عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع معيقات النقاش البناء والمشكلات المعقدة عموماً، فإن دربنا معروف ومحدد مسبقاً. هذا لأننا مفطورون على السعي نحو الحسم واليقين في أسرع وقت.
أظهرت الأبحاث التي أجراها العلماء المهتمون بموضوع اتخاذ القرارات، أن أفضل استراتيجية يمكننا اتباعها للتعامل مع هذه المشكلات هي إتقان ما يسمى "التنوع في الإدراك"، لأن أداء المجموعات أفضل من الأفراد - حتى الأفراد أصحاب درجات الذكاء الأعلى. تتسم المشاكل المعقدة بأنظمة مربكة من التفاعلات السببية، وتفكيك هذه العُقد يتطلب تعدد وجهات النظر. والتنوع، كما يقول سكوت بيج (Scott Page)، عالم الاجتماع: "يعزز القدرات بشكل هائل".
لا تتحقق مكاسب التنوع في الإدراك تلقائياً –وإنما يجب هندستها وصياغتها. والمجموعات مثل الأفراد تماماً، عرضة لأكبر أعداء التفكير المنتج والبناء، والذي يسمى "الاتكال على المسار المتخذ".
أحد معيقات النقاش البناء: "الاتكال على المسار المتخذ"
إن مفهوم "الاتكال على المسار المتخذ" يعني ميل الأشياء، مثل (الأحداث، والأنظمة الإيمانية، والشخصيات، والارتقاء، والمحادثات)، إلى السير بطرق مقيدة بمحددات المسار الذي تتخذه. وهو يمثل التأثير الهائل للماضي على المستقبل. فالآلات الكاتبة الأولى فرضت لوحة مفاتيح باتت متجذرة جداً في ثقافتنا إلى درجة أننا ما زلنا نستعملها حتى اليوم، على الرغم من أن لوحة المفاتيح هذه تتصف بعدم الكفاءة وصعوبة الاستخدام. إذاً، نحن لم ننحرف عن مسار استعمال لوحة المفاتيح الحالية المعروفة باسم (QWERTY)، (نسبة إلى ترتيب الحروف في الصف العلوي الأيمن من لوحة المفاتيح).
اقرأ أيضاً: ماذا تفعل إذا وصل النقاش إلى طريق مسدود أثناء الاجتماعات؟
كما أن "الاتكال على المسار المتخذ"، هو السبب في عدم تغيير ضباط الشرطة لمهنتهم في أواسط عمرهم الوظيفي ليصبحوا مدراء تنفيذيين في شركات إعلانية، وهو السبب الذي يجعل أتباع ديانة معينة نادراً ما يعتنقون ديانة جديدة، وهو السبب في جعل النقاشات الجماعية غالباً تسير بصورة حتمية نحو استنتاجات لا تمثل كل الآراء المتنوعة التي يقدمها التنوع في الإدراك.
ويعتمد "الاتكال على المسار المتخذ" على نوع من السلوك الذي يعزز ذاته من خلال حلقات تجاوب تُضخم نفسها وتكرر ذاتها. ونحن نرى هذا المفهوم يسيطر على كل المحادثات، واجتماعات مجلس الإدارة، واجتماعات المدراء التنفيذيين، ومداولات هيئات المحلفين القضائيين، والأجندات السياسية.
إن مفهوم "الاتكال على المسار المتخذ" ليس بالأمر السيئ طول الوقت، بل هو ببساطة إحدى حقائق الطبيعة، ومثال على كيفية سير الأمور، وكيف يمكن لحدث عشوائي أن يتطور بحيث لا يكون في نهاية المطاف عشوائياً بالكامل. ولكن بما أن "الاتكال على المسار المتخذ" يحد من الخيارات المتاحة أمامنا لنأخذها بعين الاعتبار، فإنه يمكن أن يصبح إشكالياً عندما يسيطر المسار الخاطئ. فعندما لا يحيد التفكير عن محددات معينة، سيكون الإبداع والنتائج في عداد الضحايا. وكلما زاد وعينا بالمسارات التي تحد من تفكيرنا، كنا أقل عبودية لهذه المسارات. فبغية صياغة آراء أعمق وأكثر إبداعاً، يتعيّن على القادة دفع تفكير المجموعة التي يقودونها ليتجاوزوا المسارات الضيقة التي ستسود وتترسخ إذا لم يحاولوا كسرها.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد النقاشات المنظمة فريقك على التطور
يحتاج المدراء إلى إدراك الإسهامات الهائلة والعديدة التي يمكنهم تقديمها لمفهوم "الاتكال على المسار المتخذ". على سبيل المثال، يكون لنقطة البداية للمناقشة تأثير غير متناسب على المسار الذي تسلكه تلك المناقشة أو المحادثة. وعندما يتم التأكيد على وجهة نظر معينة، فإنها يمكن أن تكتسب الزخم من خلال حصولها على دعم بضعة أشخاص، ما يقودها على مسار باتجاه أن تصبح نتيحة ثابتة دون تمحيص وتدقيق كافيين. يمكن أيضاً إنشاء مسار ضيق عندما يتم رفع موقف مضاد قوي دون العثور على أي شخص يعارضه. يمكن أن تصبح الأفكار متجذرة بالطريقة نفسها عندما تكون أقل انفتاحاً على النقد مما يتم اعتمادها صراحة.
كشفت البحوث التي أجرتها تشارلان نيميث (Charlene Nemeth)، والهادفة إلى استكشاف المشكلة التي يعاني منها التفكير الجماعي، كيف ينتصر "تفكير الأكثرية" بسهولة على "تفكير الأقلية"، وحتى في الحالات التي يقتنع فيها الأفراد شخصياً بالاعتراض المطروح من الأقلية، إلا أنهم يميلون إلى دعم وجهة نظر الأكثرية علناً . وبالتالي، تتحدى نيميث المفهوم القائل بحرية تدفق عملية العصف الذهني، داعمة رأيها بتجارب تظهر أن عمليات العصف الذهني القائمة على مبدأ "لا توجد فكرة سيئة" تولد إبداعاً أقل بالمقارنة مع جلسات العصف الذهني التي يشجع المشاركون فيها على تحدي أفكار بعضهم البعض ومناقشتها بعمق ودون قيود. وفي واحدة من تجاربها، تمكنت المجموعات التي شجعت على "مناقشة" مشكلة ما من توليد 16% أكثر من الأفكار مقارنة مع المجموعات التي شجعت على ممارسة العصف الذهني دون توجيه أي نقد من قبل أعضاء المجموعة لأفكار زملائهم الآخرين فيها.
وبحسب كاس سانستين (Cass Sansstein)، الباحث القانوني، يمكن أن تصبح مسارات النقاشات ذاتية التعزيز بطريقة مفرطة إلى حد أن الفرق غالباً ما تصبح جريئة نتيجة التوافق في الآراء بحيث تصل إلى خلاصات أكثر حسماً وتطرفاً بالمقارنة مع الأفكار المبدئية التي طرحها الأفراد في بداية النقاش. فيحصل "الاستقطاب ضمن المجموعة" عندما تتأكد الآراء الأولية نتيجة النقاشات، ما يولد زخماً في مسار وحيد فقط دون وجود أي تأثيرات مضادة توازنها. وهو يخلص إلى أن تحاشي الاستقطاب يتطلب عملية نقاش منظمة لضمان اطلاع المشاركين على طرق التفكير البديلة.
الاعتراض البنّاء
وبناء عليه، فإن النقاش المنظم أساسي جداً، فإذا تُركنا على سجيتنا، فإنه حتى أكثر مجموعات المفكرين تنوعاً ستتفاعل بطريقة غير منظمة ومتراخية. وإذا سارت نقاشات الفرق بعفوية ودون تدخل، فإنها تميل إلى أن تصبح مفرطة في "الاتكال على المسار المتخذ"، وستقتصر على الآراء التي تناقش بدرجة عالية من الشغف، وأراء من يُنظر إليهم على أنهم خبراء، وعلى رأي الأكثرية. لكن المشاكل المعقدة تتطلب نقاشات تتخذ مسارات مرنة وتغطي مجالاً واسعاً. وتحتاج النقاشات والمحادثات ذات النوعية الرفيعة إلى ريادة وقيادة. ويحتاج القادة إلى تشجيع الحالة الاعتراضية بين صفوف مرؤوسيهم لإفساح المجال أمام الاحتمالات الجديدة، وتوسيع مروحة الآراء المتاحة، والتوصل إلى قرارات أفضل.
اقرأ أيضاً: كيف تختار كلماتك بعناية أثناء النزاعات؟
إن الاعتراض البنّاء يعتمد على شرطين أساسيين: الاستقلال الفكري الحقيقي، والتفاعل البناء بين أعضاء الفريق. وبالتالي، يجب على القادة تشجيع أعضاء فرقهم على التحدث بحرية واستقلالية، وتصحيح أخطاء بعضهم البعض، والبناء على الأفكار الجيدة، والسماح لآراء الآخرين بتعميق تفكيرهم الشخصي.
تعتبر النقاشات أو المحادثات المرنة ذات الطابع المنفتح والتي تقاوم طريقة التفكير المعتمدة على "الاتكال على المسار المتخذ"، هي الطريقة الفضلى (والوحيدة) للمضي قدماً نحو تجاوز معيقات النقاش البناء في عالم يزداد تعقيداً. وتعزيز هذا النوع من النقاشات أحد أهم واجبات قادتنا.
اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع المحادثات والنقاشات الصعبة