في عصر الابتكارات العظيمة ستكون الطريقة الفضلى لبيان كيفية تطوير المنتجات الجديدة باستخدام الأسلوب الصحيح (والأسلوب الخاطئ) هي الحديث عن قصة شركتين من شركات تصنيع السيارات.
الشركة الأولى هي شركة بورش والتي أطلقت مطلع الألفية الثالثة السيارة كايين (Cayenne) الرياضية متعددة الأغراض (SUV)، وهي سيارة مختلفة تماماً عن السيارة الرياضية عالية الأداء التي اشتهرت بها الشركة. أما الشركة الثانية هي شركة "فيات كرايسلر" (Fiat Chrysler)، والتي طرحت في السوق سيارة "دودج دارت" العائلية الصغيرة في العام 2012، وسبق طرح السيارة الكثير من الجلبة ووضعت الشركة توقعات عالية جداً بالنجاح، حتى رئيسها التنفيذي، سيرجيو مارتشيوني، قال حينها: "قد أخطئ في الحكم على سيارة ما، إلا على هذه السيارة البديعة".
لقد حققت سيارة "كايين" أرباحاً هائلة لـ بورش، أما سيارة "دودج درات" فلم تحقق النجاح المرجو واضطرت الشركة لإنهاء خط إنتاجها في العام 2016. هذان المصيران لكلا المنتجين يكشفان ما يحدث حين تنتج الشركة منتجاً وهي تعرف تماماً (أو لا تعرف تماماً) ما يريده العملاء والمستهلكون وما الذي يغريهم لدفع نقودهم لشراء ذلك المنتج.
لماذا نجحت سيارة بورش الجديدة؟
نجحت بورش نهاية التسعينيات في تجنب الوقوع في الإفلاس، وذلك حين قررت أن تصنّع سيارات رياضية أكثر كفاءة لتنال ثقة العملاء من جديد. وحين دخلت الشركة في الألفية الجديدة، رأت أنها بحاجة إلى منتج جديد للسوق العامة لزيادة المبيعات، فقررت أن تصنّع سيارة "إس يو في"، وقد بدا ذلك حينها مخاطرة كبيرة لشركة معروفة بالسيارات السريعة، لا سيارات العائلة.
ولأن الشركة تدرك أن هذا ليس مجالها التقليدي، فقد تكفل الفريق المسؤول عن إنتاج السيارة الجديدة بإجراء بحوث مضنية وشاملة للتأكد أولاً من أن العملاء سيعجبون بهذه السيارة الجديدة، وأنهم سيكونون راغبين في دفع مبلغ أكبر من المال لشراء سيارة بورش الرياضية متعددة الأغراض على أن يشتروا سيارة مثيلة من شركات أخرى.
لقد بعثت نتائج هذه البحوث شيئاً من الارتياح لدى المدراء التنفيذيين وفريق التصميم في الشركة، ولكن المعلومات لم تكن كافية حتى تلك اللحظة لتدفعهم نحو الشروع في إنتاج السيارة. لذا أجرت بورش استطلاعاً لرأي الفئات المستهدفة من السيارة حول كل سمة وميزة فيها، وحاولوا التعرف على مقدار رغبتهم في الحصول على سيارة بهذه المواصفات. وتبين من هذه الدراسة أن العملاء على استعداد بالفعل للدفع أكثر لشراء هذه السيارة ذات المواصفات الرياضية (وهي سمة غائبة في السيارات المنافسة الأخرى من نفس العائلة)، فهم يرغبون في القوة والسيطرة كأنهم في سيارة رياضية اعتيادية ولكن بحجم عائلي.
ولكن المشاركين في الاستبيان لم يكونوا مهتمين بناقل الحركة اليدوي ذي السرعات الست والمشهور في بقية سيارات بورش الرياضية. لذا قرر المصممون التخلص من هذه الميّزة، وليس هذا بالقرار السهل للمهندسين في شركة ترتكز سمعتها على قوة الأداء مثل بورش. ثم أضاف فريق تصميم سيارة "كايين" مواصفات جديدة وغريبة على بورش، مثل حاملة الكأس الكبيرة أمام السائق. وواصل الفريق الاستماع إلى العملاء وتفضيلاتهم حول كل مواصفة من مواصفات السيارة. فإن أظهر العملاء تقديراً لإضافة ما وأبدوا استعداداً لدفع المال من أجلها، فكانوا يبقونها في السيارة، وإلا فإن رأي المستخدم المستهدف هو الذي سيسود ولو كان ذلك بخلاف ما يطمح إليه مهندسو بورش.
وحين طرحت بورش سيارة "كايين" في السوق في العام 2003 حققت نجاحاً مبهراً على الفور، وبعد مضي 10 سنوات لا تزال بورش تبيع قرابة 100 ألف سيارة "كايين" سنوياً، أي خمسة أضعاف ما باعته في السنة التي طرحت فيها السيارة في السوق، لتصبح سيارة "كايين" أكثر السيارات التي حققت أرباحاً في أسواق السيارات، وكانت في العام 2015 مسؤولة عن تحقيق نصف أرباح شركة بورش.
كيف أخفقت "فيات كرايسلر" في منتجها الجديد؟
كان إعلان شركة "فيات كرايسلر" عزمها على التوقف عن إنتاج سيارة "دارت" بمثابة ضربة معنوية ومالية للشركة. لقد كانت سيارة "دارت كومباكت" خطاً جديداً من سيارة "دودج دارت" الشهيرة، والتي توقفت الشركة عن إنتاجها منذ العام 1976، وكان الهدف من إعادة إنتاجها بشكل جديد هو زيادة قدرة "كرايسلر" على المنافسة في قطاع السيارات الصغيرة بالإضافة إلى رغبة الشركة في استهداف جيل جديد من العملاء.
من بين 6 سيارات تباع في الولايات المتحدة هنالك واحدة من السيارات العائلية الصغيرة (Compact Car)، وكان إنتاج هذا الطراز أمراً بالغ الأهمية لـ "فيات كرايسلر"، حتى أن الرئيس التنفيذي مارشيوني قال في مقابلة معه في العام 2012: "إن الشركات التي لا تنجح في صناعة السيارات العائلية الصغيرة محكومة "بالفشل". وعليه، فإن الشركة قررت استثمار 700 مليون دولار في مصنع "بيلفيدير" في إلينوي لصناعة سيارة قال عنها الرئيس التنفيذي إنها ستكون "خطوة مذهلة في طريق نقل علامتنا التجارية إلى قلب أميركا".
وكما جاء في الإعلان التلفزيوني الخاص بالتسويق للسيارة والذي يستغرق دقيقة ونصف الدقيقة فإن عملية تطوير المنتج كانت كالتالي: "صمم، واصنع، وأعد التفكير. صمم، اصنع، ثم أعد التفكير ثم ابدأ مجدداً واصنع من جديد"، وذلك حتى شعر فريق الهندسة، برأيهم الحصري، أن السيارة جاهزة للإنتاج، بل إن الإعلان الترويجي قد صرح بفخر أن الشركة "استثنت موظفي الشؤون المالية" من عملية تطوير المنتج، فليس المال عائقاً لها. وهكذا يقول الإعلان إن الشركة راحت تصمم نموذجاً وراء نموذج حتى اهتدت إلى التصميم الأفضل، وبدا لهم أن هذه السيارة صنعت لتكون كاملة كما يقترح الإعلان.
المشكلة أن مصدر تعريف هذا "الكمال" هو الشركة نفسها لا المستهلك، فوضعت سعراً مفاجئاً للسيارة، وعبثاً راحت تحاول بيعها.
واعتقدت "فيات كرايسلر" في بداية الأمر أنها بهذا الأسلوب ستتمكن من جعل سيارة "دارت كومباكت" تسيطر على عرش السيارات العائلية الصغيرة وتحل محل "هوندا سيفيك" أو "تويوتا كورولا".
ولكن لم يكن لدى تويوتا ولا هوندا (ولا أي منافس في هذا المجال) أي داع للقلق، وحين طرحت "دارت" في السوق لم تجد القبول ولا التحمّس الذي كانت تنتظره من المشترين، ولم تبع سوى ربع الرقم الذي كان متوقعاً أن يبلغه حجم المبيعات، مما جعل مجلة "ماركت ووتش" تعلن أن هذه السيارة تعد ثاني أكبر حالة فشل من بين السيارات الجديدة التي طرحت في السوق ذلك العام.
من بين الأخطاء العديدة التي وقعت فيها "فيات كرايسلر" أن أول دفعة من السيارة "دارت" كانت بناقل حركي يدوي، ولم يكن هذا خياراً ذكياً ذلك أن 85% من سيارات العائلة الصغيرة التي تباع في أميركا هي ذات ناقل حركة أوتوماتيكي. والخطأ الثاني هو وضع خيار ناقل الحركة المزدوج، وهو خيار يناسب أذواق سائقي السيارات في أوروبا لا في أميركا. لقد شعر الناس أنها سيارة لا يمكن أن يعتمد عليها، في وقت حازت فيه السيارات المنافسة (مثل كورولا وسيفيك) على تقييمات عالية فيما يتعلق بهذه الناحية. وهنالك قائمة طويلة بأخطاء ارتكبتها الشركة على هذه الشاكلة.
لعل السبب الذي يقف وراء كل هذه الإخفاقات، هو أن "فيات كرايسلر" لم تبذل الجهد الكافي لتعرف ما يفضّله مستخدمو سيارة العائلة الصغيرة في أميركا وما يرونه يستحق مالهم، وذلك قبل أن تلقي بمهمة إنتاج السيارة للمهندسين والمصممين.
لقد دفعت شركة كرايسلر ثمناً باهظاً عندما لم تحاول أن تفهم ما يريده المستهلكون قبل أن تشرع بتصميم السيارة وإنتاجها.
يمكن أن نقول باختصار إن شركة بورش نجحت في ابتكار السيارة الجديدة حين قررت أن تصممها بناء على ما يرغب فيه المستهلك ويبدي رغبة في دفع ماله من أجله. أما "فيات كرايسلر" فقد صممت سيارات "دارت كومباكت" متخيلة أن تحديد "القيمة" سيحدث بشكل منفصل عن العملية، ولذا فقد جاء السعر في ذيل الأولويات (كما يقترح الإعلان الترويجي للسيارة).
المؤسف هو أن معظم الشركات تقع في الخطأ الذي وقعت فيه "فيات كرايسلر" عند الشروع بتطوير منتج ما، ولو فكرت قليلاً فقد تذكر بعض المنتجات التي لاقت إخفاقاً كبيراً، مثل هاتف "فاير فون" لشركة "أمازون"، ودراجة "سيجواي" الكهربائية التي اخترعها دين كامين، وغيرها العديد من المنتجات التي كان مصيرها الفشل، والسبب في ذلك هو نفس الخطأ الذي ارتكبته "فيات كرايسلر" في أسلوبها الذي راحت تتباهى به في إعلانها الترويجي.
إن هذه العملية العقيمة من الابتكار مسؤولة عن 72% من حالات إخفاق المنتجات الجديدة. فالشركات التي تطور منتجاتها بناء على ما يفضّله العملاء وبالسعر الذي يعرفون أنهم مستعدون لتقديمه، مثلما فعلت شركة بورش في هذا الصدد، لديها معدل منخفض من الإخفاق فيما يتعلق بالابتكار. ومن الأمثلة على هذه الشركات أيضاً شركة "بروكتر آند غامبل" (خاصة نجاحها منقطع النظير في إنتاج شفرة الحلاقة "غارد" (Gurad) في السوق الهندية)، وشركة صناعة الكريستال "سفاروفسكي"، وشركة "دراغر سيفتي"، وهذه الأخيرة شركة ألمانية متخصصة بإنتاج المعدّات التي تكتشف الغاز الذي يشكّل خطورة على العمال في المناجم وفي أماكن العمل الأخرى تحت الأرض.
إن أهم عنصر في عملية الابتكار في هذه الشركات هو امتلاكها الرغبة في الحديث مع العملاء في مرحلة مبكرة من تطوير المنتج لمعرفة المواصفات التي تدفعهم لدفع النقود لشراء المنتج، وما يعرف باستراتيجية "الرغبة في الدفع" (Willingness-to-pay) ونحن نعرف تماماً أن الشركات الناجحة تلتزم بهذا المبدأ التزاماً مطلقاً في كل مرة يفكرون بها في منتج جديد.
هذا الحديث مع العملاء (هو عبارة عن مجموعة من الأسئلة الموحدة التي تطرحها الشركة على مجموعة مستهدفة من العملاء عند البدء بعملية ابتكار المنتج الجديد) من شأنه أن يساعد الشركة على الحصول على مدخلات من العملاء قبل الوصول إلى مرحلة الاستثمار في هندسة المنتج وتصنيعه وتسويقه. هنالك في المقابل العديد من الشركات التي تدّعي أن الإخفاقات هي ثمن الابتكار، وحجتهم هي أن 10 إلى 20% من المنتجات الجديدة المبتكرة ستعوض ما حدث من 90 إلى 80% من خسائر المنتجات التي تعرضت للفشل. ولكننا لا نتفق مع هذا، فتصميم المنتج ليشتمل على مواصفات يقدّرها العميل ويبدي استعداداً لدفع المال للحصول عليها يمكّن الشركات من تجنب الفشل الذي قد يرافق الابتكار.