لا تهمل استراحة الغداء!

7 دقائق
ثقافاستراحة الغداء في مكان العمل

ملخص: أدى انتشار ظاهرة العمل عن بُعد إلى إطالة أمد يوم العمل وازدياد عدد رسائل البريد الإلكتروني التي يتلقاها الكثير من الموظفين والاجتماعات التي يحضرونها. أضف إلى ذلك ثقافة تلاحم الاجتماعات المتفشية أساساً في أماكن العمل لتتأكد حتمية الحصول على فترات الراحة المقررة مسبقاً. لكن أخذ استراحة غداء حقيقية يرتبط دائماً وأبداً بتحسن معدلات الرضا الوظيفي وإنتاجية الموظف. ومن هنا، يجدر بقادة الشركات توفير ثقافة استراحة الغداء في مكان العمل وتوفير الأمان النفسي للموظف ليُقبل على أخذ قسط وافر من الوقت لتناول الغداء، دون خوف من التعرض للعقاب أو اتهامه بالتقصير. عليهم أيضاً أن يبدؤوا بأنفسهم كقدوة يُحتذَى بها من خلال أخذ استراحات غدائهم في أوقاتها المحددة، وتشجيع مرؤوسيهم على أخذ استراحة الغداء من خلال الحد من الاجتماعات في ساعة معينة من اليوم والترتيب لتنظيم فعاليات متكررة يجري خلالها تناول الغداء.

تلقيت دعوة عام 2019 للحديث عن الحياة الرغدة من وجهة نظري. وفي حين أن عام 2019 بدا مختلفاً إلى حد كبير عن عام 2020، فإن إجابتي بعد طول تفكير لا تزال هي نفسها:

"سأعتبر أنني أعيش حياة رغدة إذا أخذت قسطاً وافراً من الوقت لتناول غدائي كل يوم تقريباً خلال ساعات العمل. وهذا يعني بالضرورة ألا أتناوله على مكتبي أو خلال الاجتماعات أو في أثناء العمل، بل وأنا أتواصل مع أحدهم، أو حتى على انفراد، وأن يكون كل تركيزي منصباً على الأكل".

وقد قطعت على نفسي عهداً بالمواظبة على هذا النهج في عام 2021 مهما كانت الضغوط.

لقد بات في حكم المستحيل تقريباً في ظل تفشي ظاهرة العمل عن بُعد أن أفيَ بالعهد الذي قطعته على نفسي بالابتعاد عن كل ما يخص العمل من أجل تناول الغداء أو التنزه سيراً على الأقدام في منتصف اليوم. وبينما نحاول استيعاب ما جرى خلال ذلك العام المؤلم الذي ودّعناه منذ أيام والتخطيط لعام 2021 والتطبع مع الأوضاع المستجدة في العمل، أود أن أضيف ما يلي: دعونا نخصص قسطاً كافياً ووافراً من الوقت لاستراحات الغداء بالصورة اللائقة، سواء في بيئة العمل عن بُعد أو عند العودة إلى أي من بيئات العمل المكتبية المتعارف عليها.

لماذا استراحة الغداء مهمة للموظفين؟

يشتهر العاملون في أميركا الشمالية بالعمل الإضافي، ولا أدل على ذلك من إحصائيات عام 2018 التي تشير إلى أن العامل الواحد أخذ في المتوسط ​​17.4 يوم إجازة، وبلغ مجموع أيام الإجازات التي لم يأخذها العاملون 768 مليون يوم. هذا إذا أسعدهم الحظ وأخذوا إجازات في الأساس، ذلك أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة من بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تتميز (أو بالأحرى يكللها العار) بأنها لا تُلزم صاحب العمل بمنح الموظف ولو يوماً واحداً كإجازة مدفوعة الأجر على المستوى الفيدرالي، كما أن الموظفين في الولايات المتحدة يتحاشون الغداء حتى يعملوا لساعات أطول، ويقول 62% من الموظفين الأميركيين إنهم يتناولون الغداء في مكاتبهم.

وأثبتت الأبحاث أن العمل عن بُعد جعلنا نقضي ما متوسطه 48.5 دقيقة إضافية في العمل كل يوم، وصرنا بسببه نحضر المزيد من الاجتماعات ونتلقى عدداً أكبر من رسائل البريد الإلكتروني. وعلى الرغم من حرصي منذ فترة طويلة على الالتزام بوقت الغداء، سواء بتناول الطعام بعيداً عن مكتبي أو الانضمام إلى إحدى صديقاتي أو التنزه سيراً على الأقدام، فقد وجدت نفسي أستسلم لعادة "تناول الطعام بلا تفكير أمام جهاز الكمبيوتر" (وتفويت بعض الوجبات والتنزه بشكل كامل) في معظم أيام 2020.

وهذا أمر مخجل لأن وقت الغداء لطالما مثل لي واجباً مقدساً لا أحيد عنه أياً كانت الظروف (على اعتبار أني سنغافورية الجنسية)، حيث نتمتع بميزة توافر خيارات مناسبة وسريعة وصحية نسبياً وبأسعار ميسورة (مثل مراكز الباعة المتجولين) بالقرب من معظم الشركات، وهو ما يتيح الظروف المثالية لتوفير وجبات الغداء لفريق العمل. ولكم رأيت أشخاصاً من مختلف البيئات والثقافات والتخصصات الوظيفية والمستويات يلتقون خلال أوقات الغداء، حتى في أثناء الجائحة. صحيح أن الجائحة فرضت علينا واقعاً جديداً، كالحد من التجمعات، لكن تخصيص وقت للتواصل والتجمع خلال تناول الوجبات (بأمان) يظل أمراً مهماً بالنسبة للعامل السنغافوري العادي. وقد سمعتُ عن فرق تعمل عن بعد ولكنها لا تزال تحرص على الالتقاء خلال تناول الغداء في مجموعات صغيرة. وفي حين أن تناول الطعام في الخارج قد لا يكون خياراً مناسباً لمعظم الموظفين في الدول الأخرى في المستقبل المنظور، فإن المواظبة على أخذ قسط من الراحة وتناول الغداء بعناية، والتواصل بشكل مثالي مع أحد أعضاء الفريق أو الفريق بأكمله (افتراضياً) هو أحد الأمور التي أؤيدها وأدعمها بشدة.

ويجدر بالقادة توفير الأمان النفسي للموظف ليُقبل على أخذ قسط وافر من الوقت لتناول الغداء، كما يجب على المدراء أن يؤكدوا لمرؤوسيهم أنهم لن يتعرضوا لأي نوع من العقاب أو الاتهام بالتقصير، وأن يوفروا لهم بيئة تشجّع على أخذ قسط كاف من الوقت لتناول الغداء باعتباره قاعدة طبيعية داخل المؤسسة.

وسيعم النفع على الجميع عندما يتم إقرار تناول وجبات الغداء في محل (مكان) العمل كقاعدة طبيعية. فقد خلُص استقصاء أُجري على الموظفين في أميركا الشمالية إلى أن الموظفين الذين يأخذون استراحة غداء كل يوم أفادوا بأنهم أكثر اندماجاً بناء على عدد من المقاييس، مثل الرضا الوظيفي والإنتاجية واحتمال نصح الآخرين بالعمل في شركاتهم. وتوصل بحث أُجري مؤخراً أيضاً إلى أن رجال المطافئ الذين تناولوا الغداء معاً أفادوا بأن هذا كان "مكوناً أساسياً في الحفاظ على فاعلية عمل فرقهم". ويمكنني أن أؤكد قدرة المؤسسات الأخرى على الاستفادة من زيادة فاعلية الفريق، وذلك من خلال إقرار قاعدة تناول الغداء كبداية، سواء كان ذلك لتقليل التوتر والاحتراق الوظيفي أو لتشجيع بناء الفريق أو لغرس ثقافة مؤسسية لا تُقرن الإنتاجية بالعمل الإضافي.

غرس ثقافة تناول الغداء وتعميمها في مكان العمل

وإليك سبل جني أصحاب العمل لهذه الفوائد من خلال غرس ثقافة تناول الغداء وتعميمها في مكان العمل.

تناول الغداء عياناً بياناً

إن أبسط الإجراءات هو أكثرها تأثيراً. فعندما يبتعد المدراء عن مكاتبهم لبعض الوقت ويأخذون قسطاً من الراحة، فإنهم بذلك يوفرون بيئة لا توجب علينا أن نكون مشغولين دائماً وأبداً (أو أن نتظاهر بالانشغال) لكي ننفي عن أنفسنا تهمة التقصير في حق العمل. ويعتبر نارايانا مورثي، المؤسس المشارك لشركة "إنفوسيس" (Infosys)، مثلاً يُحتذى به في هذا المضمار، فقد اشتهر مورثي بحبه رفع معنويات موظفيه في شركته التي تعتبر عملاق التكنولوجيا بالهند، وكان يحرص على تناول الغداء في الكافتيريا مع الموظفين ما أمكنه ذلك، حتى إنه كان يقف في الطابور للحصول على وجبته. وكان أسلوبه في القيادة القائمة على القيم ذا أثر عميق للغاية لدرجة أن الشركة شهدت تراجعاً كبيراً بعد تقاعده.

يمكنك تطبيق هذا المنهج كقائد في بيئة العمل عن بُعد من خلال إرسال إخطار تقول فيه: "أتناول الغداء حالياً"، أو إبلاغ موظفيك خلال اجتماع الفريق بأنك ستنزوي بعيداً عن شاشة جهازك في أثناء الغداء، أو الإشارة في الفترة المسائية إلى أنك "قد عدت من الغداء".

لا تقتصر الفكرة هنا على أهمية الوجبة في حد ذاتها، بل في إبراز أنه لا بأس مطلقاً في مغادرة مكان عملك (سواء كنت تعمل عن بُعد أم لا) وأخذ قسط من الراحة، سواء كان ذلك لتناول الطعام أو ممارسة الرياضة أو المشي. وعندما يأخذ القادة قسطاً من الراحة ويعلنون أنهم لا يقبلون بالمساس بهذا الوقت أياً كانت الظروف، فسيشعر الموظفون بالقدرة على فعل الشيء نفسه. فمنذ أن عملتُ في مجال التكنولوجيا، ورأيتُ معظم المدراء يأكلون في مكاتبهم (أو حتى يمارسون العمل خلال الغداء)، شعرت بعدم الارتياح بشأن أخذ استراحة غداء. واكتفيتُ منذ ذلك الحين بتناول وجبة خفيفة على مكتبي، وهو ما كان له أبلغ الأثر على صحتي وإحساسي الدائم بالإنهاك والاحتراق الوظيفي في نهاية معظم أيام العمل.

قلّل من الاجتماعات في منتصف النهار

تعد الاجتماعات المتتالية إحدى سمات ثقافة العمل في أميركا الشمالية وتتسبب في تخلي الموظفين عن تناول الغداء في الكثير من الشركات. لكن إذا خصصت الشركات بدلاً من ذلك وقتاً لكافة الموظفين يتناولون فيه الطعام أو حتى يؤدوا مأمورية أو مأموريتين كل يوم، فسيستفيد معظمهم من هذا الوقت. وكن مثالاً يحتذي به مرؤوسوك بأن تقول لهم: "هذه الساعة مخصصة لغدائي، فلا تضعوا خلالها أي اجتماعات، إلا إذا كنتم ستتحدثون معي في أمور لا تخص العمل. وأرجو أن تستفيدوا أنتم أيضاً من ساعتكم المخصصة لتناول الغداء كلها".

شجّع الفعاليات المتكررة لتناول الغداء

أشارت قائدة إحدى الشركات التي أجريتُ معها مقابلة شخصية منذ سنوات إلى أنهم يطبقون نظام "تبادل التعارف الثقافي من خلال وجبات الغداء" شهرياً برعاية الشركة، حيث يُطلب من الموظفين إحضار وجبة من ثقافتهم الشعبية ومشاركتها مع زملائهم. وقالت لي إن هذه الفعالية أسهمت في خلق بيئة مفعمة بالحيوية تتيح للموظفين ذوي الخلفيات متنوعة الاحتفاء بثقافتهم مع زملائهم. وإذا كنت تعمل في مؤسسة كبيرة، فيمكنك تيسير تبادل التعارف الثقافي من خلال وجبات الغداء بالتناوب بين مجموعات أصغر كوسيلة للتعرف على زملائهم وكسر جدران العزلة بين الأقسام. وقد أثبت بحث أن النساء والأشخاص ذوي البشرة الملونة يُكلَّفون أكثر من غيرهم بهذه الأنواع من مهمات "الأعمال المنزلية في المكتب"، لذا تأكد من توزيعها بالتساوي بين الموظفين.

نظّم فعاليات بناء العلاقات خلال وقت الغداء، واحرص على حضور القادة

يُقبِل الموظفون في الغالب على مغادرة مكاتبهم (الافتراضية) وحضور الأنشطة غير الرسمية إذا رأوا أن هذا يحقق لهم منفعة بشكل أو آخر، كالتواصل مثلاً مع القادة. ويربط البحث أيضاً بين التفاعلات الاجتماعية من جهة وازدياد الثقة المتبادلة بين أعضاء الفريق الواحد من جهة أخرى، وتستفيد المؤسسات التي تشجّع الموظفين على بناء علاقات بعضهم مع بعض من عدة أوجه. وقد شكلت إحدى المؤسسات التي كنت أقدّم لها خدماتي الاستشارية نادياً للقراءة يتيح لكافة فرق العمل التعلم ومناقشة المفاهيم الجديدة وتطبيق المعرفة المكتسبة على المشكلات التي كانوا يتصدون لها، وهو ما حفّز قدرتهم على الابتكار. ويمكن أن تؤدي هذه العلاقات أيضاً إلى كسر جدران العزلة وتوفير حافز أكبر لإدماج أعضاء الفريق غير الممثَّلين بالقدر الكافي والذين قد لا يتمكنون دائماً من التواصل مع القيادات دون توفير هذه الفرص للتواصل. ومن المزايا الأخرى للتعارف وقت الغداء أنه يجمع تحت مظلته كل الموظفين الذين لا يستطيعون حضور الفعاليات المسائية بسبب مسؤولياتهم الأسرية أو تقديم الرعاية أو غيرها من الالتزامات. الأهم من ذلك أن هذه الفعاليات يجب أن تُقام بالإضافة إلى استراحات الغداء المستقلة، لا أن تكون بديلاً لها.

أعطِ الأولوية للغداء، حتى إذا كنت تعمل وحدك

عندما بدأت ممارسة عملي الاستشاري لأول مرة، سرعان ما كففت عن العمل بنصيحتي وواصلتُ العمل خلال الوقت المخصص للغداء. واتضح لي في النهاية أنني كنت في سبيلي إلى الاحتراق الوظيفي، وهو ما كان يعني أن عدم أخذ قسط من الراحة يتنافى مع المداومة على العمل بكفاءة. وعندما كنت آخذ القسط الكافي من الوقت في استراحة الغداء، لاحظت أنني أتناول طعاماً صحياً وأن الاستراحة القسرية تساعدني على تجديد نشاطي وحيويتي وتصفية ذهني، وهو ما يجعلني أنظر إلى عملي من زاوية جديدة. وإذا تغيرت الظروف وعدتُ إلى بيئة العمل التقليدية، فإنني أخطط لتخصيص وقت لوجبتين إلى 4 وجبات غداء على الأقل شهرياً لبناء علاقات تنتهي بفوائد عملية أيضاً. وأحب في الوقت الحالي ممارسة المشي والدردشة الافتراضية بعد الظهيرة للتواصل مع زملاء العمل أو الأصدقاء (وهو ما شجعتني عليه نيلوفر ميرشانت عام 2013).

أظهر لنا العام الماضي أهمية التواصل البشري، ويتوق معظمنا لقضاء بعض الوقت في الدردشة وجهاً لوجه مع زملائنا عندما يكون الوضع آمناً. وعلينا أن نعتبر أن أخذ استراحة (غداء) أكثر من مجرد مسألة لا بأس بها، سواء اخترنا قضاءها في تناول الطعام بمفردنا أو التنزه سيراً على الأقدام أو تناول الطعام مع الزملاء. وآمل أن تمسي بيئة الاجتماعات المتلاحقة في عام 2021 شيئاً من الماضي رميناه وراء ظهورنا.

هذه هي الحياة الرغدة من وجهة نظري على المستويين العملي والشخصي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي