديات، فالبنية التحتية فيها غير مكتملة والأسواق مجزأة والتشريعات معقدة، فضلاً عن انتشار الفقر فيها بشكل واسع على الرغم من ارتفاع الدخل، ما يُحجم بعض الشركات الغربية عن دخول السوق الأفريقي.
فكيف يمكن للشركات مواجهة تلك التحديات الكامنة في السوق الأفريقية وتحويل النمو في تلك القارة إلى مشاريع مستدامة ومربحة؟ نقوم في بحثنا حول الشركات التي حققت النجاح في أفريقيا بتسليط الضوء على متطلبين أساسيين: امتلاك الخيال لرؤية ما تحتاجه القارة وتحويله إلى فرص للنمو، والالتزام طويل الأجل بإنشاء مشاريع قابلة للتوسع وتحقيق أرباح.
ولننظر إلى حالة شركة ساب ميلر على سبيل المثال. بدأت الشركة المصنعة للمشروبات كشركة رائدة محلية في جنوب أفريقيا، ثم اشترت لاحقاً علامات تجارية عالمية مثل بيلسنر أوركيل وميلر لايت وبيروني لينتهي بها المطاف ضمن قائمة أفضل 100 شركة في سوق لندن للأوراق المالية قبل أن تستحوذ عليها منافستها أنهايزر بوش إنبيف (Anheuser-Busch InBev) مقابل 103 مليارات دولار في نهاية عام 2016. وقد كان النجاح الذي حققته ساب ميلر في القارة الأفريقية العامل الرئيس في سطوع نجمها وتلقيها عرض الاستحواذ الباهظ ذاك. فبين عامي 2007 و2016، زادت مبيعات ساب ميلر خارج دولة جنوب أفريقيا من 280 مليون دولار إلى مليار دولار. وبحلول عام 2016، كانت شركة ساب ميلر تنشط في 40 بلداً تقريباً من أصل 54 بلداً أفريقياً.
وقد قال لنا مارك بومان، والذي كان المدير الإداري لإقليم أفريقيا في ساب ميلر خلال ذلك العقد: "لقد لاحظنا وجود فرصة كبيرة كامنة في سوق المشروبات في أفريقيا واغتنمناها في الوقت المناسب. كانت معظم الشركات العالمية مطلع هذا القرن ترى أفريقيا كسوق غير جذابة، لذا، كنا نواجه منافسة محدودة". رأت ساب ميلر السوق الأفريقية بشكل مختلف، فقد كان تعداد سكان القارة يزداد بوتيرة أسرع من باقي الأقاليم الأخرى، وكانت اقتصاداتها في تنام معطية إشارات تشير إلى زيادة محتملة في الاستهلاك. وكانت رؤية ساب ميلر بسيطة إنما قوية: يحب الأفريقيون أنواع المشروبات كما يحبها باقي الناس حول العالم. وعندما يبدؤون في إنفاق جزء من دخلهم على الكماليات، ستكون إحدى علامات الرفاهية الانتقال من المشروبات المحلية إلى تلك التي تحمل علامة تجارية معروفة.
واعتمدت ساب ميلر، في محاولتها اقتناص تلك الفرصة على استراتيجية جريئة طويلة الأجل، مثّل أحد عناصرها برنامجاً جريئاً لإنشاء المصانع في جميع أنحاء القارة. وطوّرت ساب ميلر بالتعاون مع شركائها من موردي المعدات، "مصنع مشروبات مسبق الصنع" معياري يمكن تجميعه بسرعة. أما العنصر الثاني في نهجها فكان العمل على صقل رؤيتها التسويقية: إذ أنشأت ساب ميلر مجموعة متنوعة من العلامات التجارية الأفريقية بحسب كل سوق محلي مستخدمة آلية عملت على تطويرها دولياً تقوم على تقديم العلامة التجارية المتناسبة مع السوق المستهدف.
ففي نيجيريا، على سبيل المثال، أطلقت ساب ميلر علامة تجارية جديدة تدعى "هيرو"، حيث أرادت الشركة تقديم المشروبات هناك على أنها منتج محلي، وليس نتاج شركة متعددة الجنسيات. وكان شعار تلك العلامة التجارية "شمس تُشرق" والتي هي الرمز المفضل لشعب الإغبو، أحد المجموعات العرقية القاطنة في نيجيريا. وقد سعّرت ساب ميلر منتجها بمبلغ هو 25% أقل من منافسها الرئيسي. وكانت هيرو إحدى أكثر العلامات التجارية نجاحاً على الإطلاق.
ويعرض كتابنا الجديد "ثورة الأعمال في أفريقيا: كيف تنجح في سوق النمو الكبير التالي في العالم" قصة النجاح تلك وقصص نجاح أخرى، فضلاً عن قيامنا أيضاً باستخلاص العِبَر من أكثر من 3,000 عملية مشورة قدمتها شركة ماكنزي الاستشارية في أنحاء القارة الأفريقية، علاوة على اطلاعنا على دراسات الحالة التي حصلنا عليها من مقابلاتنا مع عشرات الرؤساء التنفيذيين ورواد الأعمال وقادة التنمية الناجحين.
لقد قدمت العديد من تلك الشركات الناجحة منتجات وخدمات جديدة، وأحياناً فئات كاملة، تستهدف احتياجات القارة وأذواقها وقوة إنفاقها، فضلاً عن إطلاقها ابتكارات خاطبت مشكلة تسليم المنتجات في تلك القارة: فأفريقيا قارة شاسعة ذات بنية تحتية سيئة بشكل عام، وفجوات كبيرة في الاتصالات، حيث لا يوجد عناوين رسمية أو أسماء شوارع ضمن الكثير من مناطقها.
وتمثل قصة شعرية إندومي، والتي هي إحدى أكثر المنتجات الاستهلاكية نجاحاً في نيجيريا، أبرز مثال عن تلك الابتكارات. تُباع الشعرية في عبوات مخصصة للأفراد بمبلغ يقل عن 20 سنتاً أميركياً، ويمكن طهوها في أقل من ثلاث دقائق مع بيضة لتعطي وجبة مغذية ومريحة ومنخفضة الكلفة. وطرحت شركة دوفيل بريما فودز (Dufil Prima Foods) هذا المنتج في نيجيريا في عام 1988، حيث يعلّق ديباك سينغال، الرئيس التنفيذي للشركة، على ذلك بالقول: "قدمنا طعاماً مناسباً لنيجيريا لنغدو اسماً مألوفاً فيها بعد مرور عقد ونيّف".
ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى الابتكارات التي قدمتها دوفيل في سعيها لتسهيل وصول شعرية إندومي إلى المستهلكين في جميع أنحاء نيجيريا، إذ أطلقت ما سمّته شبكة "المسير على الطريق" تضم أكثر من 1,000 مركبة تشمل دراجات نارية وشاحنات ومركبات ثلاثية العجلات. فعندما يتعذر على الموزعين متابعة طريقهم بالسيارة، يمضون سيراً على الأقدام ليتأكدوا من توفر الشعرية لدى آلاف المنافذ الصغيرة غير الرسمية التي تهيمن على تجارة التجزئة في نيجيريا.
وسيكون من الأفضل للشركات الغربية متعددة الجنسيات التعلم من استراتيجيات الشركات الرائدة في أفريقيا مثل ساب ميلر ودوفيل. وقد فعلت شركة كيلوغ الأميركية للأغذية ذلك، حيث وضعت أموالها في المكان الصحيح عبر استثمارها بكثافة في دوفيل. وفي عام 2015، دفعت شركة كيلوغ مبلغ 450 مليون دولار للحصول على حصة 50% في ذراع المبيعات والتوزيع في غرب أفريقيا لشركة تولارام أفريكا الشركة الأم لشركة دوفيل. وفي عام 2018، استثمرت الشركة 420 مليون دولار أخرى لشراء حصة في قطاع تصنيع الأغذية في تولارام.
ويجب على الشركات إن أرادت تحويل فرص النمو في أفريقيا إلى أرباح أن تكون جاهزة لتشكيل استراتيجيات تقدّم منتجاتها وخدماتها وأسواقها ونماذج أعمالها بشكل جديد مستهدف يلبي الاحتياجات المحلية في تلك القارة مع تطبيقها بالشكل المناسب. وتقدم شركات مثل دوفيل وساب ميلر أمثلة يمكن أن تشكّل مصدر إلهام للآخرين، إذ وجدت وسائل تغلبت فيها على التحديات المستمرة التي تحد من الوصول إلى الأسواق وتعيق الأعمال التجارية وتصعّب الحياة على الأشخاص العاديين. كما خلقت ابتكاراتها واستثماراتها تأثيراً اجتماعياً حقيقياً عبر توفيرها منتجات لم تكن متوفرة من قبل، الأمر الذي عزز الإنتاجية والنمو وخلق أعداداً كبيرة من الوظائف.