ملخص: لطالما تعاملت شركات السلع الفاخرة التقليدية مع الرقمنة كقناة جديدة للتسويق وعرض المنتجات. لكنها بدأت الآن التعامل معها باعتبارها سوقاً في حد ذاتها، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى تقنية "البلوك تشين" التي استحدثت الرموز غير القابلة للاستبدال. ويمكن اليوم أيضاً تطبيق المكوّنات الرئيسية للسلع الفاخرة على المنتجات الافتراضية، كالندرة والتراخيص الحصرية والتكلفة، وهو ما أدركته شركات، مثل "بالينسياغا" (Balenciaga) و"لويس فويتون" (Louis Vuitton) و"غوتشي" (Gucci).
هل يمكن أن نعامل السلع الرقمية معاملة السلع الفاخرة؟ حتى وقت قريب جداً، كان معظم المستهلكين وشركات الرفاهية سيقولون: "لا، هذا ضرب من المستحيل". فالفخامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراخيص الحصرية، في حين أن التكنولوجيا الرقمية تُعنَى في المقام الأول بإتاحة الوصول إلى المنتجات والبيانات والمعرفة للجميع، ويبدو أن الأمرين متناقضان. ومن هذا المنطلق، لن تكون التكنولوجيا الرقمية سوى قناة أو في أحسن الأحوال وظيفة إضافية تكمّل وتضخّم منتجاً مادياً أو تجربة ملموسة.
ومن المؤكد أن هذه الوظيفة الإضافية يمكن أن تقدم قيمة كبيرة أو تصل إلى مجموعات جديدة تماماً من العملاء. ويعد تطبيق "تيفاني" للبحث عن خاتم الخطبة المناسب أبرز مثال على ذلك، فهو يتيح للمستخدمين قياس خواتم الخطبة ومعاينتها باستخدام تكنولوجيا الواقع المعزز قبل الدخول إلى المتجر. وتتوافر لدى "لويس فويتون" تشكيلات من الإكسسوارات التي يمكن للاعبي لعبة "ليغ أوف ليجيندز" (League of Legends) شراؤها عبر الإنترنت ثم جمعها في المتاجر. وعرضت "غوتشي" العام الماضي على لاعبي لعبة "بوكيمون غو" (Pokémon GO) تمكينهم من شراء أحدث الأزياء من التشكيلة المعروضة في محطات "غوتشي-بوكي" بالشراكة بين شركتيّ "غوتشي" و"ذا نورث فيس" (The North Face). وعقدت شركة الألعاب "إيبك غيمز" (Epic Games) شراكة مع عدد من العلامات التجارية، بدايةً من "بالينسياغا" وصولاً إلى "لويس فويتون" وخصَّصت 100 مليون دولار لصناعة ألعاب ثلاثية الأبعاد.
ولكن اتضح أن العالم الرقمي يمكنه أيضاً توفير المكوّنات الأساسية للسلع والخدمات الفاخرة بمعزل عن أي تحفة فنية أو تجربة مادية.
المكوّن الأول: الندرة
حتى في العالم المادي، قد يكون من الصعب معرفة الفارق بين الأصل والتقليد. ولطالما كان يُعتَبر التمييز بين المنتجات الرقمية "الحقيقية" والنسخ الرقمية المقلَّدة المماثلة أشبه بالمستحيل. لكن التكنولوجيا، وكما هو العهد بها دائماً، تأتي بالحلول، وكان الحل هذه المرة يتمثّل في الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs).
وبالاستفادة من تقنية "البلوك تشين"، يمكن ربط الرموز غير القابلة للاستبدال بالمنتجات الرقمية، مثل اللوحات الفنية الرقمية، ما يجعل من الممكن إثبات أصالتها وإثبات ملكيتها لشخص محدّد أو جهة معينة. ونتيجة لذلك، ارتفعت مبيعات المنتجات التي تحمل الرموز غير القابلة للاستبدال لتصل إلى 10.7 مليارات دولار في الربع الثالث من عام 2021. وقد تم بيع لوحة فنية رقمية للفنان مايك وينكلمان المعروف باسم "بيبل" تحمل رمزاً غير قابل للاستبدال في شهر مارس/آذار 2021 في دار "كريستي" للفنون مقابل 70 مليون دولار تقريباً. ويُقدّر بنك "مورغان ستانلي" الاستثماري أن الرموز غير القابلة للاستبدال ستشكل 10% من سوق السلع الفاخرة عام 2030، وهو ما يُعتبر فرصة بقيمة 50 مليار دولار.
وتسمح الرموز غير القابلة للاستبدال أيضاً للعلامات التجارية بصناعة أزياء تحمل الطابع الشخصي بالكامل: فقد تم بيع أول سترة افتراضية تحمل رمزاً غير قابل للاستبدال من العلامة التجارية "أوفربرايسد" (Overpriced) على منصة "بلوك بارتي" (BlockParty) مقابل 26,000 دولار. وتقدم شركات، مثل "آرتيفكت" (RTFKT) أو "بلاتفورم إي" (PlattformE) خيارات لأصحاب المنتجات التي تحمل رموزاً غير قابلة للاستبدال للحصول على نُسَخ مادية من منتجاتهم المملوكة رقمياً بمساعدة عمليات الإنتاج المرنة، مثل الطباعة الثلاثية الأبعاد. ولا توفر هذه المرونة أيضاً إمكانية إنتاج المنتجات بصورة فورية عند الطلب إلا عندما يختبرها أصحاب المنتجات التي تحمل رموزاً غير قابلة للاستبدال افتراضياً ويقررون امتلاك النُسَخ المادية، بحيث يتجنبون مشكلة المخزون الزائد لفترات طويلة الأمد، وهي الظاهرة التي تشيع في قطاع الأزياء تحديداً.
لكن الندرة والتخصيص ليسا كافيين. إذ يجب أن تتجاوز السلع الفاخرة مفهوم الندرة وأن تجد طرقاً للاستفادة من الأحلام والخيالات والطموحات التي تغذي رغباتنا. حسناً، يمكن الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية لتحقيق هذه الغاية أيضاً.
المكوّن الثاني: الترخيص الحصري
يمكننا تقديم أنفسنا في العالم الرقمي بالطريقة التي نحبها إلى حد كبير، كما يمكننا تغيير هذه الهويات بسرعة كبيرة. وقد استغل بعض العلامات التجارية الفاخرة الفرصة التي تتيحها هذه الإمكانات بالفعل. على سبيل المثال، طوّرت شركة "بالينسياغا" تشكيلة أزياء افتراضية في لعبة "فورتنايت" (Fortnite)، بحيث يمكن للاعبين إظهار انتمائهم إلى مجتمع العلامة التجارية عن طريق شراء ملابس افتراضية مملوكة للعلامة التجارية أو "ملابس" لشخصياتهم الرمزية. وتعمل شركة "بربري" (Burberry) على تجربة الرموز غير القابلة للاستبدال داخل اللعبة لتقديم ملابس للشخصيات الرمزية الافتراضية، مثل الإصدار المحدود والشخصية المحدودة الكمية المسماة "شاركي بي" (Sharky B) في لعبة "بلانكوس بلوك بارتي" (Blankos Block Party) متعددة اللاعبين.
وتقدّر منصة التداول "دي ماركت" (DMarket) سوق الملابس الرقمية وعمليات الشراء داخل اللعبة بنحو 40 مليار دولار سنوياً. ولن يؤدي إنشاء قابلية التشغيل الداخلية العالمية عبر البيئات التي تسمح بارتداء الملابس وتبادلها على منصات مختلفة سوى إلى تعزيز قدرة المستهلكين على إبراز هوياتهم وحالتهم، ما يزيد من قيمة المنتجات الرقمية التي تتيح هذه الإمكانية.
ولا يقتصر الأمر على الألعاب فقط. فقد أصبحت المجتمعات عبر الإنترنت، مثل "بوريد آيب ياخت كلوب" (Bored Ape Yacht Club) أو "بادجي بنغوينز" (Pudgy Penguins)، شائعة بين هواة جمع العملات الرقمية. حيث يتم الحصول على عضوية المجتمع من خلال شراء رمز غير قابل للاستبدال مرتبط بصورة معينة (كصورة "بوريد آيب" أو "بادجي بنغوين")، ويتم استخدام الرموز المميزة كتذكرة دخول للوصول إلى السلع والخدمات الرقمية القابلة للجمع. ووفقاً لتقرير "سوق الرموز غير القابلة للاستبدال" الصادر عن شركة "تشينالسيز" (Chainalysis) لعام 2021، فقد كانت رموز العضوية لهذه المجتمعات هي أكثر الرموز غير القابلة للاستبدال شيوعاً في عام 2021. على سبيل المثال، باعت شركة "يوغا لابز" (Yuga Labs) المسؤولة عن تطوير "موتانت آيب ياخت كلوب" (Mutant Ape Yacht Club) 10,000 عضوية للرموز غير القابلة للاستبدال في ساعة واحدة فقط خلال شهر أغسطس/آب، ما أدى إلى إتمام صفقة بقيمة 96 مليون دولار.
علاوة على ذلك، غالباً ما تكون السلع والخدمات الافتراضية التي يتم بيعها في الألعاب والمجتمعات باهظة الثمن، ما يقودنا إلى مكوّن رئيسي آخر من مكوّنات السلع الفاخرة.
المكوّن الثالث: السعر
شهد شهر ديسمبر/كانون الأول 2021 بيع 1 من 4 عناصر حصرية تحمل رموزاً غير قابلة للاستبدال في مجتمع "موتانت آيب ياخت كلوب" الافتراضي مقابل 3.6 ملايين دولار. وقد لاحظت العلامات التجارية هذه الظاهرة بالفعل. ويعد بيع 9 رموز غير قابلة للاستبدال مؤخراً من شركة "دولتشي آند غابانا" (Dolce & Gabbana) مقابل 5.7 ملايين دولار مجرد مثال واحد يسلط الضوء على الإمكانات المتاحة في هذا السياق. وقد تم بيع الإصدار المحدود من شركة "كارل لاغرفيلد" (Karl Lagerfeld) المكون من 77 قطعة رقمية مقابل 177 يورو على منصة "ذا ديماتريالايزد" (The Dematerialized) بعد 33 ثانية فقط. وفي عام 2020، عقدت شركة الأزياء الرقمية "آرتيفكت"، المملوكة الآن لشركة "نايكي"، شراكة مع الفنان "فيوشيوس" (Fewocious) لطرح 3 تصميمات للأحذية الرياضية تتراوح أسعارها بين 3,000 و10,000 دولار. وتم بيع أكثر من 600 زوج في 7 دقائق فقط.
لا يمانع بعض المستهلكين في الواقع من دفع سعر أعلى مقابل الحصول على المنتجات الرقمية مقارنة بما يمكنهم دفعه مقابل شراء المنتجات المادية. وقد تم في الآونة الأخيرة بيع النسخة الرقمية المحدودة من حقيبة يد "غوتشي ديونيسوس"، التي تم بيعها مقابل 4.75 دولارات فقط على منصة "روبلوكس" (Roblox)، بمبلغ 4,000 دولار في السوق الثانوية، وهو ما يفوق سعر النسخة المادية للحقيبة. وتم تداول الأحذية الرياضية من قبل شركة "آرتيفكت" بأضعاف أسعارها بعد أسابيع من طرحها. وتعد هذه الفرصة مغرية إلى حدٍّ بعيد. فعلى عكس العالم المادي، تتيح إمكانية التتبع الرقمي لمعاملات العلامات التجارية الحصول على حصة من كل عملية إعادة بيع مستقبلية، ما يتيح طريقة جديدة لتحقيق الأرباح باستمرار. حتى إن شركة "بالينسياغا" أنشأت قسماً تجارياً مخصصاً للسلع الافتراضية في عالم "الميتافيرس". كما أن هوامش أرباح المنتجات الافتراضية مرتفعة أيضاً، حيث إن تكلفة المنتجات الرقمية أقل بكثير من تكلفة المنتجات المادية. وبالإضافة إلى ذلك، فلا توجد تكلفة على المخزون غير المُباع.
تعمل الشركات المُشار إليها هنا على توسيع مفهوم ندرة المنتجات وتراخيصها الحصرية وتكلفتها، وستزداد على الأرجح فرصها في خلق قيمة استهلاكية وتجارية لأن ما يتعلمه هؤلاء الرواد المتخصصون في السلع الفاخرة سيخلق حتماً أنواعاً جديدة من المنتجات والخدمات داخل القطاع وخارجه.