لم يعلم أحمد بماذا يفكر. كيف أساء تقدير الوضع بهذا الشكل؟ كان يشعر بالغضب والحزن والخيانة.
مع اقتراب موعد تقاعده الوشيك، قام أحمد بتهيئة خليفة له بعناية شديدة كي يستلم مشروعه الرئيسي، وطمأنه المدراء في الشركة بأنهم موافقون على اختياره. ولكن عندما حانت اللحظة الحاسمة اعترضوا على مرشحه وعينوا شخصاً آخر بدلاً عنه وسلموه القيادة. شخص لم يكن أحمد واثقاً من قدرته على الاستمرار بالعمل الذي اختتم به مسيرته المهنية. أخذ أحمد يلوم نفسه بشدة على عدم توقعه لذلك. كان شعوره بالحيرة وقلة الحيلة شعوراً لا يطاق.
ينجح العديد من الناس في تجاوز خيباتهم . فهم يتمتعون نوعاً ما بقوة تمكنهم من تقييم ما حدث لهم والتعلم منه وتجاوزه، فيخرجون من الخيبة أقوى. ولكن هناك آخرون، مثل أحمد، يتصارعون مع الخيبة. في هذه الأحوال يمكن للخيبة أن تصبح اكتئاباً. ما الذي يمكننا فعله لتعلم كيفية التعامل مع خيباتنا بفعالية؟
إدارة التوقعات
قال أحدهم يوماً: "التوقعات هي أساس كل أسى". يعترف هذا الاقتباس بأننا عندما نصاب بخيبة تكون آمالنا وتوقعاتنا غير متوافقة مع الواقع. جميعنا نختبر هذا الشعور من وقت لآخر، بعض هذه الخيبات لن يكون ذا أثر يذكر، ولكن هناك خيبات يمكنها تغيير مسار حياتنا.
وبالنظر لطبيعة الرغبة المعقدة، لا توجد تجارب دون خيبة، وهذا ما يجعل الخيبة شعوراً معقداً ومربكاً لهذه الدرجة. والعديد من رغباتنا التي نسعى لتحقيقها لا إرادية ومتنامية ومتضاربة في كثير من الأحيان.
ومن قبيل المفارقة، يمكن أن نشعر بالخيبة عندما نحصل على ما نريد. مثلاً، في مقالة سيغموند فرويد من عام 1916 بعنوان: "بعض أنماط الشخصيات التي التقيتها في عمل التحليل النفسي" استكشف فرويد مفارقة الأشخاص الذين "حطمهم النجاح"، وهم يؤمنون باللاشعور أنّ نجاحهم كان غير مبرر. لذلك لم يكن تحقيقه مرضياً بالنسبة لهم. وفي حالات أخرى، عندما ننال ما نريد ونعتقد أننا نستحقه، قد نكتشف أنّ ما أردناه بشدة لا يجلب لنا الهناء والسعادة المتوقعين.
تأثيرات التطور
ترتبط الطريقة التي نتعامل بها مع الخيبة بتاريخ تطورنا، أي علاقاتنا مع والدينا والتجارب التأسيسية المبكرة الأخرى.
يسعى البعض لتفادي الخيبة عن طريق التحول إلى أشخاص مقصرين. فيخفضون سقف توقعاتهم بصورة لا إرادية ويتفادون المجازفة من أجل وقاية أنفسهم أو الآخرين من التعرض لخيبة الأمل. ويكونون بذلك، ودون أن يدركوا، قد اتخذوا قراراً بأنّ أفضل استراتيجية هي عدم امتلاك توقعات بشأن أي شيء. يتحول سلوك كهذا إلى نوع من حفظ الذات. ولكنه يؤدي أيضاً إلى حياة اعتيادية غير مرضية. والأمر المثير للسخرية هو أنّ هؤلاء الأشخاص غالباً ما يصبحون خيبة أمل لكل من حولهم، بمن فيهم أنفسهم.
ويتبع آخرون مساراً مختلفاً تماماً، ويسعون لتفادي الخيبة بأن يصبحوا من أصحاب الإنجازات الكثيرة بصورة مبالغ فيها. وعلى الرغم من أنهم يقولون لأنفسهم أنّ توقعات الكمال لديهم مناسبة وواقعية، إلا أنّ افتراضاتهم المسبقة هذه تثبت أنها غير صحيحة على الإطلاق. إذ يكون سقف التوقعات شديد الارتفاع لدرجة أنه يجعل ما يرغبون بتحقيقه غير ممكن. وينسون أنّ الذهنية الكمالية نادراً ما تنتج الكمال أو الرضا، بل غالباً ما تؤدي إلى الخيبة.
بالطبع، هناك البعض ممن لديهم تاريخ تطور بشكل أكثر توازناً. وفي أغلب الأحيان لم يحاول آباء هؤلاء الأشخاص أن يكونوا كاملين ولم يتوقعوا من أولادهم أن يكونوا كاملين أيضاً. وبكونهم آباء جيدين بما فيه الكفاية، استطاعوا إنشاء قاعدة آمنة لأبنائهم. وهؤلاء الأبناء يشعرون بالأمان في علاقاتهم، ويشعرون أنهم يتلقون الدعم بدلاً من التحكم بهم، وهم قادرين على اللعب والاكتشاف والتعلم، وبالتالي يكتسبون القوة الداخلية اللازمة من أجل التأقلم الإيجابي مع الإخفاقات الحتمية التي ستعترض طريقهم خلال رحلتهم في الحياة.
وعلى الرغم من أنّ هناك فائدة من معرفة أي الطرق سنسلك، إلا أنّ تاريخ تطورنا ليس هو قدرنا. مهما كان تاريخ تطورنا، سواء كانت لدينا قاعدة آمنة أم لا، يمكن أن تقدم الخيبة لنا معلومات ثمينة عن معتقداتنا حول أنفسنا وعن الآخرين وعما يسعدنا.
أنماط التأقلم
غالباً ما تكون الخيبات الكبيرة هي لحظات حاسمة في حياة الإنسان. ويمكن للتعامل مع الخيبة بصورة إيجابية أن يكون عملية علاج ذاتي تساهم في النمو الشخصي وتؤدي إلى اكتساب قدرة أكبر على التحمل. خذ وينستون تشرشل على سبيل المثال. في بدايات مسيرته المهنية، أجبرته الحملة العسكرية الكارثية في غاليبولي أثناء الحرب العالمية الأولى على الاستقالة من منصبه كأمير البحرية البريطانية، حيث وضع تشرشل خطة أطلق عليها فيما بعد "حماقة تشرشل" لإرسال أسطول عبر مضيق داردانيل واحتلال مدينة القسطنطينية (اسطنبول حالياً)، متوقعاً أن يؤدي ذلك إلى انسحاب الجيش العثماني من الحرب. ولكن باءت الخطة بفشل ذريع وأوقعت عشرات الآلاف من القتلى. ما أدى إلى تشويه سمعته وتجريده من رتبته العسكرية.
ومن أجل تجاوز هذه الكارثة وما خلفته من ذل، ركز تشرشل انتباهه وطاقته بعيداً عن السياسة. وبعد ستة أشهر من تخفيض رتبته أصبح ضابط مشاة وانضم إلى الجيش الذي يقاتل في فرنسا. وخلال الوقت الذي قضاه بعيداً عن الساحة السياسية فكر بما حدث له وما تعلم منه بشأن التعامل مع تحديات الحياة. وفي حين غلبه شبح الكآبة الأسود في بداية الأمر، أدرك تشرشل أنه من الأفضل اعتبار خيباته خبرات تعلم ليتمكن من تجاوزها في المستقبل بصورة أفضل، وأن يتسخدم هذه الخيبات على أنها محفز للنمو الشخصي. لقد منحه هذا البحث في أعماق نفسه معلومات جديدة عن نفسه وعن العالم والآخرين.
يعزو الكثير من الأشخاص الأحداث السلبية في حياتهم إلى فشلهم الشخصي عندما يتعرضون للخيبة. ويلجؤون إلى وسواس لوم الذات مع شعورهم بالخزي والذل بسبب عدم تمكنهم من الارتقاء إلى الصورة المثالية التي يرسمونها لأنفسهم. وكنتيجة لذلك يوجهون غضبهم داخلياً على أنفسهم، وقد يدفعهم ذلك إلى القول أنهم يستحقون ما حدث لهم وأنهم لم يكونوا جيدين كما يجب. بينما يوجه آخرون غضبهم خارجياً نحو أشخاص آخرين لم يلبوا توقعاتهم. فيُساهم ذلك في توليد مشاعر الضغينة وحب الانتقام والمرارة.
وللأسف، يتسبب رد الفعل بهاتين الطريقتين في بقاء الإنسان عالقاً في شبكة من الخيبة. وفي حالات كثيرة يمكن أن تتحول الخيبة إلى حزن مخيم، شعور بالخسارة والخذلان وحتى الخيانة، وبالأخص عندما تقع الخيبة بسبب أشخاص يحظون بثقة كبيرة، كما يحدث مع أحمد. كيف يمكننا التغلب على الخيبة في هذا الحال؟
التغلب على الخيبة
يمكننا تعلم شيء ما من الخيبة مهما كانت مؤلمة.
لكي نتعامل بصورة إيجابية مع الخيبة علينا أولاً أن نفهم ما حدث. بعض حوادث الخيبة متوقعة ويمكن تفاديها. ولكن هناك حالات أخرى لا يمكن تفاديها وتتعدى حدود سيطرتنا. وللتعامل مع الخيبة يجب علينا أن نميز بين المواقف التي يمكننا التحكم بها والعوامل الخارجة عن سيطرتنا. وستمكننا القدرة على إدراك الفرق بين الأمرين من التعامل مع غضبنا بصورة ملائمة أكثر.
كما يجب علينا أن نرى ما إذا كانت توقعاتنا معقولة أم لا. هل سقف توقعاتنا مرتفع بصورة غير منطقية؟ أم هل أهدافنا شديدة التواضع؟ إن كنت تنتمي لمجموعة الأشخاص الذين يرفعون سقف توقعاتهم أكثر مما يجب، قد يساعدك تجاوز الخيبة بصورة إيجابية على تعديل توقعاتك. وقد تتعلم كيف تتحرك بعيداً عن معايير الكمالية. وقد تبدأ بقبول ما هو "جيد بما يكفي". أما بالنسبة لمن يخفضون سقف توقعاتهم أكثر مما ينبغي، يجب عليهم التوقف عن التمسك بمعتقدات زائفة عن الحياة مثل "ليس هناك أمل" أو "لا أستطيع النجاح في أي شيء". من غير الممكن تفادي الخيبة في الحياة، ومحاولة تفاديها ليس طريقة إيجابية للتعامل مع تحديات الحياة.
عندما تتكرر الخيبة كثيراً، يكون من الأفضل إعادة تقييم نظرتنا وسلوكنا. يمكننا تفحص ما إذا كنا نجذب الخيبة ونتسبب بها. هل كان ممكناً أن نكون أكثر وضوحاً في إيصال ما نتوقعه من الآخرين؟ هل نعلم حقاً ما نتوقعه من أنفسنا؟ هل نستمع إلى ما يقوله الآخرين لنا؟ هل كان بإمكاننا القيام بأمر ما بطريقة مختلفة كي نصل إلى نتيجة مختلفة؟ إلى جانب ذلك، ونظراً لما نعرفه عن أنفسنا، كيف يمكننا تعديل توقعاتنا لنكون أكثر فعالية في المرة القادمة؟ وماذا يتوفر لدينا من دعم وموارد لمساعدتنا على النجاح في تجاوز مشاعر الخيبة؟
لكي تتعامل مع الخيبة بصورة إيجابية، لا تسمح لها بالتفاقم لتتحول إلى لا مبالاة واكتئاب. فالاجترار السلبي المستمر للأفكار ليس وصفة ناجحة للتغيير. لأننا عندما نصبح مشغولي الذهن بالأمور السيئة سوف نفقد القدرة على رؤية الأمور المناسبة لنا في حياتنا وفي العالم من حولنا. بل إننا نقوم بإدخال مشاعر الحزن والغضب فقط. ويمكن أن يؤدي التمسك بهذه المشاعر إلى جعلها جزءاً من شخصيتنا بصورة لا إرادية.
عندما نجد أنفسنا نفكر بصورة سلبية، يجب أن نعيد توجيه طاقتنا وتركيزنا نحو الحلول الإيجابية. وعلى الرغم من أننا، ومن وجهة نظر لا إرادية، قد نتردد في التخلي عن تجربة الخيبة التي مررنا بها، إلا أنّ التمسك بها سيصبح أكثر ضرراً على المدى الطويل. وعندما نصبح مشغولين أكثر مما ينبغي بالتفكير بمواقف لم تلبي توقعاتنا نتسبب لأنفسنا بضغط لا مبرر له.
ليس من المفترض أن تدمرنا الخيبة. وإذا تعاملنا معها بهدوء يمكنها أن تجعلنا بحال أفضل. بل ويمكننا اعتبار مواجهتنا للخيبة رحلة نحو المزيد من الحكمة والوعي على الرغم من أثرها العاطفي المدمر. ولكن كي نتمكن من جعل رحلات التأمل الذاتي وإعادة التقييم هذه مفيدة، يجب علينا النظر ما بين السطور. ولن نتمكن من التحرر من الأمور المؤلمة إلا عن طريق تجاوزها.
وعلى الرغم من تجارب الخيبة التي تعترض طريقنا (مهما كانت) سيكون التحدي الذي نواجهه هو عدم السماح بترسخ شعورنا بالمرارة. ومن الأفضل أن نذكر أنفسنا باستمرار أن اليأس هو خيار دائماً على الرغم من حتمية الخيبة.