ملخص: فكّر في آخر مهمة أكملتها. هل أنجزتها خلال الوقت الذي قدّرته فقط؟ الإجابة هي: لا، على الأرجح، إذ عادة ما تكون تصوراتنا عن الوقت المتاح لدينا وقدراتنا وأي حواجز قد تعترض طريقنا خاطئة، وهي ظاهرة تُدعى مغالطة التخطيط وتحدث للمهنيين على جميع المستويات وفي كل مهنة. ما الذي يمكننا فعله للبقاء على المسار الصحيح وبلوغ غاياتنا المنشودة إذاً؟
- تبنّى نظرة خارجية: يجب أن ترتكز نظرتك تلك على الموضوعية والبيانات والإحصاءات، وليس على تجربتك الخاصة أو تحيزاتك الشخصية. اسأل نفسك في المرة القادمة التي تجد فيها صعوبة في التقدير: ما مقدار الوقت والجهد اللذين تطلبتهما مهام مماثلة في الماضي؟
- أعرب عن التزامك ببدء العمل باكراً وبشكل علني: عرّض نفسك لضغط الالتزام الخارجي لكي لا تؤجل أعمالك حتى اللحظة الأخيرة. على سبيل المثال، اجمع كل المهام المطلوبة منك لإنهاء عملك في وضع عدم الاتصال (بالإنترنت)، ثم اطلب من زميلك في العمل أو شريكك تعطيل شبكة الواي فاي وألا يُعيد الاتصال بالإنترنت إلى حين خروجك من مكتبك.
- خصص وقتاً إضافياً: ضع في اعتبارك أنه قد تعترضك دائماً عوامل خارجة عن إرادتك، من جهة أخرى، قد تبالغ أحياناً في تقدير قدراتك. ولتضمن وضع موعد نهائي أكثر واقعية، أضف نسبة 25% من المدة على تقديراتك الأصلية.
- افترض الأسوأ: تخيّل السيناريو الأسوأ قبل أن يحدث بالفعل، إذ سيتيح لك ذلك توقع المشكلات المحتملة (حتى لو كانت مستحيلة)، ويجعلك على استعداد لوضع خطة احتياطية مناسبة كإجراء وقائي.
تخيّل السيناريو التالي: تستيقظ صباح أحد الأيام، وترفع رأسك عن الوسادة في حالة من الذعر عندما تتذكر أن لديك 3 أيام فقط لإنهاء التقرير الذي كنت تعمل عليه على مهل منذ مدة طويلة.
ويتصبب جسدك عرقاً بينما تجلس لإعداد تقرير قد لا يفي بتوقعات الجميع، وتشعر أنك بحاجة إلى مزيد من الوقت للعمل عليه. وتدور في رأسك صورة مديرك هازاً رأسه وشابكاً يديه متذمراً ورافضاً.
يا للأسف. كيف حدث ذلك؟
الآن تخيل هذا السيناريو: موعد التسليم بعد شهر.
لديّ الكثير من الوقت للعمل على المشروع. يا لها من راحة، يمكنني النوم بهناء الآن!
لكن مهلاً، قبل أن تغفو وتنخفض مستويات الكورتيزول في جسمك، عليك فهم سبب هذه الظاهرة التي تزعزع حياتك المهنية لئلا تكررها مرة أخرى.
مغالطة التخطيط
لا أحد يبدأ العمل على مشروع جديد مع مخاوف من ألا يسير كما خطط له، ومع ذلك تحدث تلك المشكلة مراراً وتكراراً. لماذا يقع الكثير منا في هذا المزلق؟ عادة ما تكون تصوراتنا عن الوقت المتاح لدينا وقدراتنا وأي حواجز قد تعترض طريقنا خاطئة، وهي ظاهرة تُدعى مغالطة التخطيط وتحدث للمهنيين على جميع المستويات وفي كل مهنة.
وتبدأ مغالطة التخطيط بالتفكير الرغبوي، بمعنى أننا لا نلقِ بالاً للتأخيرات البسيطة (أو حتى الكبيرة). وقد لا يبدو تأجيل العمل فكرة كارثية في البداية. لكن نظراً لأننا نفشل عادة في تقدير الوقت الذي قد يستغرقه إكمال مهمة ما، إلى جانب إهمالنا أي مخاطر وتكاليف غير متوقعة، نقحم أنفسنا دون قصد في سيناريوهات اللحظة الأخيرة، أو الأسوأ من ذلك، سيناريوهات المواعيد النهائية المنقضية.
وتظهر البحوث أننا غالباً ما نفشل في تقييم الوقت وتحديد العقبات التي ينطوي عليها إكمال مهمة ما حتى عندما تتعارض بشكل مباشر مع تجاربنا السابقة. وقد يُفسّر ذلك بالتحيّز التفاؤلي، أي الميل الطبيعي للاعتقاد بأن المستقبل سيكون أفضل من الماضي.
وضع عالما النفس دانيال كانيمان وأموس تفيرسكي كلا المصطلحين ("مغالطة التخطيط" و"التحيز التفاؤلي") عام 1979، مساهمَين بذلك في ظهور مجال الاقتصاد السلوكي. وفي عام 2002، حاز كانيمان جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية عن أبحاثهما. (توفي تفيرسكي ولم تُمنح الجائزة بعد وفاته).
ولمعرفة المزيد عن مغالطة التخطيط ومدى انتشارها وكيفية التغلب عليها، تواصلتُ مع الباحثين الخبراء فيليبوس باباكونستانتينو (كلية إدارة الأعمال في كلية كينغز (King’s College) في لندن) وجوناثان باركر (كلية سلون للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Sloan School of Management))، اللذين نشرا مع ماركوس برونرماير من جامعة برينستون بحثاً حول التخطيط الخاطئ والتسويف والالتزام.
وكما قال باركر: "جميعنا نحاول اتخاذ إجراءات تقود إلى نتائج محسّنة في المستقبل، وهو ما يحفزنا اليوم ويجعلنا نشعر بالرضا".
كيف يبدو ذلك في الممارسة العملية؟ قدم باباكونستانتينو هذا المثال: لنفترض أنك تعمل على مهمة ما ولديك ثلاثة أيام لإنجازها. بدلاً من أن تضع تقديراً مستنداً إلى تجربتك السابقة بأن العمل سيستغرق ما مجموعه 12 ساعة على سبيل المثال، "تتخيّل" أن إتمامه سيستغرق ثماني ساعات فقط، وهو ما يجعلك تبتهج على الفور. وتخطط للاستمتاع في اليوم الأول والعمل مدة أربع ساعات فقط في كل من اليومين التاليين. لكنك تتفاجأ في اليوم الأخير أنك مضطر إلى العمل لفترة أطول من توقعاتك الأولية.
وأضاف: "تقودك مغالطة التخطيط إلى الشعور بالضغط في النهاية وتدفعك إلى العمل أكثر مما توقعت في البداية. وينتهي بك الحال إلى أداء عمل إضافي مع اقتراب الموعد النهائي الذي قد يفوتك حتى نتيجة اعتناقك معتقدات مثلى حول ما يمكنك تحقيقه وتجاهلك العديد من العوامل الخارجة عن نطاق سيطرتك".
هل يمكننا التغلب على مغالطة التخطيط؟
وفقاً لباركر، حتى أولئك الذين درسوا مغالطة التخطيط معرضون للوقوع في شراكها، فهي ظاهرة لا مفر منها. ما الذي يمكننا فعله للبقاء على المسار الصحيح وبلوغ غاياتنا المنشودة إذاً؟
لدى الباحثين بعض الاقتراحات.
تبنّى نظرة خارجية
يدعو دانيال كانيمان هذا الاقتراح الذي يوصي به للتخلص من مغالطة التخطيط بـ "العلاج". فالنظرة الداخلية هي الطريقة التي يفكر بها الناس عادة في القرارات، والتي عادة ما تكون ذاتية ومستندة إلى تجاربهم وتفضيلاتهم وتحيزاتهم الشخصية. في المقابل، ترتكز النظرة الخارجية على الموضوعية والبيانات والإحصاءات.
اسأل نفسك في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك تمارس التسويف: ما مقدار الوقت والجهد اللذين تطلبتهما مهام مماثلة في الماضي؟
إذا كانت المهمة جديدة تماماً عليك، فأجرِ بعض البحوث عنها. هل المهمة المُسندة إليك مشابهة لمهام شركة أخرى؟ ابحث عن أي معلومات متاحة للجمهور وقابلة للقياس حول الوقت والتكاليف التي تنطوي عليها مثل تلك المشاريع؛ بمعنى آخر، اجعل الإنترنت صديقك.
أو يمكنك أن تطلب من زميلك مساعدتك في تقدير الوقت اللازم لتتخلص من تحيزاتك. وبحسب ما أفاد باركر: "كل مشروع يستهل المرء العمل عليه، يقول في نفسه: لا أتوقع أن يكون صعباً جداً، بل أظن أنه سهل جداً في الواقع". وأضاف: "من المفيد جداً طرح الفكرة على الغداء مع زميل ما لتقييمها وتحديد أي ثغرات فيها ليساعدك في التخلي عن تفاؤلك".
وذلك ينطبق على الخبراء أيضاً، فالفشل في تقدير الوقت المطلوب ليس خطأ شخص مبتدئ فقط! ويكمن التحدي في الموازنة بين التحيّز التفاؤلي والواقعية.
أعرب عن التزامك ببدء العمل باكراً وبشكل علني.
كلما أجّلت أعمالك، ازدادت مشكلاتك سوءاً. وهنا تبرز أهمية إلزام نفسك ببدء العمل باكراً. قال باركر: "تنطوي الفكرة على أن تعرّض نفسك لضغط الالتزام الخارجي لكي لا تؤجل أعمالك حتى اللحظة الأخيرة".
ويقترح باباكونستانتينو استكشاف طرق للالتزام، أو تحديد ماهية العناصر الخارجية التي تضع عوائق في وجهك مقيّدة بذلك مجموعة الخيارات المتاحة لديك.
تأمّل وسيلة الالتزام هذه: اجمع كل المهام التي عليك إنهاء العمل عليها في وضع عدم الاتصال (بالإنترنت). ثم اطلب من زميلك في العمل أو شريكك تعطيل شبكة الواي فاي وألا يُعيد الاتصال بالإنترنت إلى حين خروجك من مكتبك أو إنهاء مهامك.
تُجنّبك تلك الطريقة إغراء تصفح الويب الذي قد يشتت انتباهك ويجعلك تماطل في أداء مهامك أكثر. (وستكون شاكراً لنفسك في المستقبل لقيامك بذلك).
ويمكنك العمل على "برمجة" عقلك أيضاً، إذ تُظهر البحوث أنك عندما تضع خطط "إذا حصل كذا - فسأعمل على كذا"، المعروفة أيضاً باسم "نوايا التنفيذ"، فستتصدى بذلك لمغالطة التخطيط وتقلّل من احتمالات التسويف. والمعنى بسيط:
إذا [حصل موقف معين]، فسأعمل على [اتخاذ هذا الإجراء].
على سبيل المثال، إذا وجدت نفسي أبحث عن معلومة ما دون جدوى وقت الظهيرة بدلاً من الكتابة، فسأستريح لتناول الغداء لمدة 30 دقيقة لكي أستعيد نشاطي وتركيزي. بشكل عام، كلما كنت أكثر تحديداً حول ما تهدف إلى القيام به ومكانه ووقته، وكلما زاد عدد الخطط التي تضعها لتعزيز قوة إرادتك، ازداد التزامك.
خصص وقتاً إضافياً.
ضع في اعتبارك أنه قد تعترضك دائماً عوامل خارجة عن إرادتك، من جهة أخرى، قد تبالغ أحياناً في تقدير قدراتك. ولتضمن وضع موعد نهائي أكثر واقعية، أضف نسبة 25% من المدة على تقديراتك الأصلية. إذا كنت تعتقد أن إطلاق ميزة جديدة سيستغرق أربعة أسابيع، فزد المدة أسبوعاً إضافياً لحالات التأخير المحتملة. ثم حدد بعض المعالم الإرشادية على فترات متقطعة (اعتبرها مواعيد نهائية مصغّرة) لإبقائك على المسار الصحيح.
وقد تساعدك بعض الأدوات التقنية على الالتزام بهذه الممارسة، يمكنك مثلاً، إعداد تنبيهات الهاتف المحمول، باستخدام تطبيقات التذكير مثل ديو (Due) أو تودويست (Todoist)، أو حتى الاستعانة بشريك مسؤولية افتراضي.
يمكنك أيضاً استخدام جدول مواعيدك لإبقائك على المسار الصحيح. خصص عدة ساعات خلال اليوم لأداء عمل مركّز في أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، على سبيل المثال. وضع في اعتبارك إعداد لقاءات أسبوعية مع أصحاب المصلحة الخارجيين أو زملائك في الفريق لتحميلك المسؤولية. (إذ ستبدو حينها أي فترة زمنية متاحة لديك جيدة لإنهاء هذا المشروع!) وعندما تعترض المشكلات سبيلك، سيساعدك تخصيص الوقت الإضافي مسبّقاً على مواصلة العمل وفقاً لجدول المواعيد.
افترض الأسوأ
قد يكون من المفيد أحياناً أن تكون متشائماً، لذلك، ابدأ مهمتك التالية مفترضاً فشلك في إنجازها. وتلك الأفكار صحيحة في الواقع، ويُطلق عليها نهج تحليل ما قبل الحدث وهو عكس تحليل ما بعد الحدث الشائع في إدارة المشاريع، وهو ينطوي على إجراء كثير من التفكير فيما قد يحدث في المستقبل على عكس التفكير فيما حدث بالفعل.
وتتضمن هذه الاستراتيجية تخيّل فشلك أو تحديد المشكلات التي قد تنتج قبل حدوثها بالفعل، إذ سيتيح لك ذلك توقع المشكلات المحتملة (حتى لو كانت مستحيلة)، ويجعلك على استعداد لوضع خطة احتياطية مناسبة كإجراء وقائي.
لنعد إلى مثال هذا التقرير الذي تؤجله. فبدلاً من انتظار الأسبوع المحدد لتسليمه، أجر تحليل ما قبل الحدث عند إسناده إليك لأول مرة، ويُفضّل قبل ثلاثة أشهر. حدد المشكلات التي قد تنجم: قد تُسند إليك مشاريع أخرى؛ وقد تنسى تخصيص وقت لها في جدول مواعيدك؛ وقد تشوّش التفاصيل اليومية عقلك (تحديث البريد الوارد بشكل مستمر). ثم حاول تجنّب تلك المشكلات.
قال باركر: "يُعد تحليل ما قبل الحدث خطوة مفيدة لأنه يرشدك إلى الطريق الصحيح وينظّم ميلك الطبيعي للتفاؤل من خلال التفكير في احتمالية حدوث مشكلة ما. وهي طريقة أكثر فعالية من طريقة الضبط الذاتي للتفاؤل استناداً إلى العواقب الشخصية المترتبة جراء تفويت موعد نهائي (الإضرار بالسمعة، وفقدان الوظيفة، وما إلى ذلك). كما أنها تُجبرك على التحلي بالواقعية، وهي حل مفيد في مكان العمل، لا سيّما عندما يكون الانتهاء من العمل على المشروع في الوقت المناسب أمراً مهماً".
وعلى الرغم من أنه من المستحيل التخلص من مغالطة التخطيط في حياتنا، يمكننا إدارتها بشكل استراتيجي. لا تدع مغالطة التخطيط تعرقل مصداقيتك، بل واصل تحقيق أحلام كبيرة وعزز خططك من خلال التحلي بالواقعية القائمة على الأدلة، لكي تكون على أتم الرضا عن نفسك (وتُسعد أولئك الذين يعتمدون على عملك الجيد).