كانت الكبسة حاضرة في منزلي بالغربة هناك في جنوب مدينة ناشفيل الأميركية، لكني اضطررت للاعتذار لأن الزملاء كانوا قد اجتمعوا فعلاً في الملعب بحديقة "ميك نايت"، وأمامنا مباراة حامية -ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنَّها وكأَنَّهم أَحــلامُ- ومن الصعب الجمع بين اثنين لا يجتمعان: وجبة الكبسة ومباراة رياضية! اكتفيت ببعض السوائل، ثم اتجهت إلى الملعب وكانت مباراة مليئة بالمتعة والإثارة، وبعد انتهائها، وفي طريق عودتي للمنزل، برزت لوحة لمحل الوجبات السريعة "كوك آوت" (Cook Out) في تلك المنطقة، وهي سلسلة مطاعم برغر شهيرة هناك. توقفت عند نافذة الطلب بالسيارة، وطلبت الوجبة، ثم اتجهت لبوابة الدفع، وإذا بالمفاجأة الصادمة: نسيت بطاقة الصراف ومحفظتي في المنزل! احمرّ الوجه قليلاً، وقلت للموظفة بأدب: بكل أمانة وصدق واعتذار، نسيت نقودي في المنزل، ولعلي أذهب، فقاطعتني من دون تردد قائلة: عادي، تستطيع أخذ الوجبة مجاناً، وهذه أقل هدية نقدمها لعميل مميز مثلك!
خذ نفساً عميقاً إن كنت تعمل في شركة تنتمي لقطاع المطاعم لتفهم التحديات التالية: أولاً، هي لا تعرفني، وثانياً، لم تقل دعني أسأل مديري (لديها الصلاحية والثقة)، وثالثاً، شركة "كوك آوت" مثل أي شركة أخرى تخاف من السرقات والتلاعب في مثل هذه الأمور، فكيف تضبط مثل هذه الممارسات بين الموظف والعميل؟ الجواب: أهلاً بك في عالم خدمة العملاء الراقية!
خدمة العميل اليوم لم تعد ترفاً، بل فرضاً تسويقياً لازماً مع اشتداد المنافسة واحتدامها، فالذي لا يفهم أثر غياب خدمة عملاء مميزة، سيدرك أهميتها لاحقاً في أثناء تسوية أوراق إفلاس شركته! لم يعد التركيز اليوم في أميركا والدول المتقدمة على "رضا العميل" لأنه أصبح أمراً مفروغاً منه، وإنما السباق الحقيقي اليوم في "إبهار العميل" (?How to Wow Your Customers)، إذ يجب مفاجأته بخدمة تفوق توقعاته.
توجد اليوم الكثير من الشركات العالمية التي تطبق مبدأ "إبهار العملاء" بممارسات مبتكرة راقية، فمجموعة "فنادق الريتز كارلتون" (Ritz Carlton) على سبيل المثال تعطي الصلاحية لموظفيها بصرف مبلغ قدره 2,000 دولار لمعالجة أي مشكلة طارئة يواجهها أحد النزلاء في أثناء إقامته في الفندق. "هورست شولتز"، الشريك المؤسسة لفنادق "الريتز كارلتون" والرئيس التنفيذي السابق للعمليات فيها يقول في هذا الصدد: "عندما طرحت هذه الفكرة اعتبرها الجميع ضرباً من الجنون، بمن فيهم نائب رئيس شركتنا وحتى أن بعض الملّاك هددوا بمقاضاتي. قالوا: أتريد أن ينفق مساعد النادل ألفي دولار؟ كنت أعرف أن القيمة المحتملة لبقاء الزبون تساوي مئتي ألف دولار، كما كنت أعرف أنه ليس هناك أي موظف سينفق ألفي دولار، ولم يحدث ذلك سوى مرة أو اثنتين في المؤسسة كلها".
لا تقتصر جوانب الخدمة التي تساعد في "إبهار العميل" على صرف مبلغ معين "لإرضائه"، وإنما تتنوع بحسب طبيعة الصناعة التي تنتمي لها الشركة والمنتجات أو الخدمات التي تقدمها، ففي قطاع النقل الجوي للأفراد على سبيل المثال، وجدت دراسة قادها 5 باحثين ونُشرت في هارفارد بزنس ريفيو، أن من أهم عناصر خدمة العملاء المبهرة هو الرد السريع والآني على طلب العميل، إذ لاحظوا أن العلامة التجارية المميزة يمكن أن تحصل على قيمة أكبر بكثير عند تقديم رد فوري، فعندما ردت شركة طيران على تغريدة عميل في 5 دقائق أو أقل، كان هذا العميل على استعداد لدفع 20 دولاراً أكثر للحصول على تذكرة من تلك الشركة في الأشهر المقبلة، وبعد انقضاء 20 دقيقة، كان العملاء على استعداد لدفع 3 دولارات أخرى فقط، أي بانخفاض قدره 85% في القيمة مقارنة بالزبائن الذين حصلوا على رد خلال 5 دقائق أو أقل، وبعد مضي ساعة، كان العملاء على استعداد لدفع 2 دولار فقط، كما وجدوا أن متوسط الوقت الذي استغرقته شركات الطيران للرد على التغريدات في العينة التي درسوها كان نحو 20 دقيقة، وهذا يعني أن ما لا يقل عن نصف شركات الطيران كانت تضيع فرصاً لتحقيق أرباح معتبرة.
الجانب الآخر المهم في "إبهار العملاء" هو التسويق الشفهي (Word Of Mouth) لأن كلام الناس فيما بينهم لا يقدر تسويقياً بثمن وأكبر دليل أني لا زلت أكرر قصة "الوجبة المجانية" من مطعم "كوك آوت" بعد مرور كل هذه السنين! كلام الناس عن منتجك هو جزء أساسي من التسويق، اخصم قيمة الوجبة المجانية من ميزانية التسويق. هذا ما فعلته بالضبط "كوك آوت".