يستعرض سام أموري، المدير العام لشركة "أوريون هيلث" (Orion Health) في الشرق الأوسط أثر تبادل المعلومات الصحية في تمكين الحكومات من الاستجابة لجائحة "كوفيد-19" بطرق ذكية وإرساء أسس الطب التخصصي الذي يُتوقَّع له إحراز انتشار واسع في المستقبل القريب.
إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، فسنجد أن العقدين الماضيين شهدا تقدماً ملموساً في استخدام التكنولوجيا في مجال الرعاية الصحية.
فقد كان تركيز الحكومات وأنظمة الرعاية الصحية في مُختلف أنحاء العالم منصباً في البداية على رقمنة المستشفيات واستخدام السجلات الطبية الإلكترونية. ثم تحول الاهتمام بعد ذلك إلى مشاركة المعلومات التي تحتويها السجلات الطبية الإلكترونية مع الجهات الأخرى المختصة بتقديم الرعاية الصحية باستخدام سجلات الرعاية المشتركة.
وكان واضعو السياسات ومسؤولو التخطيط يتطلعون في الآونة الأخيرة إلى اتخاذ الخطوة التالية وتعميم تبادل المعلومات الصحية، بحيث تتوافر للأطباء القدرة على وضع تصور شامل للتاريخ الطبي للمريض وإنشاء منصة للتحليل المعقد للبيانات الآنية بشكل آلي.
منصة تبادل المعلومات الصحية في إمارة أبوظبي "ملفي" (Malaffi)
قدمت شركة "أوريون هيلث" عام 2019 أول برنامج من نوعه لتبادل المعلومات الصحية في الشرق الأوسط عندما تم إطلاق منصة تبادل المعلومات الصحية في إمارة أبوظبي "ملفي" (Malaffi).
وتتم إدارة منصة "ملفي" من قِبَل شركة "أبوظبي لخدمات البيانات الصحية" المقامة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحديداً بين دائرة الصحة في أبوظبي وشركة "إنجازات" لنظم البيانات التابعة لـ "شركة مبادلة للاستثمار".
شملت المرحلة الأولى لإطلاق المنصة 6 مؤسسات رائدة في مجال الرعاية الصحية، وقد شهد استخدام منصة تبادل المعلومات الصحية نمواً سريعاً منذ ذلك الحين، إلى أن أصبحت اليوم تُستخدَم من قِبَل أكثر من 1,100 منشأة وأكثر من 30 ألف مستخدم وتضم أكثر من 7 ملايين سجل طبي.
اتصف قرار إمارة أبوظبي بالاستثمار في منصة "ملفي" ببُعد النظر، وهو ما تجلى خلال جائحة "كوفيد-19" التي عصفت بالعالم مؤخراً. فعندما ظهر فيروس كورونا المستجد في مارس/آذار من العام الماضي، اتبعت إمارة أبوظبي أفضل المنهجيات المتبعة حول العالم للتصدي للجائحة. وسرعان ما وظفت قدرات اختبار "بي سي آر" أو "تفاعل البوليميراز المتسلسل" (PCR). وهكذا وصلت جميع البيانات من الاختبارات التي أجرتها مؤسسات الرعاية الصحية العامة والخاصة إلى منصة "ملفي"، وهو ما مكّن وزارة الصحة من مراقبة الوضع من كثب.
وتمكنت دائرة الصحة في إمارة أبوظبي من الاستفادة من بيانات تبادل المعلومات الصحية لتحديد المرضى الذين يعانون الاعتلالات المرضية المشتركة والأكثر عرضة لخطر الإصابة بفيروس "كوفيد-19".
كما تمكنت إمارة أبوظبي أيضاً من استخدام البيانات المتوافرة على منصة "ملفي"، وغذّت بها برنامجها السريع والناجح لتطعيم الأفراد.
تحديد المشكلة وإشراك الجميع في حلها وإدارة الحلول المقترحة
حرصت حكومات ذكية أخرى على تنفيذ مبادرة إمارة أبوظبي بالاستعانة بالتقنيات التكنولوجية للتعامل مع الجائحة. فعندما تفاقمت أزمة "كوفيد-19" في أبريل/نيسان 2020، ابتكرت شركة "أوريون هيلث" ما يُعرف بـ "حل إدارة تفشي الأمراض" (Outbreak Management Solution) لاستخدامه من قبل أنظمة الرعاية الصحية في مختلف أنحاء العالم.
يتألف هذا الحل من 3 وحدات أساسية، حيث أتاحت الوحدة الأولى إمكانية تحديد المرضى ذوي النتائج الإيجابية والسلبية، ورسم الاتجاهات على لوحة المتابعة المسؤولة عن نقل المعلومات أولاً بأول.
وأتاحت الوحدة الثانية للمتخصصين في مجال الرعاية الصحية إمكانية التواصل مع المرضى من خلال بوابة إلكترونية أو رسائل آمنة ثنائية الاتجاه لإبلاغهم بنتائج الاختبارات وتقديم المشورة الطبية. أما الوحدة الثالثة فقد أتاحت لمقدمي الخدمة إمكانية مراقبة المرضى في المجتمع وإدارتهم في حال إصابتهم بأعراض خفيفة أو عند خروجهم من المستشفى.
وعن طريق حلول البرمجيات المبتكرة التي تحتوي على هذه العناصر الثلاثة، توفرت البيانات لتحديد المرضى الذين يعانون أمراضاً معينة وتكنولوجيات التواصل الرقمي الحديثة للتعامل معهم وإدارتهم، وأمكن إحداث تغيير جذري في أنظمة الرعاية الصحية على مستوى العالم بالتزامن مع محاولات إعادة صياغتها عقب الجائحة.
ثورة عالمية في تقديم الرعاية
يظهر الأثر الحقيقي للتحول الرقمي في المناطق التي اعتمدت التكنولوجيا الرقمية في مراحل مبكرة. فقد أنشأت المملكة المتحدة، مثلاً، سجلاً إلكترونياً للرعاية في أيرلندا الشمالية منذ ما يقرب من 8 سنوات في صورة سجل بسيط للرعاية المشتركة.
ويجري الآن استخدام حل يعتمد على برمجيات من شركة "أوريون هيلث" يسمى "إنغيج بلاتفورم" (Engage Platform) لإنشاء بوابة للمرضى تتيح لهم الوصول إلى المعلومات المتاحة عن حالتهم وعلاجاتهم والمواعيد المُقررَة، بالإضافة إلى مشاركة هذه المعلومات مع مجموعة موثوقة من الأطباء ومقدمي الرعاية، وتحديد الأهداف الصحية ومراقبتها.
وتستخدم أيرلندا الشمالية أيضاً حل برمجيات شركة "أوريون هيلث" المسمى "كوردينيت" (Coordinate) لإعادة النظر في مسارات المرضى، بداية من الخدمات المقدمة لمرضى السكري. وتم استخدام هذه التكنولوجيا أيضاً خلال جائحة "كوفيد-19" لدعم العيادات والاستشارات عن بُعد، وهو ما مكّن المرضى من الحصول على الرعاية في منازلهم بصورة آمنة. كما نفذت شركة "أوريون هيلث" مشروعاً مماثلاً في منطقة "إيل دو فرانس" بفرنسا.
وعن أنشطتها في كندا، فقد اعتمدت مقاطعة كيبيك حل شركة "أوريون هيلث" المسمى منصة "مراقبة المرضى عن بُعد" (Remote Patient Monitoring) منذ 6 سنوات لتقديم يد العون للأشخاص الذين يعانون ظروفاً معقدة وعالية التكلفة ومنحهم مزيداً من القدرة على التحكم في أحوالهم الصحية وتجنب دخول المستشفى قدر الإمكان.
حيث يضع مقدمو الرعاية الصحية خطة علاجية مع المرضى الذين يستخدمون تطبيق "بيشنت هيلث أسستنت" (Patient Health Assistant) لتسجيل أنشطتهم اليومية. ويمكن للأطباء مراقبة المعلومات المقدمة والتدخل عند الضرورة. تثبت كل هذه الأمثلة بما لا يدع مجالاً للشك أن مجرد وجود سجل للرعاية المشتركة أو برنامج لتبادل المعلومات الصحية كفيل بأن يصبح منصة للابتكار.
ومن هذا المنطلق تعمل منصة "ملفي" في إمارة أبوظبي على توفير بيئة عمل تضم شركاء مبتكرين قادرين على تحقيق قيمة مضافة لمنظومة تبادل المعلومات الصحية ومستخدميها. وسيوفر هذا فرصاً جديدة للمرضى للسيطرة على أحوالهم الصحية ورفاهية أسرهم والحصول على الخدمات في منازلهم بصورة مريحة وآمنة.
من تبادل المعلومات الصحية إلى الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة
أدى هذا التقدم في استخدام تكنولوجيا الرعاية الصحية إلى التساؤل عن الأدوات المستقبلية في مرحلة ما بعد تبادل المعلومات الصحية. وتمثلت الإجابة في الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة. إذ تأخذ هذه التقنيات الجديدة البيانات الموجودة في منصة تبادل المعلومات الصحية، وتمد بها المخططين والأطباء بغرض مساعدتهم على تحديد خدمات الرفاهية والعلاج المصممة خصيصاً بما يناسب احتياجات السكان والمرضى.
بدأنا للتو نلمس إمكانيات ما يُعرف باسم إدارة صحة السكان والطب المخصّص أو الدقيق الذي يتضمن علم الجينوم. ومع ذلك، فقد ظهرت مؤشرات دالة على هذه الإمكانيات فعلياً في نيوزيلندا التي نشرت فيها شركة "أوريون هيلث" أول سجل للرعاية المشتركة عام 2011.
تعمل الشركة هناك من كثب مع الحكومة لتشغيل "مركز الخوارزميات" الوطني النيوزيلندي. وتعد هذه الخوارزميات سلسلة من الأدوات الإحصائية التي يمكن لمقدمي الرعاية الصحية استخدامها لفعل كل شيء، بداية من حساب معدلات انتشار فيروس "كوفيد-19" وصولاً إلى المخاطر التي تشكلها الجراحة على كل مريض.
وتمتلك دولة الإمارات العربية المتحدة الإمكانات اللازمة للاستفادة من هذه التطورات. فبفضل استثمارها في برامج تبادل المعلومات الصحية، مثل منصة "ملفي"، فإن أنظمة الرعاية الصحية الخاصة بها يتوافر بها الكثير من البيانات التي يمكنها استخدامها. كما تحاول حكوماتها أيضاً استشراف المستقبل وتقديم دورات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي في جامعاتها. وبالتالي فمن المتوقع أن يصاحب ظهور حلول برمجيات جديدة توافر الكوادر البشرية البارعة والمبدعة القادرة على استخدام هذه التقنيات بأفضل صورة ممكنة.
إرساء أسس المستقبل
أدت جائحة "كوفيد-19" إلى ازدياد الإقبال على تكنولوجيا الرعاية الصحية بصورة كبيرة في جميع أنحاء العالم. لكن الدول التي استبقت الأحداث واستثمرت فعلياً في السجلات الطبية الإلكترونية وسجلات الرعاية المشتركة وبرامج تبادل المعلومات الصحية كانت أقدر من غيرها على تتبع المرض والتواصل مع المواطنين وإدارة برامج الاختبار والعلاج والتطعيم بشكل فاعل.
والظروف مهيأة الآن أيضاً أمام هذه الدول للاستفادة من بياناتها وتطوير أدوات إدارة صحة السكان وخدمات المرضى الرقمية. وقد شهدنا حدوث ذلك في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث تستثمر حكوماتها في حلول برمجيات مبتكرة تواكب تطورات المستقبل.
ويعتبر استثمارها في برامج تبادل المعلومات الصحية، مثل منصة "ملفي"، واستثمارها في الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة خير دليل على امتلاكها التكنولوجيا والبيانات والكوادر البشرية المؤهلة لاتخاذ قرارات رشيدة في أنظمة الرعاية الصحية وتوجيه الأطباء والمرضى الوجهة السليمة.