كيف تتمكن الشركات القائمة من النجاة والازدهار؟

15 دقيقة
الزعزعة الرقمية

أثبتت الأبحاث التي أُجريت على كبرى الشركات في العالم أن الزعزعة الرقمية أقل تدميراً مما قد يتصوّر البعض.

تشير السردية السائدة اليوم في قطاع الأعمال إلى أن العالم يشهد تغيُّرات بصورة أسرع من أي وقت مضى ويتعرّض لما يُعرَف بالفوضى الخلاقة. حيث تسيطر كبرى شركات التكنولوجيا على زمام الأمور، ويتواصل نمو عدد الشركات المليارية أو ما يُعرَف باليونيكورن (أي الشركات الناشئة التي تبلغ قيمة كلٍّ منها مليار دولار أو أكثر)، ويتضاءل متوسط استمرارية الشركات التقليدية على مؤشر "إس آند بي 500"، كما تتراجع أهمية عراقة الشركة أكثر من أي وقت مضى. وباتت الشركات العريقة تتلقى رسالة واضحة بأن عليها إما أن تلحق بالركب أو تتعرّض للفناء.

لكن دعونا نلقِ نظرة على الصورة الكبرى. صحيح أن أحداً لا ينكر النمو المتسارع لكبرى شركات التكنولوجيا أو القصص التحذيرية لضحايا الزعزعة الذين كانوا ملء السمع والبصر يوماً ما (مثل "نوكيا" و"كوداك" و"بلوك باستر"). لكن أغلبية القطاعات الاقتصادية الضخمة لم تتعرّض للزعزعة بدرجة كبيرة على مدى العقود الثلاثة الماضية، بمعنى أنها لم تخضع لهيمنة المنافسين من شركات التكنولوجيا الحديثة التي تخدم العملاء بشكل أكثر كفاءة وأقل تكلفة مقارنةً بالشركات القائمة. وفي الواقع، لا تزال أغلبية الشركات العريقة قادرة على ممارسة عملها بنجاح كبير في عالم اليوم الرقمي.

ولك أن تنظر مثلاً إلى البيانات التالية: بدأت ثورة الإنترنت في منتصف التسعينيات، أي قبل ربع قرن من الزمان، وهي فترة طويلة بما يكفي لأن تهب فيها رياح التغيير على كافة القطاعات الاقتصادية. فكم يبلغ عدد الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" ولم تكن موجودة في عام 1995؟ 17 شركة فقط. أمّا باقي الشركات البالغ عددها 483 شركة، فكانت موجودة منذ ذلك العام، بشكل أو آخر. وإذا نظرت إلى الشركات المدرجة على قوائم التصنيف السنوي لأكبر 500 شركة في جميع أنحاء العالم (غلوبال 500)، فإن الصورة لن تختلف كثيراً.

لا يمكن نكران الزعزعة الرقمية بطبيعة الحال، ولكن تمت المبالغة في تقدير أثرها من خلال 3 خرافات: أن كل قطاعات العمل معرّضة لخطر الزعزعة، وأن الزعزعة تحدث بسرعة وبمعدلات متسارعة، وأن الشركات العريقة تجد صعوبة في التكيّف. في حين أن الحقائق تشير إلى خلاف ذلك.

وأهدف من وراء كتابة هذه المقالة إلى شيئين: يتمثل هدفي الأول في مساعدة رجال الأعمال على فهم حقيقة الماضي، ما سيهيئهم بشكل أفضل للمستقبل. على سبيل المثال: يدعي الكثير من المراقبين أننا على أعتاب زعزعة واسعة النطاق في عددٍ من القطاعات، مثل الماليات والتأمين والتعليم. وقد توصلت نتائج أبحاثي إلى أن المحللين والمراقبين سبق لهم أن طرحوا النبوءة ذاتها منذ التسعينيات، وأثبت الزمن خطأ نبوءاتهم. وستسهم معرفة سبب عدم تعرّض هذه القطاعات للزعزعة حتى الآن في تحسين قدرتنا على التنبؤ بكيفية تطوّر الأمور خلال السنوات القليلة المقبلة. أمّا هدفي الثاني فهو مساعدة المسؤولين التنفيذيين على اتخاذ قرارات أفضل. فغالباً ما يجادل البعض بأن الطريقة الوحيدة لمحاربة أي زعزعة تكنولوجية هي مواجهتها على ملعبها، وذلك من خلال إنشاء عمل تجاري جديد، مثلاً، في وحدة منفصلة. لكنني وجدت أن هناك 3 استراتيجيات أخرى على الأقل يمكن للشركات اعتمادها، وفق مقتضيات الظروف. كما وجدت أيضاً أن المؤسسات التي تتعامل مع المخاطر التنافسية بحكمة ومنهجية ستتخذ خيارات أكثر ذكاءً لا تفضي إلى النجاة فحسب، بل وتؤدي أيضاً إلى الازدهار.

فكرة المقالة باختصار

الخرافة

يعتقد الكثيرون أن الزعزعة التكنولوجية ستدمّر معظم الشركات التقليدية، وأن كبرى شركات التكنولوجيا والشركات الناشئة المليارية (اليونيكورن) ستبسط سيطرتها على العالم في نهاية المطاف. ‎

الواقع

إذا ألقيت نظرة سريعة على كيفية تغيُّر تركيبة الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" وقائمة "غلوبال 500" منذ ظهور الإنترنت، فستجد أن هذه القصة لا تمت إلى الحقيقة بصلة. إذ لم تنضم إلى قائمة "فورتشن 500" في عام 2020 سوى 17 شركة لم تكن موجودة بها عام 1995. وتتكرر هذه الصورة بشكل مماثل على المستوى الدولي.

الدروس المستفادة  

يحدث التحوّل في قطاعات العمل ببطء شديد، ويمكن للشركات القائمة أن تستجيب بنجاح لتحديات الزعزعة بإحدى الطرق الأربع التالية: التخندق أو الرد بالمثل أو استغلال نقاط القوة المتوافرة في الأصول الحالية أو التنويع لدخول قطاعات عمل جديدة.

القصة الحقيقية

دعنا نعُد إلى الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" وقائمة "غلوبال 500" عام 1995 ونقارنها بقوائم 2020.

في عام 2020، كانت 198 شركة من الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" في عام 1995 لا تزال مدرجة على القائمة. وكانت 256 شركة قد خرجت منها، إمّا لأنها اندمجت مع شركات أخرى أو تم بيعها لشركات الأسهم الخاصة أو لم تعد كبيرة بما يكفي لإدراجها على القائمة. ولم يفلس سوى 35 شركة فقط من الشركات المدرجة في تصنيف عام 1995. وتضم قائمة 2020 أيضاً 231 شركة كانت موجودة في عام 1995 ونمت بما يكفي للانضمام إليها. وهناك 54 شركة أخرى كانت عبارة عن شركات فرعية وأعادت هيكلة أعمالها التي كانت موجودة سابقاً. وكما أشرنا سابقاً، فقد انضمت إلى القائمة 17 شركة فقط بعد عام 1995، كان من بينها شركة "فيسبوك" (التي تُعرَف الآن باسم "ميتا") و"جوجل" (التي تُعرَف الآن باسم "ألفابت") و"تيسلا" و"نتفليكس" و"أوبر".

أمّا بالنسبة للشركات المدرجة على قائمة "غلوبال 500"، فلا تزال 164 شركة من الشركات التي كانت مُدرجة على قائمتها في عام 1995 موجودة في التصنيف عام 2020. واندثرت 10 شركات منها، وخرجت 150 شركة من القائمة، وتم بيع 132 شركة أو دمجها مع شركات أخرى. ولم يشمل تصنيف 2020 سوى 12 شركة جديدة تماماً، إذ كانت 324 شركة جديدة على القائمة، ولكنها إما كانت موجودة من قبل أو تم تشكيلها من شركات كانت موجودة بالفعل في عام 1995. (انظر الشكل التوضيحي: "الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" وقائمة "غلوبال 500"، آنذاك والآن"). وكان التغيير الأساسي هنا يرجع إلى أسباب جيوسياسية: فقد شهد عام 2020 خروج 95 شركة يابانية من قائمة "غلوبال 500" مقارنة بقائمة عام 1995، في حين أُضيفت إليها 116 شركة صينية.

خلاصة القول: كان أثر الفوضى أقل ممّا أوحت به الدراسات السابقة، بل وأقل مما يتصوّر معظم المتابعين في الواقع.

كم يبلغ عدد الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" ولم تكن موجودة في عام 1995؟ 17 شركة فقط. أمّا باقي الشركات البالغ عددها 483 شركة، فكانت موجودة منذ ذلك العام، بشكل أو آخر.

وحينما أطرح هذا التحليل، أتلقى الكثير من الاعتراضات يتعلق بعضها بصغر حجم العينة البحثية، بداعي أن القائمتين لا تشملان الشركات الخاصة والشركات المدعومة من شركات رأس المال المغامر والشراكات المهنية، وأنهما تغطيان فترة زمنية لا تتجاوز مدتها 25 عاماً فقط. وهذه اعتراضات منطقية، لكنها لا تؤثر في النتائج الأساسية. وإذا كنت تريد دليلاً دامغاً على تغيُّر أنماط المستهلكين وتغيُّر أنماط الاستهلاك الصناعي، فلا بأس بالبدء بقائمة "فورتشن 500" وقائمة "غلوبال 500".

ثمة مصدر آخر للتخوّف، وهو استناد هذه التصنيفات إلى إيرادات المبيعات، وليس القيمة السوقية أو الربحية. ولم أستخدم القيمة السوقية لأن سعر السهم يعكس ميول المستثمرين الحالية فقط حول إمكانات النمو المستقبلية للشركة، وتعكس هذه الميول في الآونة الحالية التصورات الوردية حول مستقبل كبرى شركات التكنولوجيا. وفى الوقت نفسه، فقد أثبت التدقيق المفصّل لربحية الشركات التي ظلت مدرجة على قائمة "فورتشن 500" أنه على الرغم من الأمثلة القائمة على قصص نادرة التكرار لتقلص هوامش الربح بسبب الزعزعة الرقمية في بعض القطاعات، فإن أغلبية الشركات تحقق اليوم أرباحاً تفوق ما كانت تحققه في ذلك الحين.

دعونا نقسّم الشركات إلى 5 فئات ونفحص معدلات النمو والربحية في كلٍّ منها. (انظر الشكل التوضيحي: "إيرادات وأرباح الشركات التي خرجت من قائمة "فورتشن 500" أو انضمّت إليها أو بقيت فيها"). حيث تمثل الشركات "الراسخة" تلك الشركات التي ظلت مدرجة على القائمتين خلال هذين العامين. في حين تمثل الشركات "المشطوبة" تلك الشركات التي كانت موجودة في قائمة عام 1995، ولكن تم بيعها أو دمجها مع شركات أخرى، أو توقفت عن النمو. وتمثل الشركات "الصاعدة" تلك الشركات التي انضمت إلى القائمة عام 2020، ولكنها كانت موجودة فعلياً في عام 1995 بشكل أو آخر. وتمثل الشركات "المنكوبة" تلك الشركات التي كانت موجودة في قائمة عام 1995، ولكنها أفلست. أمّا الشركات "الوافدة" فتمثل الشركات (الرقمية في الغالب) المدرجة على قائمة عام 2020، وتأسست بعد عام 1995.

وتنمو الشركات "الوافدة" بمعدلات سريعة بطبيعة الحال. ولكن ما يدعو إلى الدهشة بالقدر نفسه هو النمو المستمر للشركات "الراسخة". وحتى الشركات "المشطوبة"، التي خرجت من قائمة "فورتشن 500" في وقت ما، لا تزال تحقق بعض النمو.

وترسم بيانات الربحية صورة مماثلة. فقد انتقلت الشركات "الوافدة" من مرحلة انعدام الأرباح إلى مرحلة تحقيق أرباح عالية جداً، في حين استطاعت الشركات "الراسخة" تنمية أرباحها عاماً بعد آخر (باستثناء عام 2008 إبان الأزمة المالية العالمية). حتى الشركات "المشطوبة" ظلت تدر أرباحاً (باستثناء عام 2008)، ولم يتكبّد سوى 35 شركة "منكوبة" خسائر مالية باستمرار.

وإذا ألقينا نظرة على الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" حسب القطاع، فسيتبين لنا أن القطاعات الوحيدة التي شهدت تغيراً كبيراً هي قطاعات التقنية (التكنولوجيا والإعلام والاتصالات) والتجزئة (التي تشمل المطاعم والفنادق). ففيما يخص شركات التقنية، فقد أفلست 5 شركات من أصل 52 شركة مدرجة على قائمة 1995، في حين أن 10 شركات من أصل 62 شركة تقنية مدرجة على قائمة 2020 لم تكن موجودة قبل عام 1995. وبالنسبة لقطاع البيع بالتجزئة، فقد أفلست 19 شركة من أصل 67 شركة كانت مدرجة على قائمة 1995، في حين أن 3 شركات من أصل 74 شركة مدرجة على قائمة 2020 هي شركات جديدة. وبالنسبة للقطاعات الأخرى، كالطاقة والمستلزمات والكيماويات والصناعة والسيارات والطيران والمنتجات الاستهلاكية والرعاية الصحية والصناعات الدوائية والنقل والسفر وحتى الخدمات المالية والتأمين، فكانت جميعها تعاني مستويات عالية من الثبات وتبدو مستقرة بشكل مدهش.

دعونا نُعد النظر في تلك الخرافات التي ذكرتها سابقاً: لا يوجد قطاع محصَّن ضد الزعزعة، وتحدث الزعزعة بسرعة، والشركات العريقة غير قادرة على التكيف. إذ لا تؤكد الحقائق أياً منها. فقد تأثر بعض القطاعات، مثل قطاعي التقنية والتجزئة بشكل معتدل، في حين لم يتأثر البعض الآخر، مثل السلع الصناعية والاستهلاكية، سوى بشكل طفيف للغاية وبمعدلات تكاد لا تُذكَر. وتحدث الزعزعة على مدى فترة زمنية طويلة. وكان يُنظر إلى قطاعات الخدمات المصرفية للأفراد والتأمين والتعليم والتدقيق والاستشارات على أنها قطاعات هشة في التسعينيات، وعلى الرغم من أن التغييرات لا تزال جارية في كل هذه القطاعات، فإن الحرس القديم لم يتخلوا بعد عن مواقعهم المهيمنة. وبينما عانى بعض الشركات العريقة على مدار العقود القليلة الماضية، فإن الأدلة تثبت أن هذه الشركات لا تمثل الاتجاهات العامة. وكما أشرت سالفاً، فقد انتقل معظم الشركات القائمة إلى العصر الرقمي بصورة جيدة. لذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: "كيف تعلمت هذه الأفيال الرقص؟"، مع الاعتذار للويس غرستنر، الرئيس التنفيذي لشركة "آي بي إم"، لاستعارة عبارته.

ملحوظة: تضمّنت قائمة "فورتشن 500" لعام 1995 عدة شركات مكررة (بمعنى أنه تم إدراج الشركة نفسها مرتين) وبعض الشركات المملوكة للأجانب (التي استبعدناها) وبضع شركات لا يمكن تتبعها بسبب تغيّر أسمائها. وتضمنت قائمة "غلوبال 500" عدداً كبيراً من الشركات في آسيا (معظمها يابانية في عام 1995 وصينية في عام 2020) لم يكن لديها مواقع إلكترونية باللغة الإنجليزية، ما حال أيضاً دون تتبعها.

استراتيجيات التكيُّف

عندما تضطر الشركات إلى مواجهة الزعزعة، فإن رد فعلها الطبيعي هو محاربة النار بالنار، بمعنى إنشاء وحدة رقمية منافسة أو بناء حاضنة أعمال أو مسرّع أعمال أو متابعة التحوَّل. وتقول دراسة حديثة أجرتها شركة "ماكنزي": "تزداد احتمالات فوز الشركات التي تتبنى استراتيجيات جريئة هجومية في مواجهة رقمنة القطاع الذي تعمل فيه".

لكن هذه طريقة واحدة فقط لمعالجة المشكلة. وما عليك إلا أن تجري تحليلاً بسيطاً للقوى الخمس لتقييم أثر التكنولوجيا الرقمية على القطاع الذي تعمل فيه، وستجد على الأرجح أنها تقلل قيود الدخول إلى السوق في بعض المجالات وتشجّع المنافسين الجدد وتزيد من القوة الشرائية للعملاء، خاصة في أسواق الشركات التجارية الموجَّهة للمستهلك. وكما يعرف أي طالب في كليات إدارة الأعمال، فإن الاستجابة الذكية هي الأسلوب الأمثل لمقاومة هذه القوى، كأن تعمل مثلاً على تعزيز قيود الدخول إلى السوق وزيادة قدرتك على المساومة واستغلال نقاط قوتك الحالية. قد يستوجب هذا في بعض الأحيان توجيه ضربات انتقامية مباشرة، ولكنه قد يستوجب في أحيان أخرى الرد بصورة غير مباشرة أو اتخاذ موقف دفاعي. يجدر بك أحياناً التركيز على أسواقك الحالية، ويتعين عليك في حالات أخرى استهداف أسواق جديدة. وإذا ألقينا نظرة سريعة على الاستراتيجيات التي اتبعتها الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 500" وقائمة "غلوبال 500" التي اجتازت بنجاح 25 عاماً من الرياح الهوجاء للتغيير الرقمي، فسيكشف لنا هذا عن 4 أساليب عامة.

الرد بالمثل. نعود ونكرر أن رد الفعل التلقائي تجاه الزعزعة هو محاولة مواجهة الشركات الثورية في ملعبها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك طرح "الخطوط الجوية البريطانية" لخدمة "غو" (Go) لرحلات الطيران منخفضة التكلفة، منذ بيعها لشركة "إيزي جيت" (EasyJet)، وإنشاء صحيفة "نيويورك تايمز" لموقع NYTimes.com، وانتقال كبرى شركات صناعة السيارات إلى مجال السيارات الكهربائية. ويمكن للشركات القائمة أن تدخل في حلبة المنافسة مع المجددين وجهاً لوجه عن طريق إنشاء وحدات جديدة أو إجراء عملية استحواذ أو الدخول في مشاريع استثمارية مشتركة. ويعد أسلوب الرد بالمثل استراتيجية مناسبة إذا كانت التكنولوجيا الجديدة تمثل تهديداً وجودياً للشركة، لكن هذا عارٍ عن الصحة في كثير من الأحيان. علاوة على ذلك، فمن الصعب للغاية أن تبلى بلاءً حسناً في هذا المضمار، فعلى الرغم من وجود بعض النجاحات، فإن الشركات العريقة لا تمتلك سجلاً حافلاً بالإنجازات بشكل عام فيما يتعلق بتوجيه ضربات موجعة للشركات الناشئة في ملعبها. وقد عانت شركة "مايكروسوفت"، على سبيل المثال، كثيراً حينما حاولت الدخول في حلبة المنافسة مع "جوجل" في مجال محركات البحث، ولم تُجدِ محاولة شركة "جنرال موتورز" نفعاً حينما أرادت التصدي لشركة "أوبر" من خلال طرح خدمة "مافن" (Maven) لمشاركة السيارات.

استغلال نقاط القوة. تحاول الشركة الراسخة هنا استغلال نقاط قوتها الحالية. وانظر مثلاً إلى استراتيجية "ديزني" في مطلع الألفية الجديدة. كان من الممكن أن تحاول الشركة الدخول في حلبة المنافسة غير مضمونة العواقب في سوق خدمات البث المباشر على الإنترنت الناشئ حديثاً، ولكنها فضّلت بدلاً من ذلك استغلال نقاط قوتها التي أثبتت نجاحها في صناعة الأفلام، وشراء شركتيّ "بيكسار" و"مارفل" (بالإضافة إلى شركة "لوكاس فيلم" في عام 2012) وإنتاج سلسلة من الأفلام التي لاقت نجاحاً مشهوداً. وقد أسهمت مكتبة المحتوى الضخمة بشركة "ديزني" في منحها قدرة هائلة على مساومة شبكة "نتفليكس" وجعلتها قادرة على اختيار الوقت المناسب لإطلاق خدمة خدمات البث المباشر على الإنترنت الخاصة بها. يمكن الاستشهاد هنا بمثال آخر من شركة "فايزر" التي اختارت عدم الانتقال إلى عالم التكنولوجيا الحيوية الناشئ حديثاً في مطلع الألفية الجديدة، وفضّلت الاستفادة من براعتها في التسويق والتوزيع من خلال عمليات الاستحواذ على شركات "وارنر لامبرت" (Warner-Lambert) و"فارماسيا" (Pharmacia) و"وايث" (Wyeth). تؤدي الأصول القيّمة في مثل هذه الحالات، كسمعة العلامة التجارية والعلاقات طويلة الأمد والقدرة على الوصول إلى جميع أنحاء العالم، إلى تعزيز قيود الدخول إلى السوق وشل قدرة الشركات المنافسة على الحركة بصورة يصعب على المنافسين الجدد التغلب عليها.

التخندق. تستند هذه الخطوة الدفاعية إلى نقاط الضعف، وليس إلى نقاط القوة، حيث تستسلم الشركات القائمة للمنافسين الجدد وتستخدم مجموعة متنوعة من الأساليب لضمان استمرار بقائها في السوق. يتمثّل أحد هذه الأساليب في التكتُّل من خلال عمليات الاندماج والاستحواذ، وعادةً ما يجري اتباع هذا الأسلوب في القطاعات التي تشهد تراجعاً ملحوظاً. على سبيل المثال: وافقت شركتا "كونيكا" (Konica) و"مينولتا" (Minolta) لصناعة كاميرات التصوير على الاندماج عام 2003 عندما واجهتا النمو السريع لسوق الكاميرات الرقمية، وهو ما نلاحظه أيضاً في مجال البنية التحتية للهاتف المحمول، حينما أقدمت شركة "نوكيا سيمنز نتووركس" (Nokia Siemens Networks) على شراء شركة "ألكاتيل-لوسنت" (Alcatel-Lucent) عام 2016 للتصدي للنمو السريع لشركة "هواوي" في مجال شبكات الجيل الرابع. ثمة أسلوب آخر يتمثّل في طلب المساعدة من الحكومة والجهات التنظيمية والتشريعية لوضع قيود إضافية على المنافسين الجدد. وقد لجأت شركات سيارات الأجرة إلى هذا الأسلوب عندما ظهرت "أوبر" لأول مرة في أسواقها، ويعمل الكثير من البنوك اليوم مع البنوك المركزية وواضعي السياسات لتقنين أوضاع العملات المشفرة. وإذا نظرنا إلى الأمر من منظور القوى الخمس، فسنجد أن التخندق هو إحدى وسائل الشركات القائمة لزيادة قدرتها على المساومة وتقليل التنافس في قطاعات عملها وتشديد قيود الدخول إلى السوق.

الابتعاد. تلجأ الشركات القائمة بكل بساطة هنا إلى البحث عن فرص جديدة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة "طمسون كوربوريشن" (Thomson Corporation) في كندا التي باعت أعمالها الصحفية في التسعينيات واستثمرت في خدمات المعلومات من خلال الاندماج مع وكالة "رويترز". ثمة مثال آخر تقدمه لنا شركة "فوجي فيلم" التي كانت ذات يوم أكبر منافس لشركة "كوداك"، ولكنها الآن شركة ناجحة في مجال الرعاية الصحية والتصوير بالأشعة والمستلزمات الطبية. وإن دّل هذان المثالان على شيء فإنما يدلان على التفكير في "الخيارات الحقيقية"، حيث تعيد الشركة توظيف كفاءاتها الحالية في أسواق جديدة (كما حدث مع شركة "طمسون" في مجال خدمات المعلومات وشركة "فوجي" في مجال الكيماويات).

أيٌّ من هذه الأساليب يجب اتباعه في شركتك؟ يتوقف هذا على ظروفك الخاصة. على سبيل المثال: أثبتت دراسة حديثة أجراها جيمس بيسن وإريك دنك وجو وون كيم وسيزار ريغي أنه إذا كانت لديك أصول قوية لا تزال موضع تقدير في السوق، فمن المرجح أن يُفلِح معك أسلوب استغلال نقاط قوة استراتيجيتك الحالية. أمّا إذا كانت الرقمنة تمثل تهديداً لن تستطيع مواجهته، فربما يكون أسلوب الابتعاد والانتقال إلى مجالات جديدة يمكن الدفاع عنها هو الخيار الأذكى. ولكلٍّ من هذه الاستراتيجيات فوائده ومخاطره أيضاً. (انظر الشكل التوضيحي: "4 طرق للاستجابة للزعزعة").

هل يمكنك اتباع الأساليب الأربعة كلها في الوقت نفسه؟ يبدو هذا منطقياً إلى حدٍّ ما. فعندما تظهر ‎تكنولوجيا حديثة أو شركة ناشئة منافسة لأول مرة، فلا بد من فهم السياق العام وإجراء بعض التحليلات الدقيقة ودراسة كافة الخيارات المتاحة. ولك أن تنظر مثلاً إلى استجابة بنك "جيه بي مورغان" لظهور العملة المشفرة، فقد هاجمها البنك في العلن، في الوقت الذي انضم فيه إلى اتحاد مصرفي لبحث آفاقها، ثم ما لبث أن استثمر فيها مباشرة. أو انظر مثلاً إلى موقف شركة "فيات كرايسلر" (Fiat Chrysler) من السيارات الكهربائية والسيارات ذاتية القيادة، فقد لجأت الشركة إلى الدخول في شراكة مع شركتي "أورورا" (Aurora) و"وايمو" (Waymo) الناشئتين وتشكيل اتحاد مع شركات "بي إم دبليو" و"إنتل" و"موبيل آي" (Mobileye) بينما تسعى أيضاً إلى الاندماج الكامل مع مجموعة "بي إس أيه" (PSA) الفرنسية. ومن المنطقي أن تحتاط لكل الاحتمالات في الظروف المشوبة بحالة من الغموض الكثيف،

لكن يجب أن تتخلص في النهاية من حالة التردد. فالاستراتيجية بحكم تعريفها هي التزام بمسار عمل محدَّد والتخلي عن باقي الخيارات، وقد يكون الفشل في اتخاذ قرار حاسم سلوكاً مدمِّراً. وهذا هو ما حدث في "كوداك". فعندما ظهرت تكنولوجيا التصوير الرقمي وأثبتت نجاحها، كان من الممكن أن تتخندق الشركة حول أعمالها التجارية المتدهورة، وإن كانت مربحة، في مجال الصور والأفلام (ومنح المساهمين أرباحاً لعقد آخر من الزمان) أو أن تقتحم مجال التصوير الرقمي، أو أن تحاكي شركة "فوجي" وتبحث عن مجال عمل جديد. ولكن رؤساءها التنفيذيين المتعاقبين فضَّلوا بدلاً من ذلك تجربة شيء من كل شيء، ما أدى إلى إرباك العملاء والتعجيل باحتضار الشركة.

وتقدم سلسلة متاجر "دبليو آتش سميث" (WHSmith) لبيع الكتب والتجهيزات القرطاسية في المملكة المتحدة دراسة حالة مثيرة للاهتمام. فقد واجهت الشركة في مطلع الألفية الجديدة المخاطر ذاتها التي واجهتها العلامات التجارية الأخرى، من عدم وجود وسيط عبر الإنترنت. كان من الممكن أن تحاول الشركة تأسيس عمل تجاري جديد عبر الإنترنت، وقد درست هذه الفرصة بعناية، لكنها اختارت استغلال نقاط قوتها في مجال البيع بالتجزئة. وفصلت الشركة بين توزيع الصحف وأعمال البيع بالتجزئة، وركّزت على الأماكن التي تشهد ازدحاماً شديداً، مثل المطارات ومحطات القطار بالنسبة للأخيرة، وزادت مبيعات الشوكولاتة والمياه المعبأة ذات هوامش الرابح العالية. واستطاعت في النهاية زيادة الأرباح لمدة 10 سنوات متتالية، حتى في السنوات التي تقلص فيها إجمالي الإيرادات، قبل الركود الناتج عن تفشي فيروس "كوفيد-19" عام 2020.

وأود أن أضيف هنا نقطتين مهمتين: أولاً: أياً كان الخيار الذي تفضل اتخاذه، فيجب أن تعتمد التكنولوجيا الرقمية لتحسين الفاعلية التشغيلية. على سبيل المثال: تمتلك شركة "إنيل" (Enel) العالمية للمرافق وحدة "إنيل إكس" (Enel X) التي تهتم بتجربة نماذج عمل جديدة (مثل إدارة الطلب وشحن بطاريات السيارات الكهربائية) التي قد تثبت قدرتها على تحقيق معدلات نمو هائلة، ولكنها تمثل حالياً أقل من 2% من إيرادات الشركة الأم. ويركّز باقي العاملين في شركة "إنيل" على تحسين الأعمال الحالية وتزويد ما يقرب من 72 مليون عميل بخدمة عالية الجودة. وبالتوازي مع ذلك، فقد تم تعزيز عملياتها من خلال التحول الرقمي خلف الكواليس، بما في ذلك التوسع في استخدام التكنولوجيا الحديثة في مصانعها وشبكات التوزيع وإعادة هيكلة بنيتها التحتية وعملياتها الداخلية.

ثانياً: يرسل كل من هذه الأساليب رسالة مختلفة تماماً إلى أصحاب المصلحة باختلاف مشاربهم، ويعد التخندق على وجه الخصوص وسيلة يصعب تسويقها للغير وإقناعهم بها. (فالرئيس التنفيذي الذي يقول: "نرى أن هذه التكنولوجيا الجديدة قادمة بقوة، لكننا لسنا قادرين على الاستجابة لها، لذلك سنتخندق حول قاعدتنا التقليدية الآخذة في التدهور" لن يستمر في منصبه لفترة طويلة من الزمن). لذا حتى إذا اخترت هذا المسار، فقد تحتاج شركتك أيضاً إلى تقديم ولو برهاناً صغيراً على قدرتها على الرد بالمثل أو استغلال نقاط قوتها. وهذا هو ما يفعله الكثير من أكبر بنوك الخدمات المصرفية للأفراد الآن: فهي تتحدث عن مسرعات أعمال الشركات الناشئة داخلياً واستثماراتها الموجَّهة إلى المشاريع الاستثمارية المشتركة، لكنها تحرص خلف الكواليس على تحمل التكاليف وبيع خطوط أعمالها الأكثر تضرراً وممارسة الضغوط على الجهات التنظيمية والتشريعية لإبعاد شركات التكنولوجيا المالية عن السوق.

اختيار طريقك

ثمة دروس واضحة ومباشرة يجب أن يستفيدها قادة الشركات من هذا التحليل.

أولاً: لا تحاول التعميم استناداً إلى الأمثلة القائمة على النوادر والعجائب. فالجميع يعرفون ما حدث لشركتيّ "كوداك" و"بلوك باستر"، ويمكننا التعلم من قصتيهما، لكنها قصص نادرة الحدوث. وقد شهدت قطاعات التكنولوجيا والإعلام والبيع بالتجزئة بعض الفوضى الخلاقة، في حين لم تشهد كافة القطاعات الرئيسية الأخرى فوضى خلاقة بهذه القوة، وذلك بفضل مجموعة من قيود الدخول إلى السوق، بما في ذلك ارتفاع تكاليف التحويل ووفورات الحجم والعلاقات الوطيدة والقوانين التنظيمية. ومن المهم ألا نكتفي بفهم منطق الابتكار المزعزع، بل لا بد أيضاً من فهم أساسيات هيكل القطاع وميزته التنافسية.

ثانياً: القدرة على إصدار أحكام حصيفة تهزم جنون العظمة. وقد اعتاد الراحل آندي غروف أن يقول إن المصاب بجنون العظمة هو الوحيد القادر على النجاة، وكانت تلك طريقته في إبقاء الجميع على أهبة الاستعداد للمخاطر المرتقبة. لكن للأسف لم يساعد ذلك شركة "إنتل" على مواكبة النمو المتسارع في معالِجات الهواتف الذكية في مطلع الألفية الجديدة. والأهم من ذلك أن التركيز على الزعزعة قد يوقعك في المشاكل، لأنك عندما تركز بشدة على مخاطر التلكؤ في استخدام ‎تكنولوجيا جديدة، فسوف تتجاهل الخطر الأكبر المحتمل الناجم عن التحرك بأسرع من اللازم. وهناك الكثير من الأمثلة في هذا الصدد: فقد تكبَّدت شركة "إيلي ليلي" (Eli Lilly) خسائر بقيمة 300 مليون دولار تقريباً بعد اقتحامها المبكر لمجال التكنولوجيا الحيوية واستحواذها على شركة "هايبر تك" (Hybritech) عام 1986. وطرحت شركة "جنرال موتورز" أول سيارة كهربائية بكميات كبيرة، باسم "إي في 1" (EV1)، في أواخر التسعينيات، لكنها توقفت عن إنتاجها في مطلع الألفية الجديدة بعد إنفاق ما يقرب من مليار دولار. واقتحمت شركة "بي بي" مجال مصادر الطاقة المتجددة في مرحلة مبكرة، لكنها ما لبثت أن أوصدت أبواب وحداتها العاملة في مجال الطاقة البديلة عام 2011. وهناك أيضاً اندماج شركة "تايم وارنر" المشؤوم مع شركة "أيه أو إل" الذي أدى إلى تكبّدها خسائر بقيمة 54 مليار دولار. ومن ثم فإنك بحاجة إلى التفكير ملياً في هذين التصورين العالميين: احتمالية تعرّض شركتك للزعزعة واحتمال عدم حدوث ذلك من الأساس. وسيساعدك هذا على اتخاذ قرارات أكثر حصافة.

وأخيراً، خذ ما يكفي من الوقت لاتخاذ القرار الصحيح. فعادة ما تشعر الشركات بآثار التكنولوجيا الجديدة بعد عقود من الزمان، وليس سنوات، وينتهي الأمر بأغلبية شركات التكنولوجيا المزعزعة (والمؤسسات التي تقف وراءها) بالتعايش مع نظيراتها القائمة. ولا يزال قطاع الصحافة في حالة تغيُّر مستمر بعد 25 عاماً، في ظل تعايش النسخ الورقية والإلكترونية جنباً إلى جنب. وتم الترويج للتكنولوجيا الحيوية باعتبارها تكنولوجيا ستُحدث زعزعة محتملة في وقت مبكر من ثمانينيات القرن الماضي، ولكن الأدوية التي تنتجها لم تلق رواجاً إلا في العقد الثاني من الألفية الجديدة (والكثير منها من صنع كبرى شركات الأدوية التقليدية). لذا، عليك أن تتحلى بسياسة النفس الطويل ولا تتعجّل الأمور: توخَّ أقصى درجات الحيطة والحذر، وخطّط لمختلف السيناريوهات، وكن سبّاقاً، وابحث عن استراتيجية التكيُّف التي تناسب احتياجات مؤسستك وقدراتها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي