المفاهيم الغربية الخاطئة عن الصين

16 دقيقة
فهم الصين
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ثلاثة تصورات جوهرية خاطئة تساعدنا على فهم الصين بشكل أكبر.

عندما سافرنا إلى الصين للمرة الأولى في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت تختلف اختلافاً جذرياً عما نراه اليوم. فحتى في بكين، كان العديد من الناس يرتدون بدلات ماو ويتحركون على دراجاتهم الهوائية في كل مكان؛ ولم يكن أحد يستعمل السيارات إلا كبار مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني. وفي الريف، كانت الحياة لا تزال تحتفظ بالكثير من طابعها التقليدي. ولكن في غضون السنوات الثلاثين التالية، وبفضل السياسات الهادفة إلى تطوير الاقتصاد وزيادة الاستثمارات الرأسمالية، بزغت الصين كقوة عالمية لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم يضم طبقة وسطى آخذة بالازدهار وتوّاقة إلى الإنفاق.

لكن شيئاً وحيداً لم يتغيّر رغم ذلك. فالعديد من السياسيين والتنفيذيين في قطاع الأعمال في الغرب ما زالوا غير قادرين على فهم الصين. فنظراً لإيمانهم أن الحرية السياسية ستتبع الحريات الاقتصادية الجديدة، على سبيل المثال، افترضوا مخطئين أن الإنترنت في الصين ستكون مشابهة للنسخة التي طوّرها الغرب، من حيث اتصافها بالحرية وتسببها بالزعزعة السياسية في غالب الأحيان. وبما أن العديدين منهم يؤمنون أن النمو الاقتصادي في الصين يجب أن يُبنى على ذات الأسس التي يستند إليها النمو الاقتصادي في الغرب، فقد أخفقوا في تصوّر استمرار أداء الدولة الصينية لدور المستثمر، والجهة الناظمة، ومالك الحقوق الفكرية.

فلماذا يُمعن القادة الغربيون في فهم الصين على غير حقيقتها؟ توصّلنا من خلال عملنا إلى أن الناس في عالمي الأعمال والسياسة غالباً ما يتشبثون بثلاثة افتراضات منتشرة على نطاق واسع حول الصين الحديثة لكنها زائفة. وكما سنحاجج في الفقرات التالية، فإن هذه الافتراضات تعكس فجوات موجودة في معرفتهم بتاريخ الصين وثقافتها ولغتها، وهي تشجعهم على استخلاص مقارنات مُقنعة تماماً بين الصين والدول الأخرى وإن كانت هذه المقارنات مليئة بالعيوب.

المغالطة الأولى: الاقتصاد والديمقراطية وجهان لعملة واحدة

يفترض العديد من الغربيين أن الصين تسير في ذات المسار التنموي الذي مضت فيه اليابان، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة – وأن الفرق الوحيد يكمن في أن الصين قد بدأت في وقت متأخر جداً بالمقارنة مع الاقتصادات الآسيوية الأخرى كالاقتصادين الكوري الجنوبي والماليزي، بعد انعطافة ماوية دامت 40 عاماً. وبحسب وجهة النظر هذه، فإن النمو الاقتصادي والازدهار المتنامي سيدفعان الصين باتجاه نموذج أكثر ليبرالية في الاقتصاد والسياسة، تماماً كما حصل مع تلك الدول.

هذه سردية معقولة. فكما أشار المؤلف يوفال نوح هراري، فإن الليبرالية لم تواجه منافسين كثيرين منذ نهاية الحرب الباردة، عندما بدا أن الفاشية والشيوعية قد مُنيتا بالهزيمة. وقد حظيت هذه السردية ببعض الداعمين الأقوياء. ففي خطاب ألقاه الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عام 2000 أعلن قائلاً: “بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، فإنها لا توافق على استيراد المزيد من بضائعنا ببساطة، وإنما هي تواقة لاستيراد أهم قيمة تحتفي بها ديمقراطيتنا ألا وهي “الحرية الاقتصادية”. فعندما يمتلك الأفراد القدرة … على تحقيق أحلامهم، فإنهم سيطالبون بمساحة أكبر للتعبير عن رأيهم”.

لكن هذه الحجة تتغاضى عن فروقات جوهرية بين الصين وكل من الولايات المتحدة الأميركية، واليابان، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا. فهذه الدول كانت منذ عام 1945 ديمقراطيات تعددية ذات أنظمة قضائية مستقلة. ونتيجة لذلك، فإن النمو الاقتصادي جاء مترادفاً مع التقدم الاجتماعي (عبر تشريعات تحمي الخيارات الفردية وحقوق الأقليات، على سبيل المثال) ما سهّل تخيّل أنهما وجهان لعملة واحدة. وبدا أن انهيار اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية قد أثبت صحة هذا المعتقد نظراً إلى أن عدم قدرة النظام السوفيتي على تحقيق النمو الاقتصادي لمواطنيه قد أسهم في انهياره. فاندماج روسيا في نهاية المطاف في الاقتصاد العالمي (البيروسترويكا) جاء بعد إصلاحات ميخائيل غورباتشوف السياسية (الغلاسنوست).

أما في الصين، فإن النمو يأتي في سياق الحكم الشيوعي المستقر، ما يشير إلى أن الديمقراطية والنمو ليسا أمرين معتمدين على بعضهما البعض في نهاية المطاف. لا بل في واقع الأمر، يؤمن الكثير من الصينيين أن الإنجازات الاقتصادية الأخيرة لبلدهم، مثل تخفيض الفقر على نطاق واسع، والاستثمارات في البنية التحتية الضخمة، وتطور الصين كبلد مبتكر من الطراز الرفيع في مجال التكنولوجيا – قد تحققت بسبب طبيعة الحكم الاستبدادي في الصين وليس بالرغم منها. كما أن معالجتها المتشددة لجائحة كوفيد-19 – في مفارقة حادة مع تعامل العديد من الدول الغربية التي سجّلت معدلات وفيات أعلى معها وهي لجأت لاحقاً إلى اتخاذ تدابير إغلاق عام أقل صرامة – إذا كانت تثبت من شيء فهي تثبت وجهة النظر تلك وتعزّزها.

وتمكنت الصين أيضاً من تحدي التنبؤات التي أشارت إلى أن نظامها الاستبدادي سيحد من قدرتها على الابتكار. فهي دولة رائدة على مستوى العالم في الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، واستكشاف الفضاء. وبعض نجاحاتها التكنولوجية كانت مدفوعة بقوى السوق، حيث أراد الناس شراء السلع أو التواصل بسهولة أكبر، وهذا بالضبط ما ساعدتهم شركات مثل على بابا وتينسنت على فعله. لكن معظم التقدم التكنولوجي تحقق بسبب جيش شديد الابتكار ويحظى بالتمويل الجيد كان قد استثمر استثماراً هائلاً في الصناعات الجديدة الناشئة في الصين. وهذا بطبيعة الحال يطابق الدور الذي أداه الإنفاق الدفاعي والاستخباراتي الأميركي في تطوير وادي السيليكون. أما في الصين فإن التطبيقات العملية الاستهلاكية جاءت أسرع، بحيث أوضحت بجلاء أكبر الرابط الموجود بين الاستثمارات الحكومية والمنتجات والخدمات التي تنفع الأفراد. وهذا هو السبب الذي يجعل المواطنين الصينيين العاديين يرون في الشركات الصينية مثل علي بابا وهواوي وتيك توك مدعاة للفخر الوطني، فهم يعتبرونها عناصر طليعية عالمية تمثل النجاح الصيني ولا يرون فيها مجرّد شركات توفر فرص عمل أو تغذي الناتج المحلي الإجمالي، كما قد يُنظَر إلى هذه الشركات في الغرب.

وهكذا كشفت بيانات استطلاع للرأي في يوليو/ تموز 2020 من مركز آش في كلية هارفارد كينيدي للإدارة الحكومية أن نسبة رضا المواطنين الصينيين عن حكومة بكين تبلغ 95%. وتؤكد خبراتنا الميدانية نحن الاثنين هذا الأمر. فمعظم الناس العاديين الذين نلتقيهم لا يشعرون أن الدولة الاستبدادية قمعية فقط، وإن كان بمقدورها أن تكون كذلك، فبالنسبة لهم هي تمنح أيضاً فرصة. فهناك عامل تنظيفات في تشونغ كينغ يمتلك الآن عدة شقق لأن الحزب الشيوعي الصيني أصلح القوانين العقارية. وثمة صحفية من شنغهاي تقبض الأموال من مجلتها الواقعة تحت سيطرة الدولة لكي تطير إلى أنحاء العالم بحثاً عن اتجاهات الموضة العالمية. وهناك طالب شاب في نانجينغ قادر على دراسة فيزياء قوة الدفع في جامعة تسينغهاو في بكين بفضل الحركية الاجتماعية والاستثمارات الهائلة التي ضخها الحزب في البحث العلمي.

إذا كان العقد الماضي قد فعل شيئاً، فهو أنه قد عزّز وجهة نظر القادة الصينيين القائلة بإمكانية تحقيق الإصلاح الاقتصادي دون اتّباع سياسات ليبرالية. وكانت هناك نقطة تحول أساسية حصلت خلال الأزمة المالية في عام 2008، حيث كشفت هذه الأزمة في عيون الصينيين خِواء “توافق الآراء في واشنطن” على وجود ترابط بين نشر الديمقراطية والنجاح الاقتصادي. وفي السنوات التي مرّت منذ ذلك الوقت، أصبحت الصين عملاقاً اقتصادياً ودولة رائدة على مستوى العالم في الابتكار التكنولوجي، وقوى عظمى عسكرية، وكل ذلك حصل في وقت كانت الصين تشدد نظام حكمها الاستبدادي وتعزز الاعتقاد القائل إن السردية الليبرالية لا تنطبق على الصين. وهذا ربما ما جعل رئيسها الحالي، والأهم من ذلك الأمين العام للحزب، شي جين بينغ، يُعلن موقفه الواضح من أنه يعتبر غورباتشوف خائناً للقضية بسبب انتهاجه لليبرالية التي سار فيها، ما أدى إلى إنهاء سيطرة الحزب الشيوعي على اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وعندما أعلن شي في 2017 أن تنمية الصين تقتضي “خوض ثلاث معارك أساسية” في مجالات تخفيض المخاطر المالية، ومعالجة مشكلة التلوث، والتخفيف من الفقر، أوضح أيضاً أن الهدف من هذه الإصلاحات يتمثل في تمتين النظام عوضاً عن تغييره. وبالتالي فالحقيقة هي أن الصين ليست دولة استبدادية تسعى إلى تبنّي المزيد من الليبرالية، وإنما دولة استبدادية تسعى إلى أن تكون أنجح على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في معظم التحليلات الغربية، أكثر صفة تُستعمل لوصف الإصلاحات في الصين هي “الجمود”. لكن الحقيقة هي أن الإصلاح السياسي في الصين لم يُصَبْ بالجمود. وإنما كل ما في الأمر هو أن هذا الإصلاح ليس إصلاحاً ليبرالياً. أحد الأمثلة على ذلك هو ما حصل في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة عند إعادة إطلاق الهيئة المركزية لفحص الانضباط بحلّة جديدة. فهذه الهيئة التي تحظى بالدعم والتمكين من الرئيس شي للتعامل مع الفساد الذي تفشّى تفشياً كبيراً في مطلع ذلك العقد، قادرة على اعتقال المشتبه بهم والاحتفاظ بهم لعدة أشهر، ولا يمكن لأي هيئة ثانية في الصين إلغاء هذا القرار، ولا حتى المحكمة الدستورية العليا. وقد نجحت الهيئة في التقليل من الفساد، ويعود نجاحها في هذه المهمة إلى حد كبير إلى أنها عملياً فوق القانون – وهذا شيء لا يمكن تصوّره في ديمقراطية ليبرالية. هذه هي الإصلاحات التي تطبّقها الصين – ولا بدّ من فهمها بهذه الشروط وليس بوصفها ببساطة نسخة مشوهة أو ناقصة من نموذج ليبرالي.

قد يكون واحد من الأسباب التي جعلت العديد من الناس يُخطئ في قراءة مسار الصين (وبالتالي يخطئ في فهم الصين) – وتحديداً في المواد الترويجية التي يستعملها الصينيون في الخارج باللغة الإنكليزية – هو أن البلد يميل إلى تصوير نفسه على أنه إحدى تنويعات الدولة الليبرالية، وبالتالي فهو جدير بالثقة. وهو غالباً ما يقارن نفسه بالأسماء والعلامات التجارية المألوفة بالنسبة للغربيين. فعلى سبيل المثال، عندما حاولت هواوي إقناع الناس بضرورة انخراطها في نشر البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس (5 جي) في المملكة المتحدة، شبّهت نفسها بـ “جون لويس الصينية”، في إشارة إلى سلسلة متاجر بريطانية تصنّف على أنها واحد من أكثر العلامات التجارية البريطانية موثوقية. وغالباً ما تعاني الصين وهي تحاول أن توحي للحكومات الأجنبية أو المستثمرين الأجانب أنها مشابهة للغرب في جوانب عديدة مثل أساليب الحياة، والسفر لأغراض الترفيه، والطلب العالي على التعليم العالي ما بعد الثانوي. هذه نقاط تشابه حقيقية، لكنها مجرّد تجليات للثروة والطموحات الشخصية للطبقة الوسطى المترفة المتشكلة حديثاً في الصين، وهي لا تنفي بأي شكل من الأشكال الفروقات الحقيقية جداً الموجودة بين النظام السياسي الصيني ونظرائه في الغرب.

وهذا ينقلنا إلى المغالطة الثانية.

يؤمن الكثير من الصينيين أن الإنجازات الاقتصادية الأخيرة لبلدهم قد تحققت بسبب طبيعة الحكم الاستبدادي في الصين وليس بالرغم منها.

المغالطة الثانية: النظام السياسي الاستبدادي لا يمكن أن يحظى بالشرعية

لا يكتفي الكثير من الصينيين بعدم الإيمان بضرورة الديمقراطية للنجاح الاقتصادي فحسب، وإنما هم يؤمنون أن شكل حكومتهم شرعي وفاعل. ويفسّرُ فشلُ الغربيين في استيعاب هذا الأمر السببَ الذي يجعل العديدين منهم يظلون يتوقعون من الصين أن تقلّص دورها كمستثمر، وجهة ناظمة، وتحديداً، كمالكة لحقوق الملكية الفكرية، في حين تنظر الحكومة الصينية في واقع الأمر إلى هذا الدور بوصفه دوراً أساسياً.

ومجدداً فإن جزءاً من مشروعية النظام في أعين الصينيين يستمد جذوره من التاريخ. فلطالما اضطرت الصين في أغلب الأحيان إلى التصدي للغزاة، وهي حاربت أساساً لوحدها ضد اليابان بين عامي 1937 و1941، عندما دخلت الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية، وهي حقيقة نادراً ما يعترف بها الغرب. وقد تعزز النصر الناجم عن تلك المعركة، الذي تباهى الحزب الشيوعي الصيني لعقود من الزمن بتصويره على أنه كان نصره وحده في مواجهة هذا العدو الخارجي، بهزيمة عدو داخلي (تشيانغ كاي شيك في عام 1949)، ما رسّخ شرعيتي الحزب ونظامه الاستبدادي.

وبعد مرور 70 عاماً، يظل الكثير من الصينيين مقتنعين أن نظامهم السياسي يتمتع الآن فعلياً بمشروعية وفاعلية أكبر مقارنة بالنظم السياسية الغربية. وهذا اعتقاد غريب بالنسبة للعديد من التنفيذيين الغربيين، ولاسيما إذا كانت لديهم تجربة مع أنظمة استبدادية أخرى. ويكمن الفَرْقُ الجوهري في أن النظام الصيني ليس ماركسياً فحسب، وإنما هو ماركسي لينيني أيضاً. وبحسب تجربتنا، فإن العديد من الغربيين لا يفهمون معنى ذلك وسبب أهميته. فالنظام الماركسي معني بصورة أساسية بالنتائج الاقتصادية. ولهذا الأمر مضامين سياسية بطبيعة الحال – مثل الإيمان أن الملكية العامة للأصول ضرورية لضمان التوزيع العادل للثروة – لكن التركيز هنا ينصبّ على النتائج الاقتصادية. غير أن اللينينية من حيث جوهرها هي عقيدة سياسية لها غاية أساسية تتمثل في السيطرة. لذلك فإن النظام الماركسي اللينيني ليس معنياً بالنتائج الاقتصادية فحسب، وإنما مهتم أيضاً بكسب السيطرة على النظام بحد ذاته والمحافظة عليها.

لهذا الأمر تبعات هائلة على الناس الساعين إلى مزاولة الأعمال التجارية في الصين وفهم الصين فهماً صحيحاً. فلو كانت الصين معنية بالنتائج الاقتصادية فقط، لكانت رحّبت بقطاع الأعمال الأجنبي والمستثمرين الأجانب، ولكانت عاملتهم كشركاء متساوين، شريطة أن يساعدوا في تحقيق النمو الاقتصادي، متغاضية عمّن يمتلك حقوق الملكية الفكرية أو حصة الأغلبية في مشروع مشترك. لكن بما أن النظام الصيني هو نظام لينيني أيضاً، فإن هذه المسائل تحظى بأهمية كبيرة في نظر القادة الصينيين ولن يغيّروا رأيهم بشأنها، مهما كان شركاؤهم الأجانب فاعلين ومفيدين اقتصادياً.

يتّضح هذا الأمر في كل مرة تتفاوض فيها شركة غربية على الدخول إلى السوق الصينية. فقد شاركنا كلانا في اجتماعات عبّر فيها تنفيذيون في قطاع الأعمال، ولاسيما في قطاعي التكنولوجيا والصناعات الدوائية، عن دهشتهم من إصرار الصين على نقل ملكية حقوقهم في الملكية الفكرية إلى شركة صينية. وقد عبّر البعض عن تفاؤلهم من أن حاجة الصين إلى السيطرة سوف تتراجع بعد إثبات جدارتهم كشركاء. فماذا كان ردنا؟ هذا الأمر غير مرجح، وتحديداً لأن السيطرة في النموذج الاستبدادي الصيني عنصر أساسي.

كانت المقاربة اللينينية المتبعة في اختيار قادة المستقبل أيضاً طريقة حافظ بها الحزب الشيوعي الصيني على مشروعيته، لأن هذه المقاربة في نظر العديد من الصينيين العاديين تُنتِجُ قادة أكْفَاء نسبياً. فالحزب الشيوعي الصيني هو من يختارهم، وهم يتدرجون عبر النظام من خلال النجاح في إدارة بلدة أولاً ثم مقاطعة، وبعدها فقط يدخلون عضوية المكتب السياسي. وليس بوسعك أن تحتل مرتبة قيادية عليا في الصين دون إثبات جدارتك كمدير. يقول قادة الصين إن كتاب القواعد اللينينية يجعل السياسة الصينية تتصف بصورة أساسيةبقدر أقل من الاعتباطية أو المحاباة مقارنة مع ما هو عليه الحال في الدول الأخرى، ولاسيما الدول الغربية (وإن كان النظام لا يخلو من تبادل المنافع أو اتخاذ القرارات بطرق غير شفافة).

يظل الاطلاع على العقيدة اللينينية مهماً للمضي قُدُماً. فالدخول إلى الحزب الشيوعي الصيني وإلى الجامعة يشمل الخضوع لدورات إلزامية في الفكر الماركسي اللينيني، الذي أصبح جزءاً من الثقافة الشعبية، كما يتجلى في البرنامج الحواري التلفزيوني لعام 2018 “ماركس كان على حق” (Marx Got It Right). وبوجود تطبيقات هاتفية سهلة الاستعمال مثل تطبيق “شويشي تشيانغو” (وهو اسم يعني حرفياً “ادرس الأمة القوية” (Xuexi Qiangguo) أو قد يكون لعباً على كلمتي “ادرس شي” باللغة الصينية في إشارة إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ) لتعليم الأساسيات عن مفكرين مثل ماركس، ولينين، وماو، وشي جين بينغ، فإن التعليم السياسي بات الآن يدار بعقلية القرن الحادي والعشرين.

تتجلى الطبيعة اللينينية للسياسة أيضاً في اللغة المستعملة لمناقشتها. فالخطاب السياسي في الصين يظل راسخاً في الفكرتين الماركسيتين اللينينيتين: “الصراع” (douzheng) و”التناقض” (maodun) – وكلتاهما يُنظرُ إليهما على أنهما سمتان تفرضان تناقضاً ضرورياً لا بل صحياً يمكن أن يساعد في الوصول إلى نتيجة مظفّرة. في الحقيقة، الكلمة الصينية المستخدمة للتعبير عن حل النزاع (jiejue) يمكن أن تعني ضمناً نتيجة يتغلب فيها طرف على آخر، عوضاً عن نتيجة يكون فيها كلا الطرفين راضيين. ومن هنا جاءت النكتة القديمة القائلة إن سيناريو رابح – رابح (الذي يشير عادة إلى فوز الطرفين المعنيين معاً) هو السيناريو الذي تفوز فيه الصين مرتين.

تستعمل الصين نموذجها الاستبدادي الخاص – وشرعيتها المفترضة – لبناء الثقة مع شعبها بطرق وأساليب تُعتبرُ شديدة التسلط في ديمقراطية ليبرالية. فمدينة رونغتشينغ، مثلاً، تستعمل البيانات الضخمة (المتاحة للحكومة عبر عمليات الرصد والمراقبة وغير ذلك من البنى التحتية المخصصة لجمع البيانات) لمنح “رصيد اجتماعي” لكل فرد. وتستعمل علامات هذا الرصيد لمكافأة المواطنين ومعاقبتهم بحسب خصالهم السياسية والاقتصادية الحميدة أو السيئة. وثمة مكاسب مالية (مثل إمكانية الحصول على قروض رهن عقاري) واجتماعية (الإذن بشراء تذكرة على أحد القطارات الجديدة فائقة السرعة). وقد يجد الأشخاص ذوو “الرصيد الاجتماعي” المنخفض أنفسهم محرومين من شراء تذكرة طائرة. وبالنسبة لليبراليين (في الصين وفي أماكن أخرى)، هذا أمر مريع؛ أما بالنسبة للعديد من المواطنين العاديين في الصين، فإن هذا الأمر منطقي تماماً ويندرج في إطار العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة.

قد تبدو هذه الأفكار مختلفة تمام الاختلاف عن مفهومي “الإحسان” و”الانسجام” الكونفوشيين الظاهريين اللذين تقدمهما الصين إلى جمهورها الدولي الناطق بالإنجليزية. ولكن حتى هذين المفهومين يقودان إلى الكثير من سوء التفاهم في أوساط الغربيين الذين غالباً ما يختزلون الكونفوشية إلى أفكار ملطفة عن السلام والتعاون. ولكن بالنسبة للصينيين، المفتاح الأساسي للوصول إلى هذه النتائج هو احترام هرمية مناسبة هي بحد ذاتها وسيلة للسيطرة. ورغم أن التراتبية والمساواة قد تبدوان بالنسبة للغرب في عصر ما بعد التنوير مفهومين متضادين، إلا أنهما يظلان في الصين مفهومين متكاملين بطبيعتهما المتأصلة.

إدراك حقيقة أن النظام الماركسي اللينيني الاستبدادي مقبول في الصين على أنه ليس مشروعاً فحسب، بل وفاعل أيضاً هو أمر أساسي للغاية إذا ما أراد الغربيون اتخاذ قرارات بعيدة المدى وأكثر واقعية بخصوص كيفية التعامل مع بلد أو الاستثمار فيه. لكن الافتراض الثالث يمكن أن يكون مضللاً أيضاً لمن يسعون إلى الانخراط مع الصين.

المغالطة الثالثة: الصينيون يعيشون ويعملون ويستثمرون مثلما يعيش الغربيون ويعملون ويستثمرون

تاريخ الصين الحديث يعني أن الشعب والدولة الصينيين ينظران إلى القرارات من زاوية مختلفة تمام الاختلاف عن الزاوية التي ينظر منها الغربيون – سواء من حيث الأطر الزمنية التي يستعملونها أو المخاطر الأكثر شغلاً لبالهم. ولكن بما أن البشر يميلون إلى الاعتقاد أن البشر الآخرين يتخذون القرارات بطريقة مشابهة لطريقتهم، فإن ذلك قد يكون أكثر افتراض سيجد الغربيون صعوبة في التغلب عليه.

دعونا نتخيل التاريخ الشخصي لامرأة تبلغ من العمر 65 عاماً اليوم. فالسيدة المولودة في عام 1955 عاشت في طفولتها المجاعة الرهيبة خلال “القفزة الكبيرة إلى الأمام” التي مات فيها 20 مليون صيني جوعاً. وفي صباها كانت منخرطة ضمن صفوف الحرس الأحمر وتسبّح بحمد الزعيم ماو، في حين كان والداها يخضعان للتثقيف من جديد في معرِض تثقيفهما. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، كانت في صفوف أول جيل يعود إلى الجامعة، بل وحتى شاركت في مظاهرات ساحة تيان آن مين.

ثم في تسعينيات القرن الماضي، استفادت من الحريات الاقتصادية الجديدة لتصبح رائدة أعمال في الثلاثينيات من عمرها في واحدة من المناطق الاقتصادية الخاصة الجديدة. اشترت شقة – وهي المرة الأولى التي يمتلك فيها أي شخص في تاريخ عائلتها عقاراً. وبسبب توقها إلى خوض التجارب، حصلت على وظيفة كمحللة استثمارات لدى شركة أجنبية متخصصة بإدارة الأصول في شنغهاي، ولكن على الرغم من المسيرة المهنية البعيدة المدى التي حددها لها صاحب عملها، إلا أنها تركت الشركة لقاء زيادة على المدى القصير في راتبها لدى شركة منافسة. وبحلول عام 2008، كانت تحقق أقصى استفادة ممكنة من الزيادة في الدخل المتاح للإنفاق عبر شراء سلع استهلاكية جديدة كان والداها يحلمان فقط باقتنائها. وفي السنوات الأولى من الألفية الجديدة، بدأت بالتخفيف من نبرة تعليقاتها السياسية التي كانت تجاهر بها سابقاً على “ويبو” (Weibo) بعد تشديد الرقابة. وبحلول 2020، كانت حريصة على رؤية حفيدها البالغ من العمر سبع سنوات وحفيدتها الرضيعة (فإنجاب طفل ثان لم يصبح قانونياً إلا مؤخراً) ينجحان في حياتيهما.

ولو كانت قد وُلِدَت في عام 1955 في أي اقتصاد أساسي آخر تقريباً في العالم، لكان التنبؤ بمسار حياتها أسهل بأشواط. ولكن بالنظر إلى الخلف إلى قصة حياتها، يمكن للمرء أن يتفهم السبب الذي قد يجعل الكثير من الصينيين، ومنهم الشباب أيضاً، يشعرون اليوم بقدرة أقل على التنبؤ بالمستقبل أو بالثقة بما يخبئه لهم هذا المستقبل – أو بالخطوة التالية التي قد تُقْدِمُ عليها حكومتهم.

يرى حكّام الصين في التفاعل مع الأجانب مصدراً للتهديد، وعدم اليقين، لا بل والإذلال أكثر مما يرون فيه مصدراً للفرص.

عندما يكون من الصعب التنبؤ بمسار الحياة، أو إذا كانت الحياة الماضية المختزنة في الذاكرة من النوع الذي لم يكن بالإمكان التنبؤ به في المستقبل، فإن الناس يميلون إلى البدء باحتساب معدّل خصم أعلى على النتائج المحتملة على المدى البعيد مقارنة بالنتائج المحتملة على المدى القصير – ومعدّل أعلى بكثير من المعدل الذي يطبّقه الناس الذين يعيشون في مجتمعات أكثر استقراراً. هذا لا يعني أن هؤلاء الناس ليسوا قلقين بشأن المحصلات البعيدة المدى، وإنما يعني أن تحاشيهم للمجازفة يزداد ازدياداً كبيراً عندما يطول الإطار الزمني. وهذا يحدد الطريقة التي يصوغون بها التزاماتهم بعيدة المدى، ولاسيما الالتزامات التي تتضمن مقايضات أو خسائر على المدى القصير.

وبالتالي، فإن العديد من المستهلكين الصينيين يفضلون المكاسب التي يحققونها في البورصة على المدى القصير على وضع أموالهم في برامج للادخار على المدى البعيد. وكما تخبرنا أبحاث السوق باتساق فإن غالبية المستثمرين الأفراد الصينيين يتصرفون بطريقة أشبه بطريقة المتداولين. فعلى سبيل المثال، توصّل استطلاع للرأي في عام 2015 إلى أن 81% منهم يتداولون مرة واحدة شهرياً على الأقل، رغم أن التداول المتكرر هو دائماً طريقة لتدمير قيمة الأموال على المدى البعيد وليس لتحقيق القيمة منها. وهذا الرقم أعلى مما هو عليه في جميع الدول الغربية (فعلى سبيل المثال، 53% فقط من المستثمرين الأميركيين الأفراد يتداولون بهذه الوتيرة)؛ كما أن الرقم أعلى حتى مما هو عليه في هونغ كونغ المجاورة – وهي مجتمع صيني آخر من قومية هان مغرم بالمقامرة ولديه نظام مشابه لا يفرض الضرائب على الأرباح الرأسمالية. يشير ذلك إلى أن هناك شيئاً مميزاً في البر الصيني يؤثر على هذا السلوك ألا وهو شعورٌ بعدم إمكانية التنبؤ بالمدى البعيد وهو شعورٌ أحدث نسبياً من أن يكون قد عاشه من يشترون الأسهم الآن أو أن يكون قد مُرّر إليهم.

هذا التركيز على ضمان المكاسب القصيرة الأجل هو السبب الذي دفع مديرة الأصول الشابة في شنغهاي إلى ترك وظيفة ذات مستقبل بعيد المدى لصالح زيادة صغيرة نسبياً، ولكن فورية في الراتب، وهو سلوك ما تزال تُبتلى به شركات كثيرة تحاول الاحتفاظ بأصحاب المواهب وإدارة عمليات تخطيط خلافة المناصب القيادية في الصين. فالأشخاص الذين يجازفون في مسيرات مهنية طويلة الأجل غالباً ما لا يفعلون ذلك إلا بعد تلبية حاجتهم الأساسية للأمان على المدى القصير. فعلى سبيل المثال، أجرينا مرّة مقابلة مع زوجين وكانت الزوجة قد قررت خوض غمار تأسيس شركتها الخاصة – لتصبح واحدة من رائدات أعمال صينيات كثيرات – لأن وظيفة زوجها المستقرة، ولكن ذات الدخل المنخفض، في القطاع العام ستوفر الأمان للعائلة. وفئة الأصول البعيدة المدى التي تتزايد أعداد الصينيين الذين يستثمرون فيها – ألا وهي العقارات السكنية التي ارتفعت نسب ملكيتها من 14% بين صفوف من يبلغون من العمر 25 إلى 69 عاماً في 1988، إلى 93% بحلول 2008 – مدفوعة أيضاً بالحاجة إلى الأمان: فخلافاً لجميع الأصول الأخرى، فإن العقار يؤمّن للإنسان سقفاً يؤويه إذا ما حصل خطب ما، في نظام لا يوفر إلا ضماناً اجتماعياً محدوداً ويحفل بتاريخ من التغيرات السريعة في السياسات.

وفي المقابل، فإن معدّل الخصم الحكومي على المستقبل أقل – ويعود السبب في ذلك جزئياً إلى التشديد الماركسي على السيطرة – وهو يركز صراحة على العوائد على المدى البعيد. ولا تزال الوسائل الأساسية لمعظم هذه الاستثمارات هي الخطط الخمسية التي يضعها الحزب الشيوعي الصيني بالأسلوب السوفييتي وتشمل تطوير ما أسماه الرئيس شي “حضارة إيكولوجية” تتمحور حول تكنولوجيا الطاقة الشمسية و”مدناً ذكياً”، وإسكاناً عالي الكثافة يستهلك الطاقة بكفاءة. ولا يمكن تحقيق طموح بهذا الحجم دون تدخّل الدولة – السريع والسهل نسبياً في الصين وإن كان وحشياً في غالب الأحيان. وفي المقابل، فإن التقدم المحرز في هذه القضايا في الاقتصادات الغربية يتسم بالبطء الشديد.

تخدم جميع القرارات التي يتخذها الأفراد والدولة على حد سواء بخصوص كيفية الاستثمار غاية واحدة ألا وهي توفير الأمان والاستقرار في عالم يتصف بعدم إمكانية التنبؤ بالمستقبل. ورغم أن الكثير من الناس في الغرب يؤمنون أن الصين لا ترى فرصة إلا في خططها العالمية للقرن الحادي والعشرين، إلا أن دافعها يختلف اختلافاً كبيراً. فطوال تاريخ الصين الحديث المضطرب، كانت معرضة للتهديد من القوى الخارجية، سواء في آسيا (وتحديداً اليابان) أو خارجها (المملكة المتحدة وفرنسا في أواسط القرن التاسع عشر). لذلك فإن حكّام الصين يرون في التفاعل مع الأجانب مصدراً للتهديد، وعدم اليقين، لا بل والإذلال، أكثر مما يرون فيه مصدراً للفرص. وهم ما زالوا ينحون باللائمة على التدخلات الخارجية في العديد من مصائبهم، حتى لو كانت قد حصلت قبل قرن من الزمان.

فعلى سبيل المثال، أطلق الحكم البريطاني في حروب الأفيون في أربعينيات القرن التاسع عشر العنان لمئة عام ما زال الصينيون يسمونها “قرن الذل”. وما زال تاريخ الصين يرخي بظلاله على نظرتها إلى العلاقات الدولية – وهو يفسر إلى حد كبير هاجسها الحالي بفكرة عدم إمكانية المس بسيادتها. كما يفسر ذلك التاريخ أيضاً المفارقة الكامنة في تحرك الحكام والمحكومين في الصين وفق أطر زمنية تختلف اختلافاً كبيراً. فبالنسبة للأفراد الذين عاشوا أوقاتاً عصيبة لم يكونوا قادرين على السيطرة عليها، فإن رد فعلهم يقوم على الميل إلى اتخاذ قرارات بخصوص خياراتهم الأساسية بطريقة تركز على المدى القصير أكثر بالمقارنة مع الغربيين. وفي المقابل، فقد بات صناع السياسات الباحثين عن طرق لكسب المزيد من السيطرة والسيادة على المستقبل، يركزون على المدى البعيد أكثر بكثير من تركيز الغرب عليه. وهذا السعي المشترك إلى إمكانية التنبؤ بالمستقبل يفسّر الجاذبية المستمرة لنظام استبدادي ركيزته الأساسية هي السيطرة.

يقبل كثيرون في الغرب النسخة التي قدّمتها الصين عن نفسها إلى العالم: ففترة “الإصلاح والانفتاح” التي بدأها دنغ شياوبينغ في عام 1978، وشددت على الحاجة إلى تجنّب السياسات الجذرية والعنيفة غالباً للثورة الثقافية، تعني أن الأيديولوجيا في الصين لم تعد مهمة. والواقع يختلف اختلافاً جذرياً. ففي كل لحظة من الزمن منذ عام 1949 كان للحزب الشيوعي الصيني موقع مركزي بالنسبة للمؤسسات والمجتمع والتجارب اليومية التي ترسم معالم حياة الشعب الصيني. ولطالما كان الحزب يؤمن بأهمية التاريخ الصيني والفكر الماركسي اللينيني بكل مضامينهما ويؤكد على هذه الأهمية. وحتى تقبّل الشركات الغربية والسياسيون الغربيون هذا الواقع، فإنهم سيظلون يعانون من فهم الصين فهماً خاطئاً.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .