بعدما أثبتت التكنولوجيا قيمتها خلال الفترة الأكثر اضطراباً في التاريخ الحديث، ومع استمرارها في زعزعة عالمنا اليوم خلال مرحلة التعافي بعد جائحة كورونا، تبددت الشكوك في أن الريادة الرقمية والتكنولوجية ستحدد قدراتنا وصلابتنا نحن البشر للتغلب على التحديات والاستعداد للمستقبل بجرأة.
واستباقاً لهذا التوجه، أُنشئ معهد "الابتكار التكنولوجي" عام 2020، على الرغم من تفشي الجائحة، بهدف إنشاء منظومة بحثية عالمية والتأكيد مرة أخرى على أهمية التركيز على الاستعداد التكنولوجي وضرورته خلال مسيرة دولة الإمارات على مدى الخمسين عاماً المقبلة. حيث يؤمن البشر دوماً بأن القوة تزداد مع ازدياد العدد وبأن العمل المعزول قد يفضي إلى الفشل، خصوصاً عندما تكون الأهداف التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها سامية وطموحة.
جمع العقول العلمية
وبذلت القيادة في دولة الإمارات جهوداً متضافرة لجمع العقول العلمية الألمع والأكثر إبداعاً حول العالم في إمارة أبوظبي للمشاركة في بحوث تعاونية بمجالات التكنولوجيا الناشئة، إدراكاً منها أن الطريقة الوحيدة للتنويع بعيداً عن النفط وتشكيل اقتصاد المعرفة في الدولة هي المشاركة بإنشاء تلك المعرفة. وتعمل تلك المجموعة من المواهب العلمية معاً لتحقيق الريادة في الحلول العصرية ضمن 7 مجالات مهمة من التكنولوجيا المتقدمة.
وليس ذلك إلا جزءاً من القصة. إذ تمتلك إمارة أبوظبي عدة مكونات لتصبح مركزاً عالمياً مفضلاً للبحوث. ويحتضن سوق أبوظبي العالمي "Hub71"، وهو منظومة تكنولوجية جذبت حوالي 102 شركة ناشئة، يعمل عدد كبير منها في مجال التكنولوجيا المالية، والتكنولوجيا الصحية، والذكاء الاصطناعي. وقد نجحت تلك الشركات في جمع أكثر من 50 مليون دولار أميركي منذ إطلاق "Hub71" في مارس/آذار 2019، ويرجع الفضل في ذلك إلى اعتماد قيادة الدولة الرشيدة تخصيص 5.6 مليارات درهم إماراتي لدعم البحث والتطوير في أبوظبي ضمن برنامج "غداً 21"، بالإضافة إلى صناديق رأس المال الثمانية الداعمة لمجموعة الشركات الناشئة.
واحتلت دولة الإمارات المرتبة 24 عالمياً من حيث الإنفاق على البحث والتطوير، حيث بلغ ذلك الإنفاق 1.3% من إجمالي اقتصادها عام 2018، وفقاً لـ "البنك الدولي". ونمت تلك الأرقام وسترتفع أكثر في المدى المنظور. وأحرزت الدولة المرتبة الأولى إقليمياً والرابعة عالمياً في مؤشر ريادة الأعمال العالمي لعام 2020.
لماذا تحتاج الإمارات إلى منظومة بحثية عالمية؟
شكّلت الجهود المتفرقة للعلماء الأفراد إحدى أكبر العقبات التي اعترضت النمو العلمي في الماضي، إذ ركز هؤلاء العلماء إلى حد كبير على إبقاء رؤاهم ونتائجهم قريبة منهم، ما منع استخدامها بشكل مفيد وتحقيق نتائج بعيدة المدى للبشرية عموماً.
وتؤدي الجهود الفردية أيضاً إلى تقييد إضافي لتمويل البحوث، حيث تحتاج فرق البحث إلى التغلب على المنافسة، وأحياناً على الصعاب الجيوسياسية الخطيرة. وعندما نفكر فيما نحاول تحقيقه هنا، يتضح سريعاً أننا من خلال خلق بيئة داعمة للبحث، تجمع كل المكونات الرئيسية من علماء وتقنيين وطلاب وأوساط أكاديمية بالإضافة إلى الحكومة والقطاعين العام والخاص والبنية التحتية، وتؤمّن التمويل المستقل عن البيروقراطية، ومن خلال تلك البيئة فقط، يمكننا فعلاً أن نأمل في ظهور مساهمات علمية كبيرة. وتعد الحكومة والصناعة والأوساط الأكاديمية عوامل تمكينية رئيسية لقيادة تلك المنظومة المعرفية الخصبة.
وتساعد النظم البحثية على فتح طرق مهمة للبحوث الأساسية والتطبيقية التي تُترجم إلى ابتكار وتكنولوجيا لتحقيق تأثير مجتمعي أعلى. وعبر دفع عجلة البحوث التحويلية وتحديد النتائج التي يمكن تطويرها إلى دلائل يمكن الوصول إلى المفاهيم لتوليد الملكيات الفكرية للبلد، حيث تمتلك النظم البحثية القدرة على فتح فرص تجارية غير مسبوقة. ويمكن عن طريق تمكين منظومة بحثية مزدهرة جذب أصحاب المصلحة المهمين والتوصل إلى المزيد من النتائج المحسّنة والقابلة للقياس. ويساعد وجود منظومة قوية للبحوث على مراجعة المناهج التعليمية وبناء مهارات جديدة بحسب الحاجة لضمان نمو الخبرات العلمية في المجالات الأهم.
ومع استمرار إمارة أبوظبي في تشكيل منظومتها البحثية المزدهرة، تتزايد أنشطة البحث والتطوير والإنفاق على تلك الجهود. وتبشّر التداعيات الإيجابية لذلك الوعي الجديد بأهمية البحث بنتائج علمية نوعية وتوسيع نطاق الابتكار. لكن، مثل أي عامل تمكين علمي ناشئ، هناك بعض السلبيات التي نحتاج إلى الاحتراس منها كذلك. قد يكون البحث لأجل البحث فقط خطيراً. لكن يعد ضعف نشر النتائج العلمية أو الدعاية المفرطة للبحوث التي قد تؤدي إلى تسريع النتائج العلمية فخاً يجب علينا تجنبه.
وربما نحتاج إلى التركيز على تعزيز اتصالاتنا العلمية. وتتمثل القيمة الحقيقية للبحوث في تطبيقها، وبالنسبة لنا كباحثين، لا يتم ذلك إلا عبر نقل جهودنا إلى العالم ككل ومشاهدة البحث يُترجم إلى حلول ملموسة تحسن الحياة، وهو ما يمكننا أن نهنئ أنفسنا به.
كيف تبدو البنى الأساسية للنظم البحثية الفعالة؟
بالإضافة إلى العوامل الثلاثة التقليدية، وهي الأفراد والعمليات والتكنولوجيا، يعتقد المجتمع العلمي اليوم أن الثقافة والهيكلية والاستراتيجية قد تشكل عوامل تغير قواعد اللعبة وتضمن حدوث تأثير ضخم. ويجب على تلك النظم جذب المواهب، واتخاذ خطوات للاحتفاظ بتلك المواهب أيضاً.
ويجب أن تتوافق النظم البحثية مع أولويات البحث التطبيقية المحددة بدقة، وأن تضمن وجود مجموعة مواهب عالمية للمساعدة على تنفيذ تلك الأولويات عبر المجالات المتخصصة بما فيها تقنيات الكوانتم وما بعد الكوانتم، والذكاء الاصطناعي، والعلم السيبراني، وعلم التشفير، وغيرها. وستؤدي النظم البحثية عالية الكفاءة إلى الوصول بسهولة وبأسعار معقولة إلى تعليم عالٍ يعد الأفضل في فئته.
كما يرتبط أي حلم بحثي بالتمويل غير المقيد، إضافة إلى حد أدنى من الانتظام والتحديات الإدارية التي تستغرق وقتاً طويلاً. ويجب أن يكون التسامح والشمول والتنوع أكثر من مجرد كلمات، فلتمكين النتائج التحويلية حقاً، يجب أن تكون المنظومة قادرة على استيعاب الآراء والتصورات المختلفة. فيجب التعاون، كما ذكرنا سابقاً، لدفع التميز البحثي وأن تعمل المنظومة على تمكين التضافر بين النظم وضمنها.
ويوجد أمر يجب أن نظل يقظين حوله عند تشكيل منظومة البحوث وهو أن الابتكار يشكل محركاً يحافظ على سير الأمور. والتميز البحثي أمر بالغ الأهمية أيضاً. وأحد التحديات التي تواجهها منظومة مثل وادي السيليكون اليوم هو أنها نمت بحجم دولة تقريباً، ثم خلال فترة الجائحة، بدأ رواد الأعمال في إدراك أنه يمكنهم العمل من أي مكان تقريباً ولا يجب عليهم التمركز في الوادي أو في سان فرانسيسكو. لذا تكمن جاذبية المنظومة في التواصل والعلاقات العميقة والتركيز على المجالات المتخصصة للبحوث التطبيقية.
ونشهد أيضاً بشكل متزايد أن مراكز البحوث القديمة، مثل وادي السيليكون، لم تعد بالضرورة النظم المفضلة للبحث والتطوير اليوم، فنجح لاعبون أصغر وأكثر مرونة، مدعومين من حكومات تدعم الاستثمار سياسياً، في ربط كل العناصر المتباينة القادرة على التحرك بسرعة لجذب أفضل المواهب في العالم.
في السنوات الأخيرة، اكتسبت برشلونة في إسبانيا وبلفاست في أيرلندا الشمالية وتالين في إستونيا وإمارة أبوظبي في الإمارات الثقة كنظم للابتكار أو مراكز مهمة للإبداع. لذا يملك العديد من البلدان في العالم فرصة حقيقية لعكس هجرة الأدمغة والاستثمار في الشباب عبر إعطاء الأولوية للبحث والتكنولوجيا المتقدمة.