“ألفاغو” وتراجع ميزات الشركات الكبرى

5 دقائق
برنامج ألفاغو وتراجع ميزات الشركات

في آذار/مارس عام 2016 حقق علم "تعلّم الآلة" – وهو أحد فروع الذكاء الاصطناعي- قفزة نوعية عندما تمكن برنامج "ألفاغو" (AlphaGo) التابع لشركة "جوجل"، وهو خوارزمية آلية، من التغلب على لي سيدول، بطل العالم في لعبة "غو". لعبة "غو" هي لعبة صينية قديمة يعود تاريخها إلى حوالي 3,000 سنة، تُستخدم فيها رقعة شبكية مقسمة إلى 19 مربعاً طولاً وعرضاً، ويحاول كل لاعب فيها السيطرة على منطقة الخصم. فماذا عن برنامج "ألفاغو" وتراجع ميزات الشركات؟

على عكس لعبة الشطرنج الغربية التي يصل عدد مرات نقل القطع فيها إلى حوالي 40 مرة في أثناء اللعبة الواحدة، فعدد النقلات في لعبة "غو" قد يصل إلى 200 نقلة. وسرعان ما يتضاعف عدد النتائج المحتملة إلى قيمة محيرة قد تبلغ 10761– وهو رقم يفوق العدد الكلي للذرات في كامل الكون المرئي. كان يُعتقد أن الأمر سيستغرق 10 سنوات أخرى قبل أن تتمكن الآلة من التغلب على البشر في لعبة "غو".

وأكثر ما يثير الانتباه هو تحوّل برنامج "ألفاغو" إلى آلة يمكنها أن تحسن من أدائها يوماً تلو الآخر، دون أي إشراف من مبرمج بشري على ذلك. الأمر أشبه بطائرة يمكنها التحليق أسرع وأسرع دون مساعدة المهندس. كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

تعلم الآلة بين الماضي والحاضر والمستقبل

البيانات المهيكلة

عندما بزغ علم "تعلم الآلة" كان يستعمل في التحليل التنبؤي للبيانات بهدف معرفة كيف نقوم بالنقر أو بالشراء. لقد حسنت الآلات من الطرق التي تستخدمها الشركات لإرسال البريد الإلكتروني، ولإجراء المكالمات، أو لتقديم خصم، أو التوصية بمنتج ما، أو عرض إعلان، أو لتفحص العيوب، والموافقة على القروض. ينطوي تعلم الآلة على التنقيب عن بيانات إحصائية تكشف بدورها عن أنماط غير معروفة سابقاً لتقدم بالتالي توصيات باتخاذ بعض الإجراءات الفورية. والجانب السلبي لهذا النهج هو أنه يعتمد على السياق. ولهذا السبب فقد صُممت معظم الخوارزميات لغرض فردي، كبرنامج "ديب بلو" (Deep Blue)، الذي استطاع التغلب على غاري كاسباروف، وهو أستاذ شطرنج كبير سابق، لكنه لم يكن مجدياً لأي غرض آخر. بالنسبة لآلات الجيل الأول هذه، لم يكن تعلم الآلة ممكناً إلا من خلال المراقبة المستمرة التي يقوم بها علماء الحاسوب والإحصائيون. كان لا بد من عنونة البيانات وتحديد الأهداف. لا يمكن استخدام تصميم البرنامج ذاته لحل مشاكل مختلفة، ولا يمكن للخوارزمية أن تفهم البيانات غير المهيكلة المعبر عنها بلغة الإنسان الطبيعية.

اللغات الطبيعية

عندما تمكن نظام "آي بي إم واتسون" (IBM Watson) من التغلب على كين جينينغز وبراد روتر البطلين السابقين لبرنامج المسابقات "جيوباردي!"(Jeopardy) في شباط/فبراير 2011، أصبح جلياً أنه يمكن لتعلم الآلة تجاوز حدود التركيز على فكرة وحيدة والتعامل مع البيانات الغامضة وغير المهيكلة. بالإضافة إلى المعرفة الحقيقية في مختلف المحاور والمواضيع، يتطلب خوض المنافسة في برنامج "جيوباردي!" التمتع بالقدرة على فهم المعنى الدقيق، والمفارقات الساخرة، والألغاز، واللغة العامية، والاستعارة، والنكات، والتورية، وغيرها من التعقيدات اللغوية. يعتمد المعنى على ما قيل مسبقاً، وعلى الموضوع بحد ذاته، وكيف تتم مناقشته. وفي نهاية مباراة "جيوباردي!" التي استغرقت يومين، تمكن برنامج واتسون من تجميع رصيد مالي بلغ 77,147 دولار، وهو مبلغ يزيد بثلاثة أضعاف عن رصيد خصمه البشري. وفيما بعد، صرح جينينغز الذي حصل على المرتبة الثانية قائلاً: "كما تم القضاء على وظائف المصانع في القرن العشرين عندما استبدلت روبوتات خطوط التجميع بالعمال، كنت أنا وزميلي براد أول عمال في صناعة المعرفة تم تنحيتهم من قبل الجيل الجديد لآلات التفكير".

لكن حالياً، يقوم برنامج واتسون بتعزيز عمل الخبراء بدلاً من استبدالهم. على سبيل المثال، توفر الخوارزمية بحثاً وتوصيات سريرية لعلماء الأورام، الذين لا يحتاجون سوى وصف أعراض المريض إلى برنامج واتسون بلغة إنجليزية واضحة، عبر تطبيق على جهاز "آيباد". وعلى الرغم من أن برنامج "آي بي إم واتسون" لا يعتمد على قواعد مشفرة، فإنه يتطلب مراقبة عن كثب من خبراء المجال المعني من أجل توفير البيانات وتقييم أدائه. وقبل أن يُعرض برنامج واتسون على علماء الأورام لاستخدامه، كان قد زُوّد يدوياً بـ 25 ألف سيناريو لحالات اختبار، و1,500 حالة واقعية، و605,000 نص من الأدلة الطبية، و2 مليون صفحة نصية. أمضت الممرضات أكثر من 14,700 ساعة في التدريب على الخوارزمية بإمعان. استغرق كل هذا الكثير من الوقت والمال والتفاني.

التعلم العميق

قبل أن يلعب برنامج "ألفاغو" مع الإنسان، كان باحثو "جوجل" قد طوروه لتشغيل ألعاب الفيديو أمثال "سبيسإنفيدرز"(Space Invaders)، و"بريك آوت"(Breakout)، و"بونغ"(Pong)، وغيرها. بُرمج "ألفاغو" للحصول على مكافآت إيجابية على هيئة نقاط ولتحسين نظامه باستمرار من خلال لعب ملايين الألعاب ضد إصدارات معدلة منه هو نفسه. كانت الخوارزمية قادرة على إتقان كل لعبة من خلال التجربة والخطأ - بداية بالضغط على أزرار مختلفة عشوائياً، ثم عبر اكتشاف استراتيجية مناسبة وتطبيقها دون الوقوع في أي خطأ. استطاع برنامج "ألفاغو" من تحقيق ذلك لأنه يعتمد على شبكة عصبية عميقة - شبكة من الأجهزة والبرامج الحاسوبية التي تحاكي شبكة العصبونات في الدماغ البشري. ليست الفكرة بجديدة؛ فقد ناقشها علماء الحاسوب لأكثر من 20 عاماً. لكن نظراً إلى التقدم في القوة الحاسوبية، أصبح التعلم العميق عملياً، وتصدَّر "ألفاغو" ليكون أول برنامج يحقق محاكاة مذهلة للتفكير الحدسي.

التأثير على الشركات الكبرى

أثبت "ألفاغو" أن ظهور آلات قادرة على التعلم مع توفر الحد الأدنى من إشراف الخبراء والمبرمجين هو أمر حتمي. وكما أظهر برنامج "آي بي إم واتسون"، فإن الآلات سوف تستوعب كميات ضخمة من المعلومات والبيانات بأي صيغة، سواء مهيكلة أو غير مهيكلة، عبر مجموعة واسعة من المصادر. ستنخفض تكلفة التنفيذ باستمرار. وستزداد سرعة تنسيق المعاملات التجارية داخل وخارج المؤسسة، وخلال ذلك سيزول الاحتكاك المؤسسي، ويسهُل التعاون في السوق.

ولهذه الأسباب، ستكون الشركات الكبرى التي تتمتع بميزة التكامل الرأسي أول الراحلين. وستصبح المقترحات التقليدية من أمثلة "المتاجر متعددة الخدمات" أو "اختيار أفضل سلاسل التوريد" أموراً شائعة يمكن تطبيقها بسهولة من قبل صغار اللاعبين في السوق أو المنافسين الجدد في عدد من القطاعات.

لنأخذ في الاعتبار مثلاً التبادل الإلكتروني للبيانات (EDI) وغيره من الأنظمة المطبقة على نطاق واسع بين المؤسسات التي تتيح التواصل الفوري مع الموردين والزبائن والمتخصصين في الخدمات اللوجستية. إن الأنظمة التي تنتجها شركة "ساب" (SAP) و"أوراكل" (Oracle) أنظمة ضخمة ومكلفة ومن الصعب استخدامها ودمجها. وقد ثبت تاريخياً أن الشركات الكبرى فقط أمثال "وول مارت" و"بيست باي" (Best Buy) لديها ما يكفي من النفوذ والقدرة على المساومة لتفرض على مورديها استخدام تلك الأنظمة. وبمجرد وضعها موضع التنفيذ، تبقى تلك الأنظمة بحاجة إلى مجموعة من المتخصصين لمراقبة الإجراءات الإدارية باستمرار، وتعديلها والتوصية بها، وكذلك نشرها تتابعياً ضمن المؤسسة.

بالمقابل، يقل تعداد الفريق الذي طور برنامج "ألفاغو" عن 50 شخصاً. البرنامج صغير الحجم نسبياً، ولا يتطلب سوى تدخل بشري بسيط بمجرد تنصيبه، ويمكن تطبيقه على مشاكل من مختلف المجالات.

من السهل تخيل عالم تؤدي فيه الخوارزميات ذاتية التعلم دوراً أكبر في تنسيق العمليات التجارية والاقتصادية؛ يبين لنا برنامج "ألفاغو" ببساطة ما سيكون ممكناً في المستقبل القريب. الآن ومن خلال إجراءات الضبط الفوري والتحسين الذاتي والمستمر، التي تدار جميعها بتأنٍ من قبل تلك الخوارزميات غير الخاضعة للإشراف، يجب أن يصبح الفائض في الإنتاج والهدر في سلاسل التوريد مجرد صفحة مطوية من الماضي. وإثر التحرر من الضغط لتحقيق التكامل الرأسي، ومع الحاجة إلى الحدود الدنيا فقط من التنسيق ضمن المؤسسة، سيتمكن اللاعبون الصغار في السوق من التخصص في أفضل الخدمات وتقديم حلول متخصصة للغاية في الوقت الحقيقي عندما تنشأ مطالب محددة.

أما الأسئلة التي تلوح في الأفق بالنسبة للشركات الكبرى غير المتخصصة بالتكنولوجيا، فهي: 1) ما هي الكفاءات الأساسية لمؤسستي عندما لا يعود الحجم مهماً؟ 2) ما مقدار الخبرات الإدارية في مؤسستي التي تفرغ نفسها كلياً لقضية تنسيق السوق؟ 3) إذا كرر المنافسون الجدد هذه القدرات عن طريق استبدال الخبراء البشريين بخوارزميات الآلة، فما هو هيكل التكلفة الخاص بي مقارنة بهم؟ 4) وبالذهاب أبعد، ما هي العروض الجديدة التي يمكنني تقديمها فيما لو تم توزيع المنتج بطريقة ديموقراطية؟ 5) هل بإمكاني المشاركة مع جهات فاعلة جديدة لأعيد دمج قدراتي الحالية من أجل دخول أسواق جديدة؟

والأمر الأكثر إثارة بالنسبة لي في موضوع برنامج "ألفاغو" وتراجع ميزات الشركات هو وجود احتمال أكبر لإدراج تقنيات تعلم الآلة الشبيهة ببرنامج "ألفاغو" لتكون جزءاً أساسياً داعماً في الاقتصاد العالمي. عندما تربط الخوارزميات التي لا تتوقف أبداً عن التعلم بين الشركات ذات الصلة، والمنظمات غير الحكومية، والهيئات الحكومية، فقد تتيح الفرصة لظهور أنظمة بيئية جديدة تعالج أصعب المشكلات المجتمعية، تلك التي تتعثر حالياً بسبب التعقيد وتشتت الجهات الفاعلة في مجالات مثل الطاقة والنقل والرعاية الصحية والتعليم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي