بعد 20 عاماً، لا يزال من الصعب تجاهل الجانب المظلم للاقتصاد الرقمي

6 دقائق
تجاهل الجانب المظلم للاقتصاد الرقمي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في عام 1995، نشرتُ كتابي “الاقتصاد الرقمي” (The Digital Economy)، الذي أصبح أحد أكثر الكتب مبيعاً بالنسبة للمواضيع التي تناولت شبكة الإنترنت في مجال الأعمال. واحتفالاً بذكرى مرور 20 عاماً على إصداره، طلب مني ناشر الكتاب كتابة عدة فصول صغيرة للطبعة الجديدة. فماذا عن تجاهل الجانب المظلم للاقتصاد الرقمي؟

مصطلح “الاقتصاد الرقمي”

في أثناء إعادة النظر في الكتاب، أدهشني إلى أي مدى وصلنا منذ عام 1995 وكم من المفاهيم الواردة في الكتاب صمدت أمام اختبار الزمن، حتى أن مصطلح “الاقتصاد الرقميّ” نفسه أصبح جزءاً من اللغة الدارجة المتداولة.

كان الكتاب منبهراً بالفعل بشأن الفرص التي تقدمها الثورة الرقمية، لكنه حذر بنفس القدر من بعض المخاطر الهائلة التي تنتظرنا – وقد ظهر هذا الجانب المظلم بالفعل خلال العقدين الأخيرين. في ذلك الوقت، كتبت ما يلي:

إن عصر الذكاء الشبكي هو أيضاً عصر الخطر، فبالنسبة للأفراد والمؤسسات والمجتمعات التي تتخلف عن المسيرة، ستكون العقوبة سريعة. فالتغيير لا يؤثر فقط على قواعد العمل القديمة، ولكن أيضاً على الحكومات والمؤسسات الاجتماعية والعلاقات بين الأشخاص، وكل هذه العوامل تخضع للتغير. فوسائل الإعلام الجديدة تعمل على تغيير الأساليب التي نمارس بها الأنشطة التجارية، وغيرها من طرق العمل والتعلم واللعب وحتى التفكير. تُعد الساحة الرقمية، أكثر بكثير من الحدود الغربية القديمة، مكاناً حافلاً بالتهور والارتباك وعدم اليقين والكثير من الكوارث والمخاطر.

تشير بعض الدلائل إلى تبلور اقتصاد جديد تتركز فيه الثروة بشكل أكبر، وتتلاشى فيه بعض الحقوق الأساسية مثل الخصوصية، وتؤدي دوامة العنف والقمع فيه إلى تقويض الأمن وتهديد الحريات الأساسية. كما توجد أدلة واسعة الانتشار تشير إلى أن النسيج الاجتماعي الأساسيّ أيضاً آخذ في التفكك، حيث أثبتت القوانين والأسس والقواعد والمنهجيات القديمة أنها غير كافية لتكون موجودة في عالم الاقتصاد الجديد. وعلى الرغم من انهيارها أو تحطمها، فليس من الواضح تماماً ما الذي سيحل محلها. بدأ الناس يتساءلون في كل مكان: “هل هذا العالم الأصغر الذي سيرثه أطفالنا سيكون بالفعل عالماً أفضل؟

تشويه الفوائد الرئيسية للاقتصاد الرقمي

على الرغم من أن الثورة الرقمية جلبت لنا العديد من الإنجازات الرائعة، إلا أن رأيي المتشائم إلى حد ما هو أن “الوعد” بعالم أكثر إنصافاً وعدلاً واستدامة لم يتحقق. لقد أصبح من الواضح أن البنية الديمقراطية الأصلية للإنترنت تم التلاعب بها وفق إرادة الاقتصادات والمجتمعات، بحيث لا يتم توزيع السلطة بها على الإطلاق. وإذا اعتبرنا أنه حدث أي تغير بهذا الصدد، فقد أصبحت السلطة أكثر تركيزاً، وتم تشويه الفوائد الرئيسية للاقتصاد الرقمي.

دعونا نلقي نظرة على بعض المخاوف التي أشرت إليها في عام 1995، ونُقيّم ما حدث بالفعل في السنوات الماضية منذ ذلك الوقت.

“الاضطرابات في أسواق العمل، مع اختفاء العديد من الصناعات والوظائف القديمة”

حذرت في كتابي من أن التكنولوجيا قد تدمر الوظائف فعلياً أكثر مما تخلقها، وقد طرحت السؤال “كيف سندير عملية الانتقال إلى أنواع جديدة من العمل، والتوجه إلى قاعدة معرفية جديدة للاقتصاد؟”.

الآن، ولأول مرة في التاريخ الحديث، فإن النمو الاقتصادي في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) لا يولّد عدداً من الوظائف الجديدة تتناسب مع حجم النموّ، والقوى البشرية الشابة هي أكبر المتضررين، حيث يُمكن القول أن البطالة المقنعة ستكون أكبر قضية في السياسة العامة لعدة عقود.

يبدو أن المذنب الأكبر هي التقنيات الرقمية نفسها، فقد رأينا بالفعل بعض الوظائف المعرفية مثل أعمال المحاسبة والخدمات القانونية التي يتم إرسالها للخارج لتؤدى من قِبل موظفين بتكلفة أقل، وقريباً سيبقى العمل هنا ولكن يتم أداؤه بواسطة أجهزة الكمبيوتر. على سبيل المثال، فإن كمبيوتر “واتسون” من شركة “آي بي إم” قادر على تشخيص الأورام السرطانية بمستويات من السرعة والدقة أعلى من الأطباء المهرة، وستستمر البرمجيات نفسها مع الروبوتات وتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد والعديد من الابتكارات الأخرى في القضاء على الوظائف لدى جميع فئات القوى العاملة.

تمثل التكنولوجيا أيضاً الأساس لأنواع جديدة من الأعمال القادرة على القضاء على صناعات بأكملها. إن مجموعات الشركات الرقمية المذهلة مثل “آبل” و”جوجل” و”أمازون” وغيرها تقضي في طريقها على عشرات الصناعات المختلفة، ويعود ذلك جزئياً إلى تحقيقهم نتائج أفضل مع عدد قليل من الموظفين. كما أن شركات الخدمات مثل “أوبر” و”ليفت” و”إير بي إن بي” تتميز أيضاً بقدرتها على القضاء على الوظائف في القطاعات التي تتراوح من سيارات الأجرة وصولاً إلى الفنادق. تكتسب الشركات العاملة في مجال البيانات مثل “فيسبوك” مجموعة هائلة من البيانات التي تجعلها في موضع السيطرة على صناعات متعددة.

بخلاف مرحلة ما بعد الانهيار المالي عام 2008، فإننا نشهد مستويات بطالة للشباب في جميع أنحاء العالم الغربي تتراوح بين 15-50%، هذا الوضع ليس فقط غير أخلاقي؛ بل إنه يخلق أيضاً برميل بارود ضخم قابل للانفجار. وبدلاً من أسلوب “الفوضى الخلاقة” على نهج جوزيف شومبيتر، فإننا نشهد حالياً عملية تدمير هيكليّة للعديد من أسواق العمل بأكملها.

“تدمير الخصوصية بطريقة غير مسبوقة ولا رجعة فيها”

اعتقدت أن هذا الموضوع مهم جداً لدرجة أنني كرست له فصلاً كاملاً. فقد كتبت: “يعتقد معظمنا أنه يحق لنا أن نقرر ما هي المعلومات الشخصية التي نكشفها، ولمن، ولأي سبب. ولكن إذا تم ترك شبكة الإنترنت من دون رقابة، فقد يُصبح مثل هذا التفكير غير واقعي على الإطلاق”.

أصبحت حماية الخصوصية الآن مصدر قلق كبير في أذهان الناس، حتى أن ما يُسمى بأسلوب “الحد من البيانات”، أو تقليص كمّ المعلومات التي نقدمها للغير، لم يعد ممكناً في الوقت الحالي. ففي كل مكان نتوجه إليه، وفي كل ما نقوم به، نترك أثراً من فتات البيانات الرقمية. ففي عالم اليوم، ما يحدث في أي مدينة يبقى على موقع يوتيوب.

بدلاً من تقييد البيانات التي ندخلها، تحتاج كل دولة إلى مجموعة من القواعد والقوانين التي تحمي خصوصيتنا بشكلٍ أفضل، على سبيل المثال، يجب أن تكون البيانات التي ننشئها خاضعة لملكيتنا الخاصة، وإذا منحناها لشركات التواصل الاجتماعي، فينبغي استخدامها فقط لأغراضها التي تم جمعها من أجلها – لا أن يتم بيعها للآخرين دون إذن منا.

خطر تنامي عدم المساواة الاجتماعية.

قبل عقدين من الزمن، حذر الكتاب من “استقطاب ثنائي حاد للثروة”، الأمر الذي يُمكن أن يكون مجتمعاً مقسماً إلى مستويين مختلفين، حيث تكون منافع العصر الرقمي غير متكافئة بينهما تماماً، وحيث لا يؤدي خلق الثروة إلى توفر الرخاء للجميع.

في عالم اليوم، يُعد عدم المساواة في الدخل من أهم المسائل المطروحة على هذا الكوكب، حيث تم إدراجه باعتباره الخطر العالمي الأول في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2014 في دافوس، سويسرا. وهو الموضوع الذي يتناوله كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” (Twenty-First Century)، وهو الكتاب الأكثر مبيعاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، وهو للمؤلف الاقتصاديّ الفرنسي توماس بيكيتي. وعلى الرغم من أن العديد من الناس لا يوافقون على استنتاجاته الاشتراكية، إلا أن المعرفة التي يتمتع بها بيكيتي غير مشكوك فيها إلى حد كبير، الأمر الذي يدل على أن التفاوت الاجتماعي المتزايد أمر متأصل في النظام الرأسمالي، حتى في خضم العصر الرقمي. ويتساءل المزيد من الناس في عالم اليوم عما إذا كانت الثورة الرقمية قد تُسرع في الواقع من الوتيرة التي نتجه بها إلى عدم المساواة.

“يبدو أن العديد من الحكومات بطيئة في فهم هذا التحول”

في عام 1995 كتبتُ ما يلي: “تعتبر البيروقراطية بحكم التعريف مقاومة للتغيير، فهذه الأنظمة تعتقد أن تجاهل التغيير هو الطريق نحو البقاء. ولكن هل يمكن للحكومات أن تُصبح إلكترونية، وأن تغير الأسلوب الذي تقدم من خلاله الخدمات الحكومية؟”.

هل تغيرت إجراءات الحكومات بشكل جذري في العِقدين الماضيين؟ من المؤكد أنه قد حدث بعض التطور، لكن معظم الحكومات أمضت الوقت في صُنع نماذج رقمية من نفس الأساليب الحكومية الحالية – ما يعني أتمتة نفس الإجراءات التقليدية دون تغيير- بدلاً من إعادة التفكير في جدوى هذه النظم من الأساس في العصر الرقمي. (ينطبق الشيء نفسه على العديد من الشركات القديمة التي تكافح لعمل التغيير الرقمي، ولكنها تفتقر إلى قوى السوق للدفع من أجل هذه التغيرات). إن الأزمة الاقتصادية عام 2008 جعلت الأمر أكثر إلحاحاً على الحكومات لتفكر جدياً في كيفية استخدام البيانات المفتوحة ووسائل التواصل الاجتماعي لتغيير الأسس الجذرية للحكومات وكيفية تنظيم العمل من أجل خلق قيمة عامة.

“ماذا سيحدث للديمقراطية؟”

لا تزال هذه الأسئلة ذات أهمية حتى وقتنا الحالي: “هل ستتحول الاجتماعات الإلكترونية لمجلس المدينة إلى فوضى إلكترونية؟ هل ستتحول الديمقراطية الإلكترونية إلى ديمقراطية مفرطة؟ أم أننا سنتمكن من صياغة عصر جديد يمكن فيه تطبيق الذكاء الشبكي لصالح الشعوب؟”.

لا تكمن المشكلة في انخراط المواطنين بشكل مفرط عبر الوسائط الرقمية، فما يشعرني بالقلق هو أن يحدث العكس تماماً، حيث تتمسك حكومات العصر الصناعي بنموذج “أنت تصوت، وأنا أحكم”، حيث يقدم السياسيون وجهات نظرهم إلى المواطنين السلبيين، الأمر الذي يؤدي إلى أزمة شرعية بين المؤسسات الديمقراطية، وهو ما يمثل أهمية خاصة في هذا الإطار. كتب سيمور مارتن ليبسيت، عالم الاجتماع السياسي الأميركي، يقول إن الشرعية هي “قدرة النظام السياسي على ترسيخ الاعتقاد بأن المؤسسات السياسية القائمة هي الأفضل والأنسب للمجتمع”.

إن إساءة الاستخدام المستمرة من قِبل أصحاب المناصب للثقة الممنوحة لهم ليست مجرد مجموعة من الحوادث المنعزلة، بل تمثل مظهراً من مظاهر الفساد العميق والمنتشر، وقد أدركت الشعوب ذلك الأمر بالفعل. فخلال العشرين سنة الماضية، انخفض عدد الناخبين في معظم الديمقراطيات الغربية وخاصة بين فئات الشباب، الباحثين عن طرق بديلة لإحداث التغيير الاجتماعي.

ولاستعادة الشرعية والثقة مجدداً، نحتاج إلى عمل ما نصح به كتاب “الاقتصاد الرقمي” منذ عقدين من الزمن: بناء حقبة ثانية من الديمقراطية تقوم على النزاهة والمساءلة، مع وجود مؤسسات أقوى وأكثر انفتاحاً، ومواطنين نشطاء متفاعلين، إلى جانب تعزيز ثقافة المشاركة العامة.

الخلاصة

لقد أثبتت الحقائق أن المثاليين الحالمين فيما يتعلق بالتطور التكنولوجي على خطأ: فالتكنولوجيا لا تعمل على خلق الرخاء، أو الديمقراطية الجيدة، أو العدالة – بل تقوم المجتمعات بذلك. ولضمان أن يحقق الاقتصاد الرقمي وعوده، سنحتاج إلى عَقد اجتماعي جديد يضمن توفير فرص العمل للجميع، ويحمي خصوصية الأفراد، ويمكّن الازدهار ليس فقط بالنسبة لفئة محدودة ولكن للجميع، وذلك من أجل عدم تجاهل الجانب المظلم للاقتصاد الرقمي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .