ما الذي يستطيع الآباء العاملون فعله عندما يتعرّضون لضغوط هائلة في وظائف تستنزف طاقاتهم؟

7 دقائق
التعامل مع ضغوط الآباء العاملين
ريسيب - بي جي/غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: يجد الكثير من الآباء العاملين أن نجاحهم المهني سلاح ذو حدين، إذ يكتشفون أنهم متورطون في مجال مهني يحفل بالكثير من المزايا، إلا إنه يتعارض مع أولوياتهم الحياتية كآباء، ويحرمهم من الشعور بالنجاح الكامل على المستويين المهني والأسري. إذا وجدت نفسك في موقف مشابه، ولا تعلم كيفية التعامل مع ضغوط الآباء العاملين، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنك تحتاج إلى إجراء تغييرات هائلة لكي توازن بين حياتك العملية والشخصية. فقد يكون تغيير العقلية كافياً في بعض الأحيان. ابحث عن الفرص المتاحة للتغيير في إطار وظيفتك الحالية أولاً، وإذا دعت الحاجة إلى إجراء تغييرات أكبر، فاعمل على التوسع في التغييرات انطلاقاً من هذه النقطة. وينصح كاتب هذه المقالة بضرورة اتخاذ 5 خطوات لتحسين مواءمة اختياراتك المهنية مع أولوياتك: ارفق بنفسك، فكّر في العمل المرن والعمل عن بُعد، أعطِ الأولوية لأصحاب العمل المتفهمين لظروف الآباء، فكّر في قطاعات العمل الأخرى، فكّر في التنازلات المالية المتاحة وحاول التكيف معها.

 

يهتم الآباء العاملون اليوم بالنجاح سواء في حياتهم المهنية أو الأسرية. فهم يفخرون بقدرتهم على توفير حياة كريمة لأسرهم وتكريس وقتهم وجهدهم اللازمين ليكونوا آباء وشركاء وأزواجاً مثاليين. لكن الكثيرين منهم يجدون أن نجاحهم المهني سلاح ذو حدين، إذ يكتشف بعضهم أنهم متورطون في مجال مهني يحفل بالكثير من المزايا، إلا إنه يتعارض مع أولوياتهم الحياتية كآباء، ويحرمهم من الشعور بالنجاح الكامل على المستويين المهني والأُسري. وكما قال لي أحد الآباء الذين عملت معهم:

لطالما أقسمت أنني سأغيّر أسلوب حياتي بعد أن دخل ابني المدرسة وانضم إلى فريق كرة السلة، ولكن من الصعب أن أدير ظهري للعمل الذي أكسب منه قوتي وقوت أسرتي، علاوة على أنني أحب عملي. لكنني أخشى الآن أن أضيّع على نفسي الفرصة إلى الأبد. لطالما أردت ممارسة التدريب في مجال كرة السلة، لكنني لم أكن أؤدي دوري المطلوب إلا في ثلث المباريات في أحسن الأحوال. أعلم أن زوجتي قد ضحت بحياتها المهنية أكثر مما كنا نتوقع في البداية، ويشكل هذا ضغوطاً كبيرة على علاقتنا. عندما أكون في الجوار، أمارس دوري كأب محب لأسرته، لكنني أعتقد أن ابني يشعر بغيابي. أعلم أن الأمور لا تسير على ما يرام، ولكنني لا أعرف كيف أغيّر أسلوب حياتي.

قد تعترينا مثل هذه المشاعر عند إنجاب أول طفل أو في أعياد ميلاد أبنائنا المنتظَرَة، أو عند إدراك مدى تغير حياتهم في السنوات التي انقضت منذ أن اتخذنا خيارات مهنية مفصلية. وهي الظاهرة التي أسميها “المزلق المهني للآباء العاملين”.

فحينما تقطع على نفسك عهداً بالتميز في مجال مهني يتطلب التفاني في العمل، يصبح من الصعب أن تتراخى دون المخاطرة بكل ما عملت وضحيت من أجله. فلم يُعهَد عن المسارات المهنية والسلم الوظيفي بالشركات أنها تتسامح مع أولئك الذين يحاولون مراجعة أنفسهم والتخلي عن الجدية الصارمة في العمل. وقد تكون قدرتنا على كسب قوتنا والحفاظ على خطط التأمين الصحي والتقاعد قيوداً ذهبية تكبل حركتنا. وغالباً ما يعني الدخل الكبير وجود التزامات مالية مكافئة أيضاً، مثل مصاريف المدارس الخاصة أو أقساط القروض العقارية الضخمة.

وهذه معضلة مزعجة إلى حد كبير لأن معظم الآباء العاملين وصلوا لتوهم إلى مرحلة الحصاد في نموذج جيمس سيترين للتقدم المهني، وهي المرحلة التي تُترجَم فيها سنوات العمل الشاق إلى مناصب ذات راتب أعلى بكثير، وشهرة واسعة، وقدرة على التأثير، وصناعة اسم قوي في سوق العمل. حيث يحفزك الوصول إلى مرحلة الحصاد على الاستمرار في مسارك الحالي.

وقد اعتدت أن أجري تمريناً مع الآباء العاملين الذين يشعرون بالتمزق بين المسار الذي يسلكونه والهدف الذي يريدون تحقيقه في حياتهم، وذلك لتحديد أولوياتهم. فأطلب منهم إعطاء درجات تقييمية لثلاث أولويات في حياتهم المهنية:

  • الأمان والدخل والترقيات
  • العمل الممتع والإنجاز ومساعدة الآخرين
  • العمل المرن المصحوب بالاستقلالية ووقت الفراغ للحياة الشخصية

ثم أطلب منهم تكرار التمرين وهم يتخيلون أنهم عادوا إلى تلك المرحلة التي اتخذوا فيها قراراتهم المهنية المصيرية (غالباً في أوائل العشرينيات من عمرهم)، والتي يستطيعون أن يروا فيها أولوياتهم بعد 10 أو 20 عاماً في المستقبل. يسهم هذا التمرين في فتح عيون الكثيرين على قراراتهم المهنية لأنهم يجدون أن المجال المهني الذي اختاروه كان مناسباً لظروفهم في الأيام الخوالي، لكنهم لم يحاولوا تكييف حياتهم المهنية مع المستجدات. كما أنه يحفز تفكيرهم حول كيفية تعديل حياتهم المهنية بحيث تتم مراعاة التنازلات التي تفرضها مستجدات حياتهم الأسرية. وهو ما أوضحه أحد الآباء الذي قيّم أولوياته وغيّر حياته المهنية:

عندما بلغت الأربعين من عمري، نظرت إلى حياتي ومدى ملاءمتها للدور الذي لطالما تمنيته لنفسي كأب. وبعد الكثير من التفكير والمناقشات مع زوجتي، قررت التنازل عن أحلامي بالوصول إلى منصب وظيفي في الإدارة التنفيذية العليا، وعزمت على سلك مسار أكثر ملاءمة لنمط حياتي الشخصية. لطالما أردت أن أكون أباً بالمعنى الحقيقي للكلمة وأن أقدم يد العون لأطفالي بطرق يعجز عنها الكثير من الآباء. وهأنذا أب لفتاتين أصطحبهما إلى المدرسة وآخذهما إلى تدريبات التنس، وأجهّز لهما العشاء، وأقرأ لهما القصص. لذا أعتقد أن تجربتي تُثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه بإمكان المرء إجراء تغييرات في منتصف حياته المهنية، مهما بدت هذه التغييرات مخيفة وصعبة وتنطوي على عنصري المخاطرة والحظ.

وإذا فكرت في أولوياتك ووجدت أن مجالك المهني لم يعد ملائماً لظروفك، فقد يكون هذا مؤشراً على ضرورة تغيير حياتك المهنية للحصول على المزيد من الوقت لحياتك الشخصية وممارسة دورك كأب. ومن مزايا وصولك إلى مرحلة الحصاد أنك صرت قادراً على الإمساك بزمام حياتك المهنية. فعند هذه النقطة ستكون لديك شبكة واسعة من المعارف، وسمعة طيبة، وقدرة على التواصل مع أصحاب العمل على اختلاف توجهاتهم واستكشاف فرص العمل المتاحة. والأهم من ذلك، أنك ستكون قادراً على إعادة التفاوض حول أنسب الشروط الملائمة لوضعك الحالي.

كيفية التعامل مع ضغوط الآباء العاملين

وإذا كنت منفتحاً على إعادة التفكير في حياتك المهنية لإتاحة الوقت اللازم لممارسة دورك كأب قادر على الإسهام البنَّاء في حياة أطفالك، فهناك العديد من المسارات التي يجب مراعاتها. وهذا لا يعني بالضرورة أنك تحتاج إلى إجراء تغييرات هائلة لكي توازن بين حياتك العملية والشخصية. فقد يكون تغيير العقلية كافياً في بعض الأحيان. ابحث عن الفرص المتاحة للتغيير في إطار وظيفتك الحالية أولاً، وإذا دعت الحاجة إلى إجراء تغييرات أكبر، فاعمل على التوسع في التغييرات انطلاقاً من هذه النقطة.

ارفق بنفسك

خلصت إيمي سالتزمان في كتابها عن الواقعية المهنية إلى أن الغرور غالباً ما يكون العائق الأكبر في حياة الإنسان.

تقول سالتزمان: “إن التحدي الأكبر لمُحبي الاتجاه الواقعي هو التغلب على الفكرة القائلة بأن الآخرين سينظرون إليهم على أنهم فاشلون… غالباً ما يمثل التراجع تتويجاً لمعركة مريرة بين الاحتياجات الشخصية والتوقعات المهنية”. وتتضح وجهة نظرها من خلال معضلة هذا الأب:

تكوّنت عني سمعة بأنني شخص أعمل بجدية متناهية، إذ كنت أواصل الليل بالنهار حتى أنجز المهمة الموكلة إليّ. وبعد إنجاب ابني، أردت قضاء المزيد من الوقت في المنزل والمساهمة بصورة بنّاءة في الحياة الأسرية. لذا قررت أن أغادر مقر العمل في تمام الساعة 3:30 عصراً لمدة يومين في الأسبوع وأن أتناول العشاء مع ابني، ثم أستحم وأقرأ قصص ما قبل النوم معه، ثم أعود إلى العمل في الساعة 8 مساءً لإنهاء مهماتي… ولكن ما الذي سيظنه بي الآخرون؟ هل ستتضرر سمعتي “كشخص يعمل بجدية متناهية”؟ وجدت نفسي أتوق إلى تبرير سلوكي هذا وشرحه، على الرغم من أن أحداً لم يقل لي كلمة واحدة عن جدول مواعيدي الجديد.

يتطلب الأمر إحساساً قوياً بالذات لإعادة النظر في مفهوم النجاح المهني من خلال التفكير في التغييرات التي تتواءم بشكل أفضل مع أولوياتنا.

فكّر في العمل المرن والعمل عن بُعد

غيّرت جائحة “كوفيد-19” مكان العمل جذرياً. وتسمح الشركات الآن بالعمل عن بُعد، بل وترحب به بشدة في أغلب الأحيان بعد أن كانت تقابله بالرفض القاطع في السابق. يتيح هذا الاتجاه الكثير من فرص التفاوض لإضفاء المزيد من المرونة على منصبك الحالي. قد تفضِّل الاستفادة من السياسات الرسمية للمرونة أو تحبّذ الحصول بكل بساطة على مزيد من الاستقلالية بما يتعلق بمكان العمل وزمانه. وهكذا سيتحسن موقفك التفاوضي إذا كان لديك سجل إنجازات حافل بالنجاحات في العمل من المنزل خلال الجائحة.

وإذا تخلصت من الحاجة إلى التنقل جيئة وذهاباً طوال أيام الأسبوع، فسوف توفّر على نفسك الوقت والمال، كما أن العمل من المنزل يتيح لك اكتساب المرونة اللازمة لحضور المناسبات الأسرية (بالإضافة إلى حضورك الدائم في المنزل لتناول العشاء في الوقت المناسب). وتلجأ الكثير من الشركات الآن إلى تعيين موظفين يسكنون خارج مناطقها الجغرافية المحلية، وهو ما يتيح أمامك مجالاً أوسع للعثور على فرص العمل المناسبة ويعزز قدرتك على الانتقال إلى أماكن منخفضة التكلفة المعيشية.

أعطِ الأولوية لأصحاب العمل المتفهمين لظروف الآباء

إذا لم تسمح لك الخيارات المتاحة في عملك الحالي بالمرونة التي تنشدها، فابحث عن أصحاب العمل ذوي السمعة الطيبة في دعم أولويات حياة موظفيهم. ويمكنك الاستعانة بقوائم أفضل أصحاب العمل المدرجين على قائمة “فورتشن 100″، وموقع “غلاس دور” (Glassdoor)، و”أفضل 50 شركة للآباء العاملين” (Fatherly 50 Best Companies for Working Fathers)، و“مجلة الأم العاملة” (Working Mother Magazine). ويمكنك الاستعانة أيضاً بشبكة معارفك لتقديم رؤى قيمة حول الملاءمة الوظيفية للثقافة السائدة في الشركات. وأخيراً، اطرح أسئلة حول مدى مساندة المؤسسة للآباء العاملين، وما إذا كانت تراعي كافة الظروف الشخصية والمهنية للموظف، أياً كان المكان الذي تقدم فيه أوراقك أو تجري فيه مقابلة شخصية.

فكّر في قطاعات العمل الأخرى

قد تكون هناك وظائف مماثلة لوظيفتك لدى شركات أخرى ذات ثقافة مؤسسية ومواعيد عمل مختلفة تماماً. فعلى سبيل المثال، غالباً ما توفّر الشركات المساهمة العامة التي تراعي مصالح المساهمين بالدرجة الأولى بيئات عمل تحفل بالضغوط الهائلة وتُلزِم الموظف بتكريس كل وقته للعمل ولا توفر الأمان الوظيفي بالقدر الكافي. في حين أن شركات الأشخاص وشركات القطاع الخاص تتبنى الرؤى طويلة الأجل فيما يتعلق بالشؤون الحياتية للموظفين. أما شركات القطاع العام والمؤسسات غير الربحية، فلا تستطيع تقديم الأجور التي تقدمها الشركات الهادفة للربح، ولكنها تحاول تعويض هذا الأمر بمنح مرونة أكبر. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تتطلب وظيفة مراجع الحسابات في إحدى كبرى شركات المحاسبة أن يكرّس الموظف وقته للعمل بصورة أكبر من وظيفة مراجع الحسابات في إحدى المؤسسات الحكومية التابعة للدولة. وقد تجد أن تقديم بعض التنازلات بالحصول على راتب أقل نظير تقليل ساعات العمل هو تحول مهني مقبول بالنسبة لك.

فكّر في التنازلات المالية المتاحة وحاول التكيف معها

عادةً ما تأتي المسارات المهنية التي تتيح لك الحضور لأطول وقت ممكن في المنزل مصحوبةً بدرجات وظيفية منخفضة ودخل أقل. ولا بد أن تعمل أنت وزوجتك على تقييم العواقب المالية والتأكد من أن أسرتك لن تتأثر كثيراً من الناحية المالية عند الإقدام على اختيار مسار كهذا. يستلزم هذا الاختيار دراسة وضعك المالي بعناية، وقد يستدعي تقديم بعض التنازلات وخفض النفقات الأسرية بشكل كبير. ولا بد من إجراء مناقشات أسرية صادقة لأن اختياراتك قد تؤثر على الحياة المهنية لزوجتك وعلى أوجه الإنفاق الرئيسية، مثل السكن ورعاية الأطفال والتعليم الجامعي، وقد تؤثر أيضاً في قدرتك على تدبير مصروفات الإجازات الأسرية والأنشطة الترفيهية. يجب أن يشارك الجميع في اتخاذ هذا القرار. وقد توصلت بحكم خبرتي إلى أن الكثير من الأُسر تقبل بكل سعادة خفض نفقاتها إذا كان ذلك يعني قضاء المزيد من الوقت مع الأب في جوٍّ خالٍ من التوتر. ويوضح الرجال المُشار إليهم في هذه المقالة أن أفضل طريقة للخروج من المزلق المهني للآباء العاملين هي تقييم مسارك المهني، وتقييم ما إذا كانت حياتك المهنية تناسب الدور الذي لطالما تمنيته لنفسك كأب، واتخاذ الخطوات اللازمة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، لمواءمة اختياراتك المهنية مع أولوياتك وذلك من أجل التعامل مع ضغوط الآباء العاملين بطريقة صحيحة.

هذه المقالة منقولة بتصرف من سلسلة كُتب “الآباء العاملين” المرتقب صدورها عن “هارفارد بزنس ريفيو” تحت عنوان “نصيحة للآباء العاملين” (Advice for Working Dads).

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .