أعلن نائب الرئيس الأميركي مايك بنس بشكل غير رسمي أنّ الولايات المتحدة تخوض نوعاً من أنواع الحرب التجارية الباردة مع الصين. فبعد أن ضاقت ذرعاً بالتجسس الصناعي من جانب بكين وتلاعبها في السوق وهجماتها السيبرانية على الغرب، بجانب تسلطها على جيرانها وقمعها لمواطنيها في الداخل، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة من الخطوات القوية للرد.
ونظراً إلى أنّ الصينيين يعتقدون أنّ وقتهم على المسرح العالمي قد حان، فمن غير المرجح أنهم سيتراجعون في أي وقت قريب، وهذا يسبب مشكلة للمصنعين الأميركيين مع سلاسل التوريد العالمية. ومما لا شك فيه أنّ هذه الحرب التجارية ستسرع من عملية إعادة إنتاج المواد التي يجري الحصول عليها الآن من الصين في الداخل الأميركي. ولما كانت الشركات تعيد التفكير في سلاسل التوريد الخاصة بها، عليها أن تفكر جدياً في تبني تقنية تصنيع جديدة جاهزة للانطلاق وهي الطباعة ثلاثية الأبعاد.
تتجه الطباعة ثلاثية الأبعاد (ويُطلق عليها أيضاً التصنيع التجميعي) نحو الإنتاج الضخم الشامل، حيث نجحت الشركات المصنعة للطابعات في حل مجموعة متنوعة من المشكلات المتعلقة بالجودة والتكلفة والسرعة إلى حد منافسة المصنعين التقليديين من خلال إنتاج أعداد ضخمة تصل إلى عشرات أو حتى مئات الآلاف من الوحدات.
وهذا الكلام صحيح فعلاً حتى عندما لا ينتج مصنع الطابعات ثلاثية الأبعاد الواحد سوى بضع مئات من الوحدات، لأنه لن يعتمد بصورة أساسية على اقتصادات الحجم الكبير. وستبلغ تكلفة القطع التي تُصنع في المصانع الأميركية الصغيرة التكلفة ذاتها لتلك القطع التي تُصنع في المصانع الآسيوية العملاقة، وخاصة أنّ الطابعات الآلية تتطلب عمالة أقل خلافاً لعمليات الإنتاج التقليدية. لذلك تُعد الطباعة ثلاثية الأبعاد مصممة خصيصاً لإعادة الإنتاج إلى الوطن ليكون المنتج أقرب للعملاء. هذا لا يقلل مخاطر سلاسل التوريد فحسب، بل يضعف مزايا الصين في التصنيع.
ويعتمد الجيش الأميركي بالفعل على التصنيع التجميعي بصفته طريقة أسرع لإمداد قطع الغيار إلى المواقع النائية وتصنيع طائرات مقاتلة خفيفة الوزن وعالية الأداء. وعلى نطاق أوسع، أسست إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما المركز الوطني للابتكار في التصنيع التجميعي (أميركا تصنّع)، وهو برنامج دعم تقني في مدينة يانغتاون بولاية أوهايو الأميركية. لكن إدارة ترامب تسعى إلى تكثيف هذه الجهود من خلال الإعفاءات الضريبية والإعانات المباشرة التي تعيد سلاسل التوريد العسكرية إلى الوطن.
ستكون هذه الإعانات مهمة ليعتاد المصنعون على التقنية الجديدة وسيستغرق الأمر بعض الوقت والجهد، إذ يتطلب التصنيع التجميعي منحنى تعلم عالياً بالنسبة للمهندسين الذين اعتادوا العمل على خطوط التجميع التقليدية، ويجب اختبار كل قطعة جيداً للتأكد من قدرتها على تحمل ظروف الحرب التجارية.
واجتاز التصنيع التجميعي لتوه اختباراً كبيراً عندما اعتمدت شركة جنرال إلكتريك الأميركية قطعاً لاستخدامها في محركات جي إي إن إكس (GEnx) الجديدة لطائرات بوينغ 747. وإذا كانت القطع التي أُنتجت بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد يمكنها تحمل قوة الدفع النفاث، فبالتالي يمكنها تلبية أي احتياج عسكري.
اقرأ أيضاً: أميركا تقف أمام سيطرة الصين على الذكاء الاصطناعي، بشكل قد يخدم الصين نفسها.
سيظل تسريع الاعتماد على التصنيع التجميعي استثماراً صعباً، حتى مع إعانات البنتاغون. لكن من المرجح أن تجني الشركات التي تنفذ الاستثمار الأولي مكاسب أكبر فيما بعد. وكما وصفت في كتابي "قواعد الطباعة ثلاثية الأبعاد" (The 3-D Printing Playbook)، سيزداد العائد الناتج عن التصنيع التجميعي بمرور الوقت. ستجدد المؤسسات عملياتها بشكل تدريجي للاستفادة من مرونة التصنيع التجميعي وتعدد استخداماته خارج حدود المصنع، بدءاً من تصميم المنتج ووصولاً إلى التواصل مع العملاء، وسيحوّل التصنيع التجميعي أي مؤسسة إلى مؤسسة رقمية بالكامل وشديدة الاستجابة لاتجاهات السوق.
ويمكن للشركات التي تتحرك بشكل أسرع أن تكون رائدة المرحلة المقبلة من التصنيع التجميعي. ونظراً إلى أنّ الطابعات ثلاثية الأبعاد متعددة الاستخدامات، فيمكنها الانتقال من تصنيع أحد أنواع المنتجات إلى نوع آخر في أقل وقت وبأبسط تكلفة. وهذا يعني أنّ الشركات يمكنها الانتقال من مصانع تعمل في قطاع واحد إلى مصانع تنتج منتجات في عدة قطاعات. وإذا كان الطلب في إحدى القطاعات الصناعية بطيئاً، فيمكن للشركة تحويل بعض الطابعات إلى صناعات رائجة، وبالتالي تحافظ على أقصى استفادة من طاقة المصنع الإنتاجية.
وحالما تطوّر المصانع البرمجيات لتنسيق هذه العمليات متعددة الصناعات وتحسينها، سنشهد ظهور الشركات الصناعية الشاملة. قد تبدو هذه الشركات العملاقة من الخارج مثل التكتلات، لكن من الداخل ستحقق هذه الشركات بفضل التكامل الرقمي الممكن من خلال التصنيع التجميعي مجموعة متنوعة من أوجه التآزر بين الأقسام. تخيلوا أنّ هناك شركة صناعات معدنية شاملة تصنع الطائرات من دون طيار والسيارات العسكرية ومدافع هاون.
وبمجرد أن تتقن أي شركة صناعية شاملة استخدام برمجيات التكامل الخاصة بها، فمن المرجح أن تنشئ منصة برمجيات للموردين والموزعين للانضمام إليها. هذه هي الطريقة الوحيدة لتحسين سلسلة القيمة حول التصنيع التجميعي بشكل كامل. ومثلما نتعلم من جوجل وغيرها من شركات البرمجيات العملاقة فإنه كلما زاد عدد الشركات التي تمتلكها في المنصة الخاصة بك، كانت المنصة أقوى. ويمكن للشركات الصناعية الشاملة في نهاية المطاف أن تنشئ أنظمة بيئية مهيمنة بالاعتماد على منصات التكامل الخاصة بها.
وفي نهاية الحديث عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، من المرجح أن تسعى الصناعات الأخرى، بجانب الصناعات الدفاعية، إلى إعادة الإنتاج للوطن القائم على التصنيع التجميعي والتصنيع الشامل. إذ تعمل شركة المقاولات الأميركية العملاقة "جابيل" (Jabil) على شراء العديد من الطابعات ودمجها في منصتها المتطورة لبرمجيات سلسلة التوريد. وحتى ما قبل الانخفاض الكبير في ثروات الشركة الذي سبب اضطرابات في قيادتها، كانت شركة جنرال إلكتريك تحرز تقدماً في هذا الصدد أيضاً.
لن تشارك الصناعات الدفاعية وحدها في مهمة توسيع حدود التصنيع التجميعي، لكنها قد تتحمل القدر الأكبر من الاهتمام فحسب.
اقرأ أيضاً: المفاهيم الغربية الخاطئة عن الصين.