لماذا يجب أن توجِّه أقصى درجات الاهتمام إلى العناية بالذات وبالآخرين؟

10 دقائق
العناية بالذات وبالآخرين
shutterstock.com/Lightspring
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ترى دراسة أُجريت في “جامعة هارفارد” أن العناية بالذات والآخرين وحُسن العلاقات مع الآخرين، بدايةً من علاقاتهم الزوجية وصولاً إلى علاقاتهم الأسرية هي ما تمنح الناس السعادة والصحة.

ما الذي يجعلنا سعداء؟

ما الذي يجعل الحياة رغدة هنيئة؟ ما الذي يجعلنا سعداء؟ يرى معظم الناس أن الإجابة عن هذين السؤالين تتلخص في كلمتين اثنتين هما: “المال والشهرة”، ويؤمن معظمهم أيضاً بأن السبيل الوحيد لتحقيق هذه الغاية هو العمل الجاد، بالإضافة إلى الظهور على وسائل التواصل الاجتماعي، من وجهة نظر الأجيال الشابة على الأقل. لكن هل هذا صحيح؟ أُجريت أطول دراسة عن السعادة في “جامعة هارفارد” والتي بدأت عام 1938 ولا تزال مستمرة حتى اللحظة. شملت هذه الدراسة 724 رجلاً (لا يزال بعضهم على قيد الحياة) وتم قياس مستويات صحتهم وسعادتهم على فترات منتظمة على مدى عقود عديدة. عاش بعض هؤلاء الأشخاص حياة رائعة، بينما انتهى الأمر ببعضهم إلى إدمان المخدرات والوقوع في مشاكل شخصية. ما الذي جعل هؤلاء الأشخاص أصحاء وسعداء؟ هل هي الشهرة؟ أم المال؟ تمثلت الإجابة بكل بساطة في حُسن علاقاتهم مع الآخرين، بدايةً من علاقاتهم الزوجية وصولاً إلى علاقاتهم الأسرية، بمعنى أن الأمر يرتبط بثقتهم في أنهم سيجدون أشخاصاً مستعدين للوقوف بجانبهم متى احتاجوا إليهم. وهكذا فإن المسألة تتعلق بمتانة علاقاتهم، علاقاتهم الحقيقية مع أناس حقيقيين، وليس عدد المتابعين أو “الإعجابات” على وسائل التواصل الاجتماعي.

فما الذي حدث إذاً منذ بداية الجائحة؟ اضطررنا إلى قطع معظم علاقاتنا الشخصية، وعجزنا عن التزاور مع أُسرنا. وحتى عندما ستتاح أمامنا الفرصة أخيراً للقاء أحبتنا، فسيكون من المفترض بنا ألا نبادلهم العناق أو نتواصل معهم جسدياً بأي شكل من الأشكال. انتظر! فلم أنتهِ بعد. فعلاوة على هذا الانفصال الذي بات السمة المميزة لعلاقاتنا المجمدة أصلاً، بدأنا نشعر بالقلق العميق تجاه وظائفنا. وقد لاحظت بحكم عملي مدرباً تنفيذياً أن بعض الأشخاص غارقون في كم هائل من العمل دون أي حدود، حتى إن “أيامهم تعج بالاجتماعات الافتراضية”، وعلى الرغم من ذلك فهناك آخرون يخشون فقدان وظائفهم لأن شركاتهم وقطاعاتهم تعاني الأمَرَّين من أجل البقاء في السوق. ومن الصعب أن نقول أي الفريقين أسوأ حالاً. وقد صار المواطنون الأميركيّون يشعرون مؤخراً بالقلق البالغ، ولو أن آدم سميث لا يزال على قيد الحياة، لأصدر كتابه تحت عنوان “صحة الأمم”، وليس “ثروة الأمم”. في الواقع، يبدو أن قياس صحة المواطنين مؤشر أكثر دقة من الاكتفاء بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي للفرد. فقد كشفت دراسة حديثة صدرت عن “هارفارد بزنس ريفيو” أنها أجرت استقصاء في الآونة الأخيرة على حوالي 1,500 شخص من 46 دولة، أشارت نتائجه إلى أن 85% منّا يعانون صعوبات جمة لتحقيق الرفاهية في حياتهم العامة وفي مكان العمل مع استمرار تفشي الجائحة. ومن المثير للاهتمام أن “هارفارد بزنس ريفيو” أنشأت قسماً خاصاً تحت اسم “أزمة الاحتراق الوظيفي” (The Burnout Crisis). وأثبتت دراسة أخرى أجرتها مؤسسة “غالوب”، أن معنويات الموظفين في الآونة الحالية قد وصلت إلى أدنى مستوياتها لتصل إلى المستوى الذي شهدناه في ذروة الأزمة المالية عام 2009.

الخلاصة: لدينا مشكلة.

ونقترح في هذه المقالة مساراً علاجياً يقوم على منهجية إيجابية تفيد بأن الحل الأمثل لا علاقة له من قريب أو بعيد بإظهار سلوكيات بطولية لأن “العمل المُضني” لا يصلُح كحل أساساً. ونقترح بدلاً من ذلك حلاً يتألف من 3 إجراءات مترابطة من شأنها أن تخفف من حدة هذه الأزمة. ويكمن هذا الحل في التالي:

1- العناية بالذات.

2- خدمة الآخرين: دورك كقائد.

3- الإرث المؤسسي.

العناية بالذات

ينبع التغيير من الشخص ذاته.

عندما نقدم للقادة مادة مكتوبة أو عروضاً تقديمية أو مادة تدريبية تتناول التحديات التي يمر بها العالم في الحقبة الحالية، فإننا نسعى إلى مساعدتهم على إحداث فارق في حياتهم هم أنفسهم وفي حياة الآخرين وفي مؤسساتهم. لكن أول سؤال يطرحونه لا محالة (وإن لم يطرحوه علناً، طرحوه علينا سراً) هو: “ماذا تعني هذه التغييرات بالنسبة لي؟”.

  • كيف ستؤثر هذه الجائحة العالمية الفتّاكة والمدمرة على أحبائي وعليّ أنا شخصياً؟
  • كيف أتعامل بصورة إيجابية مع مظاهر الظلم الاجتماعي الذي يبدو متفشياً لأبعد الحدود؟
  • كيف أحسّن مهاراتي للتعامل مع الجيل الرابع للثورة الرقمية؟
  • كيف أعيد تهيئة نفسي لتجنب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالكثيرين؟
  • كيف أخوض غمار المستنقع السياسي في الولايات المتحدة الذي يدفع المواطنين إلى انتهاز المواقف بدلاً من حل المشكلات؟
  • ما الذي يمكنني فعله لامتلاك قوة عاطفية تمكّنني من التعامل مع المطالب المذهلة التي أواجهها (ويواجهها الآخرون)؟

يحاول القادة الجيدون بذل ما في وسعهم لمساعدة الآخرين على التحسن، أمّا القادة العظماء فيحرصون على الإجابة عن الأسئلة المذكورة أعلاه بأنفسهم حتى يعززوا نقاط قوتهم بصورة تمكّنهم من تقوية الآخرين وحتى يتمكنوا من تسخير مصادر قوتهم لتمكين الآخرين.

وتُنسب إلى غاندي العبارة التالية: “كن أنت التغيير الذي تريده”، وهي مقولة وإن كانت تنضح بمعاني الحكمة، فإن ما قاله أكثر عمقاً في واقع الأمر:

ما نحن إلا مرآة تعكس العالم من حولنا. فكل الميول الموجودة في العالم الخارجي موجودة في عوالمنا الشخصية. وإذا تمكنا من تغيير أنفسنا، فإن الميول الموجودة في العالم ستتغير أيضاً. وبقدر ما يغيّر الإنسان طباعه، سيغيّر العالم موقفه تجاهه. هذا هو السر الأسمى. إنه شيء رائع ومصدر سعادتنا. فلسنا بحاجة إلى الانتظار لنرى ما يفعله الآخرون. المهاتما غاندي

لقد كانت حياته مثالاً حياً للتغيير الشخصي الذي أدى إلى تغيير عميق الجذور في ربوع الهند، وفي العالم كله في نهاية المطاف.

وقد وجهنا نحن والكثيرون غيرنا النصح إلى القادة بضرورة التغيُّر خلال عامي 2020-2021 لتلافي تداعيات الأزمات غير المسبوقة في حياتنا (من جائحة عالمية ومستنقع سياسي وظلم اجتماعي وثورة رقمية وغموض اقتصادي واضطراب عاطفي). وأوصى باولو غالو بإتقان التعامل مع المنغّصات الخمسة (الفوضى والأزمة والتعقيد والارتباك والتغيير). ودعا ديف أولريخ القادة إلى إبداء التعاطف وصناعة المعنى من خلال التخصيص والاستفادة من حالة عدم اليقين وتقديم التوجيه.

وعلى الرغم من إدراكنا لفائدة هذه التوصيات، فإننا ندرك أيضاً أن هذه التغييرات المطلوبة في السلوك العام تتطلب التغيير على المستوى الشخصي وتغيير العقلية. وهو ما نطلق عليه العناية بالذات.

فعندما يعتني القادة بأنفسهم، سيستطيعون الاعتناء بالآخرين بشكل أفضل.

وعندما تكون علاقة القادة بأنفسهم (أو بتصورهم لأنفسهم) إيجابية، يمكنهم تكوين علاقات أكثر إيجابية مع الآخرين.

كيف يعتني القادة بأنفسهم حتى يتمكنوا من العناية بالآخرين؟

أولاً: اعرف ما تريده بوضوح. فنجاحك يتوقف على معرفة ما تريده (شخصياً). وإن لم تحدد ما تريده، فسيحدده شخص آخر نيابة عنك، ولن يكون ذلك في مصلحتك على الأرجح. حدد ما تريده (وكيف يبدو النجاح بالنسبة لك) من خلال استكشاف قيمك وشغفك ونقاط قوتك ومواردك. قد يتغير ما تريده بمرور الوقت وبتبدُّل الظروف، لكن التحدي المتمثل في تحديد ما تريده يظل ماثلاً أمامنا.

ثانياً: اعمل على توفير الموارد اللازمة لتمكين نفسك من المضي قدماً نحو ما تريده بشدة. قد تكون هذه الموارد مادية (العناية بجسمك وحماية حيزك الشخصي) وعقلية (الرغبة في التعلم والنمو) واجتماعية (إحاطة نفسك بعلاقات رائعة، كما أشرنا أعلاه) وعاطفية (مواجهة هواجسك وشكوكك ومخاوفك) وروحية (إيجاد معنى في حياتك). وقد تأتي هذه الموارد من الداخل ومن علاقاتك بالآخرين ومن بيئتك المؤسسية.

ثالثاً: ركز على المستقبل وكن مرناً في أثناء مضيك قدماً. وبدلاً من النظر إلى مواطن الفشل، ركّز على ما تريده في المستقبل والمسار الذي يجب أن تسلكه للوصول إلى هدفك. وإذا سلكت نهجاً معيناً ونجح معك، فالتزم به. أما إذا باء بالفشل (ومن المؤكد أنه سيبوء بالفشل في بعض الأحيان!)، فعليك أن تفكر وتتعلم وتعدّل خططك، ولكن عليك أن تواصل المضي قدماً.

خدمة الآخرين: دورك كقائد

لقد اكتشفنا أن المعنى الحقيقي للقيادة لا يرتبط بحجم المعرفة ولا نوعية السلوك، بل بمقدار إسهام هذه المعرفة وهذا السلوك في مساعدة الآخرين على معرفة عملهم وأدائه بشكل أفضل. بعبارة أخرى، عزّز نقاط قوتك بصورة تمكّنك من تقوية الآخرين، وسخّر مصادر قوتك لتمكين الآخرين.

ويفتقر القادة اللامعون في بعض الأحيان إلى مهارات التعامل مع الآخرين. فهم قادة يملكون عقليات جبارة، لكن قلوبهم تخلو من العاطفة. ولم يفطنوا إلى أن تعلم العمل مع الآخرين هو أساس كلٍّ من السعادة الشخصية والنجاح المهني. فقد أثبتت الأبحاث أن الأشخاص الذين يُبدون اهتمامهم بالآخرين تزداد احتمالية حصولهم على الترقيات بنسبة 60%. كما لاحظ الخبير الاقتصادي، آرثر بروكس، أن أولئك الذين يهتمون بالعطاء وخدمة الآخرين يستطيعون جني أموال أكثر من غيرهم. وأولئك الذين تبرعوا للجمعيات الخيرية أسعد بنسبة 43% من أولئك الذين لا يقدمون أي تبرعات. وهكذا فإن الأعمال التطوعية ومساعدة الآخرين تمنحك الرفاهة على المستويات العاطفية والمادية والاقتصادية.

ويجب أن تمتد العناية بالذات إلى العناية بالآخرين عندما تفرض عليك مهمات وظيفتك كقائد أن تساعد الآخرين على التحسن. فكر فيمن يمكنك مساعدته من واقع منصبك كقائد. وتتطلب مساعدة الآخرين تقدير كل شخص تقوده على المستوى الشخصي.

  • شاطرهم المشاعر الوجدانية بسؤالهم عن شعورهم.
  • أظهر التعاطف بتقدير ظروفهم.
  • اصنع خبرتهم من خلال مساعدتهم على الإيمان بالهدف المشترك وتحقيقه والشعور بالانتماء.
  • حفّز طاقتهم من خلال مساعدتهم على تحقيق أهدافهم.

التعاطف: ما زلنا نقرأ ونسمع عن التعاطف منذ عام 1995 حينما نشر دانيال غولمان كتابه الشهير تحت عنوان “الذكاء العاطفي” (Emotional Intelligence). وعلى الرغم من أننا صرنا نفهم المصطلح الآن بصورة تامة، فإننا بحاجة أيضاً إلى استيعاب المكونات الثلاثة للتعاطف: 1) معرفياً: التعاطف هو الفهم الكامل لما يشعر به الآخر. 2) عاطفياً: الشعور بما يشعر به الآخر أو على الأقل إظهاره والاعتراف بمعاناته ومشاعره الطاغية عليه. ويستوعب معظم الناس هذين المكونين. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في المكوّن الثالث. إذ يجب أيضاً 3) أن ننتقل إلى الواقع التطبيقي، ونفعل شيئاً حيال ذلك، وإلا اعتبر الآخرون أننا نتصنع التعاطف الذي يصدُق عليه وصف “دموع التماسيح”.

اضطلع أحدنا بمهمة تدريب قائد لامع نال شهرة واسعة بين زملائه الذين أشادوا بذكائه وجرأته ونفاذ بصيرته. ولكن عندما أطلعناه على رأيهم فيه، وذكرنا له أن أحدهم علّق بأنه لا يجيد الاستماع إلى الآخرين، قاطعني مؤكداً كلامنا: “أجل، هذا صحيح!”. أوضحنا له أن مقاطعته لنا تدل على أنه لم يكن يستمع إلينا في تلك اللحظة. وبعد أن عرفنا نقاط قوته، سألناه: “ماذا يعني لك الاستماع؟” فأجاب بأنه عندما يتفاعل مع أحدهم، فإنه يستطيع بشكل عام استنتاج 20% إلى 30% من فحوى الكلام الذي يريد أن يقوله المتحدث قبل أن يتفوّه به. وكانت استنتاجاته صائبة في معظم الأحيان، لأنه كان يعرف شخص المتحدث وسياق الكلام والرسالة التي يريد أن يوصلها إليه. لذا بمجرد أن يستنتج ما يريد الآخرون قوله، يشرد ذهنه، ويأخذ في مطالعة أي نصوص أمامه والالتفات حوله، منتظراً أن يفرغ المتحدث من كلامه. وجاء تعليقنا على فكرته تلك في صورة مبدأ بسيط لمساعدة الآخرين: لا يُقصَد بالاستماع أن تفهم ما يرمي إليه الآخرون، بل أن يشعر الآخرون بأنك تفهمهم. فقال لنا: “أعيدوا عليّ ما قلتموه”. فكررنا كلامنا: “لا يُقصَد بالاستماع أن تفهم ما يرمي إليه الآخرون، بل أن يشعر الآخرون بأنك تفهمهم”. أدرك حينها أنه لم يكن يُشعِر الآخرين بأنه يفهمهم. لذلك عندما تحاول مساعدة الآخرين، احرص على الاستماع من خلال مساعدتهم على الشعور بأنك تفهمهم.

ويكتسب القادة القدرة على الاستماع من خلال حرصهم على الفهم أكثر من التحدث ومساعدة الآخرين أكثر من مساعدة أنفسهم والعطاء أكثر من الأخذ.

أما النصيحة التدريبية الثانية فيما يخص مساعدة الآخرين فتتمثل في امتلاك جدول أعمال شخصي إيجابي لأولئك الذين يعملون تحت قيادتك، لأنك ستضطر بحكم منصبك كقائد أن تقابل الكثير من الناس، مثل مرؤوسيك وأقرانك ورؤسائك وعملاء شركتك.. وغيرهم. اسأل نفسك: كم مرة أتفاعل مع الآخرين وينهون حديثهم معي وهم يشعرون بأنهم أسعد حالاً؟ كنا نتولى تدريب قائدة استطاعت تحقيق النجاح من خلال تحديد الاتجاه الصحيح وتنفيذ الخطوات اللازمة للوصول إلى الأهداف المحددة. لكنها أدركت أن مرؤوسيها توقفوا بشكل عام عن مناقشة المهمات التي تكلفهم بها، ولكن دون إحساس بالعاطفة حول أهمية العمل الذي يؤدونه. لقد كانت من نوعية القادة الذين يملكون عقليات جبارة، لكن قلوبهم تخلو من العاطفة. وباستيعابها لهذه الفكرة، بدأت تحرص على إمهال نفسها الوقت الكافي للتأكد من أن كل شخص تتفاعل معه ينهي حديثه معها وهو يشعر بأنه أسعد حالاً. كان هذا سهلاً في بعض الأحيان، خاصة عندما تثني على أحدهم أو تعرض عليه فرصاً جيدة أو تقدم له مكافأة مالية. ولكن كان عليها أن تتعلم في أحيان أخرى مساعدة الآخرين على عدم توبيخه عندما تضطر إلى إبلاغه بأخبار سيئة أو انتقاده.

الإرث المؤسسي: احرص على ترسيخ ثقافة مؤسسية تدوم طويلاً

تضمن العناية بالذات امتلاك القدرة الشخصية على القيادة، فخدمة الآخرين تعني أنك تقود الآخرين من خلال جعلهم أفضل حالاً. وإضفاء الطابع المؤسسي على الإرث يعني إنشاء مؤسسة تدوم طويلاً حتى بعد انتهاء العلاقات التي نجحت في تكوينها.

وتتمثل الوظيفة الأساسية للمؤسسات في تحقيق أقصى استفادة ممكنة من المواهب الفردية من خلال اتخاذ إجراءات جماعية، بحيث يصير الكل أكبر من مجموع أجزائه منفردة، مثلما هو الحال مع الولايات المتحدة التي تعتبر أقوى من مجموع كل ولاية إذا عملت بمعزل عن باقي الولايات. وبالمثل فإن أداء الفرق يتفوق على أداء أفرادها إذا عملوا بمعزل عن بعضهم.

ولطالما أثبتت أبحاثنا (وأبحاث الآخرين أيضاً) أن أثر القدرات التنظيمية أكبر من أثر الكفاءات الفردية على نتائج الأعمال بمقدار 3 إلى 5 أضعاف. فقد يكون الأفراد أبطالاً، لكن المؤسسات هي التي تحقق البطولات.

ويتعين عليك بحكم موقعك كقائد أن تنشئ مؤسسة تدوم طويلاً بحيث يتجاوز نجاحها جهودك الشخصية وتعمل على تحويل الأعمال الفردية إلى أعمال جماعية مستدامة. صحيح أن المؤسسات لا تفكر، لكنها تحدد طريقة تفكير الآخرين. فاحرص على بناء الثقافة الصحيحة لمؤسستك باستمرار، لأنه إذا تم بناؤها بالشكل الصحيح، فإنها ستدوم طويلاً.

ويستلزم إنشاء إرث مؤسسي ضرورة إدراك أن المؤسسات لا تعتمد على هياكلها بقدر اعتمادها على قدراتها. وتتجسّد قدرة المؤسسة فيما تشتهر به وما تجيد فعله، مثل وجود جدول أعمال استراتيجي أو القدرة على إدارة المعلومات أو خدمة العملاء أو تشجيع الابتكار أو ترسيخ روح التعاون المتبادل أو الحرص على مراعاة أعلى معايير الكفاءة أو التحرك بالمرونة أو غرس القيم الثقافة السليمة.

وغالباً ما ينبع إضفاء الطابع المؤسسي على القدرات التنظيمية الصحيحة من اتخاذ القرارات الماسة بالموارد البشرية:

  • العنصر البشري: تعيين أفراد يشاركونك القيم والأهداف، وتدريبهم وترقيتهم، وتحويل تلك التطلعات إلى أفعال يومية.
  • الأداء: وضع أنظمة المكافآت بطريقة تراعي المعايير والحوافز التي تشجّع على اتباع السلوكيات السليمة وتحقيق النتائج المنشودة.
  • المعلومات: اعمل على تحسين أساليب التواصل ومشاركة أكثر المعلومات أهمية من قمة الهرم الإداري إلى قاعدته ومن القاعدة إلى القمة، ومن الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل.
  • العمل: ضع سياسات مؤسسية (مواعيد العمل، موقع العمل، أدوار العمل) تتوافق مع الأهداف المرجوة.

ستؤدي ممارسات الموارد البشرية سالفة الذكر إلى تحويل تطلعاتك إلى آليات مؤسسية تؤثر في تشكيل أسلوب التفكير وطبيعة السلوك وحقيقة الشعور.

واعلم أن القدرات التي تطورها أو الثقافة التي ترسخها لن تجعل مؤسستك صرحاً رائعاً يحب الجميع العمل فيه فحسب، بل ستجعلها أيضاً صرحاً مدهشاً يحب العملاء أن يقتنوا منتجاته ويحصلوا على خدماته التي يعتزون بها، وتجعلها صرحاً جذاباً يستقطب المستثمرين ويشجعهم على الاستثمار فيه، وتحولها إلى صرح عظيم يستهوي المجتمعات.

الاستنتاجات:

يجب أن ننظر في واقع الأمر إلى صحة الأمم والمؤسسات والمجتمعات والأفراد باعتبارها القوام الرئيسي لثروتها الحقيقية. وتعتبر العناية بالذات والعناية بالآخرين والعناية المؤسسية واجباً أخلاقياً ونقطة انطلاق لكل قائد. كما أنها تمثل أيضاً نقطة انطلاق للتميز في مجال الأعمال. ولن يبذل الأفراد قصارى جهدهم إلا عندما يكونون في أفضل حالاتهم جسدياً وعاطفياً وعقلياً وروحياً وعندما يكون هناك هدف له مغزى يسعون إلى تحقيقه، وليس نتيجة مالية يحققونها بأي وسيلة كانت دون مراعاة أي اعتبارات أخرى.

وإذا أردت أن تتجاوز هذه الحقبة المحفوفة بالمخاطر واستيلاد الفرص من رحِم الأزمات الحالية، فاحرص على العناية بنفسك والتفاني في خدمة الآخرين وإضفاء الطابع المؤسسي على القدرات.

فإذا تعاملت مع الآخرين بإيجابية، فسيُقبِلون أيضاً على إرساء ثقافة مؤسسية تتصف بالإيجابية.

وإذا حرصت على الإشادة بالآخرين كلما حققوا نجاحات ملموسة، وعملت على إشراكهم في صنع القرارات، فإنك بذلك ستنشئ مؤسسة تدوم طويلاً ويستند أداؤها على الفريق ككل.

وإذا ركزت على الأفكار أكثر من تركيزك على السياسات، وتعلمت من أخطائك، فإنك بذلك ستنشئ مؤسسة تعليمية.

وإذا لم تتردد في تجشم عناء المهمات الصعبة، فإنك بذلك ستنشئ مؤسسة مرنة لا تحجم عن تحمل المخاطر المحسوبة.

وعندما تنعكس قيمك الشخصية على هذه المؤسسة، فسوف ترسّخ ثقافة تشجع الكوادر البشرية على الازدهار.

الخلاصة: لدينا حل للمشكلة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .