في الماضي كان يُنظر إلى أسعار النفط المنخفضة كنعمة خصوصاً في محطات البنزين. وكان يُنسب لها الفضل في تدعيم الاقتصاد وتحريك النمو. لكن أسعار النفط انخفضت جداً مؤخراً إلى درجة دقت ناقوس الخطر في الأسواق العالمية التي لا تزال متقلبة. فماذا يعني كل ذلك للبلدان والشركات؟ وما حجم المخاطر المحدقة بها؟ وما هي رهانات الاقتصاد بعد انخفاض أسعار النفط؟
حوار مع إيان بريمر حول انخفاض أسعار النفط
للإجابة عن هذين السؤالين تحدثت إلى إيان بريمر (Ian Bremmer) رئيس شركة الاستشارات "أوراسيا غروب" (Eurasia Group) ومؤلف كتاب "القوة العظمى: 3 خيارات لدور أميركا في العالم" (Super power: Three Choices for America’s Role in the World). فيما يلي نص الحوار.
هارفارد بزنس ريفيو: هل ترى الانخفاض المستمر في أسعار النفط يمثل مخاطرة؟ كيف يكون ذلك مخاطرة وإلى أي حد؟
بريمر: لم تعرف الأسواق مؤخراً هبوطاً حاداً في أسعار النفط لأنه تم تجاوز ذلك الوعي التقليدي بعلاقة الأسعار بالنمو، إذ لا تزال أسعار النفط المنخفضة مفيدة لاقتصاد الولايات المتحدة وأوربا والصين والهند أيضاً. إن جميع هؤلاء المستهلكين سيستفيدون. لكن المشكلة هي أن صندوق النقد الدولي خفَّض توقعات النمو فالصندوق قلق من العرض النقدي وتباطؤ النمو في الصين، والأزمات في أوروبا، كما أن النمو في الولايات المتحدة ليس قوياً بالشكل المرغوب فيه.
إن مخاطر أسعار الطاقة المنخفضة لها علاقة وثيقة باستقرار بعض الحكومات التي تتوقف شرعيتها وسلطتها على إيرادات المواد الأولية. ستعجز فنزويلا في الأشهر الستة القادمة عن دفع ديونها إذا لم يجد الصينيون الموارد الضرورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كما أن روسيا باعتبارها من كبار منتجي النفط، تشعر بالضغوط - على الرغم من أنه لا يوجد خطر مزعزع للاستقرار، فبوتين يسيطر تماماً على الوضع، لكن الضرائب والتضخم سيرتفعان. وستحتاج نيجيريا إلى برنامج جديد من صندوق النقد الدولي.
لكن الأكثر إثارة للقلق، طبعاً، هو وضع الدول النفطية في الشرق الأوسط وبلدان الأسواق الناشئة المنتجة التي لها مؤسسات هشّة، وتحاول الحفاظ على استقرارها بينما يعتبر مصدر شرعيتها الوحيد - قدرتها على دفع مبالغ مالية كبيرة- معرضاً للانهيار. وزيادة على ذلك فإن العقوبات على إيران ستُرفع ما سيؤدي إلى رفع الإنتاج الإيراني والعراقي ثم الليبي. وستظل الأسعار منخفضة لبعض الوقت، فهذه مسألة بنيوية.
هناك علاقة محتملة بين استمرار انخفاض أسعار النفط ومخاطر ركود اقتصادي عالمي جديد. هل يمكن أن تؤدي أسعار النفط حالياً إلى المزيد من المخاطر المُفضية إلى تباطؤ الأعمال؟
لا أعتقد ذلك. أعلم أن الناس يقولون إننا عشنا ركوداً كل 7 أو 8 سنوات في المعدل خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وأن آخر ركود هو ذاك الذي شهدناه في 2008 ونحن الآن في موعد ركود آخر. ويرى الجميع اليوم كل العوائق الاقتصادية أمام النمو عبر العالم. ويكتسب هذا الواقع كله بعض الزخم في نشرات الأخبار، ثم يجعل انخفاض أسعار النفط الناس أكثر سلبية. لكن هذا يختلف تماماً عن القول بأننا على عتبة ركود عالمي جديد، إذ لا يبدو وكأننا على مشارف الدخول إلى بيئة من هذا النوع في الوقت الراهن، سواء بعلاقة مع أسعار النفط أم دونها.
هل تعتقد أن أسعار النفط المنخفضة قد تبطئ عملية الانتقال من مرحلة الوقود الأحفوري وتقلل الطلب على السيارات الكهربائية والتحول نحو الطاقة الشمسية والريحية وغيرهما من مصادر الطاقة المتجددة؟
من الواضح أن تغير الأسعار يؤخر اليوم الذي من المتوقع فيه أن تنتشر هذه البدائل وتصبح بدائل فاعلة مهمة في سوق عالمية واسعة، لكنني لا أعتقد أن هناك أي احتمال لتوقف أو تباطؤ حاد لعملية الانتقال نحو الطاقات المتجددة. لقد تجاوزنا هذا الاحتمال. واقتنعت مختلف الحكومات عبر العالم بفكرة التغير المناخي وأصبحت تؤمن أن الوضع سيزداد سوء. وستبقى مصادر الطاقة المتجددة الصناعية هائلة.
لا بد أن نستحضر في الأذهان أن الصين مثلاً تحتاج إلى الكثير من الطاقة. فالنمو والطلب عليها هناك هائل. والصينيون يستثمرون في الطاقة النووية أكثر من أي بلد آخر في العالم. ولن يتوقفوا عن ذلك بسبب انخفاض أسعار الطاقة. فهم يعلمون أنهم في حاجة إلى الطاقة النووية. سينتجون قدراً هائلاً من الطاقة الريحية والشمسية وسيؤدي ذلك إلى تشجيع إنجاز الكثير من البحوث وجني فوائد تكنولوجية للاقتصاد أيضاً.
أثرْتَ في تغريداتك وتعليقاتك من "دافوس" ملاحظة حول ما يسمى"الثورة الصناعية الرابعة". ما علاقة ذلك بما يجري في مسألة أسعار النفط؟
يُقصد بالحديث عن "الثورة الصناعية الرابعة" مسائل مثل الأتمتة والذكاء الاصطناعي وعلم الجينوم والطباعة ثلاثية الأبعاد، التي ستغير كل القطاعات وتقضي على الوظائف. ويعتقد معظم من تحدثت إليهم في "دافوس" أن هذا التحول سيحدث خلال 10 سنوات حيث سنشهد تغييرات جذرية في طريقة تفكيرنا في هذه القطاعات وفي مفهوم العمل.
أتفق عموماً مع هذا الرأي لكن الثورة بدأت مسبقاً في التأثير على قطاع الطاقة حالياً. لقد كنا إلى الأمس القريب نظن أننا وصلنا إلى ذروة استهلاك النفط، وكنا نعتقد أن النفط على وشك النفاد، وأن مصيرنا سيكون بيد المنتجين التقليديين. وفجأة بين عشية وضحاها أصبح الأمر بيد عدد من رواد الأعمال الذين أطلقوا العنان للسوق الأميركية. وانتقلت تقنية التكسير الهيدروليكي- تستعمل في التنقيب عن النفط في الصخور- في غضون بضع سنوات من فكرة مستحيلة التحقق إلى تقنية تغير العالم.
وأصبحت أميركا اليوم أكبر منتج للطاقة في العالم. ويطرح هذا الواقع مشكلة بالنسبة لبلد مثل المملكة العربية السعودية التي لا يقوم اقتصادها على العمل وإنما على النفط. ولو كنت تحدثت إلى القادة السعوديين قبل عام من الآن حول هذا التحول لقالوا لك "هذا حلم بعيد المنال". لم يستعدوا لهذا الواقع خلال العقود الماضية عندما كانت الأوضاع الاقتصادية على ما يرام. وانقلب الزمن فجأة ضدهم وبسرعة. وليست الثورة الصناعية الرابعة بالنسبة لهم مزعزعة فقط، بل هي مزعزعة جداً وفي ظرف سريع.
كيف يتعين علينا أن ننظر إلى حقيقة أن أميركا أكبر منتج للنفط في العالم اليوم؟ وكيف يغير ذلك رؤية الولايات المتحدة أو سلوكها؟
نحن نحب هذه الحقيقة، نحبها كثيراً. والمهم فيها هو أننا لم نعد منتجين للطاقة المرتفعة الأسعار، بل ننتج الطاقة متوسطة الأسعار. كنا من منتجي الطاقة المرتفعة الأسعار قبل سنة أو سنتين مضت، لكن قطاع التكسير الهيدروليكي غير هذا الوضع. فأصبحت الطاقة المنتجَة تنافسية ولا مركزية جداً. كما أصبحنا أكثر كفاءة في الإنتاج منخفض التكلفة بسبب ضغوط السوق.
ضع في اعتبارك أيضاً أن الطاقة مجرد مكون صغير نسبياً في اقتصاد الولايات المتحدة. وعندما نتحدث عما يحرك اقتصاد الولايات المتحدة فإننا نذكر القطاع المالي وتقنية المعلومات - "آبل" و"فيسبوك" وغيرهما. وتبقى أسعار النفط المنخفضة في كل الأحوال فائدة خالصة بالنسبة للولايات المتحدة. وهذا أمر صحيح سواء من زاوية الرؤية الاقتصادية الكلية أو بالنسبة لدافع الضرائب العادي. فانخفاض أسعار الوقود في محطات البنزين يعادل إعفاء ضريبياً مهماً بالنسبة للفئات العاملة والطبقة الوسطى الأميركية. فالكثير من هؤلاء الأميركيين لا يزال يدفع مصاريف كبيرة لتغطية تكاليف التنقل من المنزل إلى العمل ذهاباً وإياباً.
دارت العديد من النقاشات حول موضوع الرابحين والخاسرين من انخفاض أسعار النفط. من الواضح أن الخاسرين هم المنتجون والبنوك. والرابحين هم المستهلكون، ويعتبر الاقتصاد عادة رابحاً أيضاً من هذا الانخفاض. هل نسينا أن نذكر معنيين آخرين؟ هل هناك خاسرون ورابحون غير معروفين؟
يعتبر الرئيس الصيني شي جينبينغ رابحاً كبيراً. هذا رجل يحتاج إلى تحويل اقتصاد بلاده ويحتاج أيضاً إلى الخروج من مرحلة ضعف الكفاءة لكنه لا يريد وضعاً يشوبه عدم الاستقرار. إن أسعار الطاقة المنخفضة جداً تسمح له بتخفيف الكثير من المعاناة التي ستواجهها الصين بسبب إصلاحاتها، الهادفة إلى الانفتاح فعلياً على المزيد من ضغوط السوق والاستجابة لها دون اللجوء فقط إلى سحق المواطنين سحقاً بالقيود التي ستفرضها عليهم. وأعتقد أن هذا الأمر يمثل فائدة حقيقية للرئيس الصيني.
أود أن أقول أيضاً أن الناس كانوا قلقين من التباطؤ الكبير للأعمال في الصين. وكانوا يتابعون تنامي المعوقات الاقتصادية عبر العالم، بعد أن اتخذت زخماً في نشرات الأخبار خلال الشهور الأخيرة. ثم إن رؤية أسعار النفط تهبط بحدة ثم تبقى منخفضة يجعل الناس أكثر قلقاً. لكن الصين تمتلك الأدوات للتصدي لذلك. إذ تستطيع الحكومة استخدام المزيد من الحوافز من احتياطياتها التي تتجاوز 3 تريليونات دولار. تستطيع الصين أيضاً، وعلى عكس الولايات المتحدة، أن تطلب من المشاركين في السوق الصينية حالياً تخصيص رؤوس أموال لمواصلة دعم السوق والنمو. وسيقود ذلك إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي والسياسي وسيتيح للصين الاستمرار في الإصلاحات بقوة. وتساعد أسعار النفط المنخفضة بالتأكيد في ذلك.
أخيراً، ما هي النقاط الاستراتيجية التي تحتاج الشركات إلى التفكير فيها وفهمها فيما يخص نتائج أسعار النفط المنخفضة؟
إن الأهم في هذه القضية هو أننا نحتاج إلى الاعتراف بأن تركيزنا على النمو سيقل، بينما سيزيد تركيزنا في القدرة على التحم بما أننا ندخل عالماً يتميز بالمزيد من التقلبات الجيوسياسية والتكنولوجية. هذا لا يعني أنه لن تنطلق نماذج كبيرة من الشركات الناشئة وتظهر تقنيات جديدة ومؤسسات أخرى، لكن بصفة عامة يتعين على عموم المستثمرين والشركات أن يدركوا أن جودة النمو ستتراجع.
هذا عالم أكثر تقلباً، تقوده أسواق ناشئة أكثر هشاشة، تختفي فيه فرص العمل ويصبح الاستهلاك الناتج عادة عن هذا العمل أمراً يصعب ضمانه. إنه عالم تريد أن تضمن فيه عموماً الحفاظ على أموالك، وأن تكون الأسواق التي تتعامل معها أكثر استقراراً، وتستطيع فيه أيضاً التنبؤ بظروف السوق بشكل أكثر فعالية مع مرور الوقت. أعتقد أن الناس سيركزون أكثر في القدرة على التحمل فيما يخص استثماراتهم، وكذلك في مقاومة الهشاشة وفي الاستقرار.
وفي نهاية الحديث عن رهانات الاقتصاد بعد انخفاض أسعار النفط، إن هذا العالم يتغير من عالم يحركه الاقتصاد إلى عالم تحركه السياسة أكثر، وتتغير الأسواق بدورها بناء على هذا التوجه. وسيخلق هذا الأمر بعض التحولات الكبيرة.