ملخص: أظهرت الدراسات أن الإبداع يتعزز عندما نخوض تجارب جديدة ومبتكرة، لكن مع تعذّر خوض تلك التجارب في عصرنا الحالي القائم على التباعد الاجتماعي، أصبحت العديد من أعمالنا الروتينية مملة ويمكن التنبؤ بها. وعلى الرغم من أن جائحة "كوفيد-19" جعلتنا محاصرين في زاوية عوالمنا المحدودة خلال المستقبل المنظور، يمكننا استخدام استراتيجيات قائمة على البحوث للحفاظ على روحنا الإبداعية مثل: 1) تطويع المشاعر السلبية، 2) وإيجاد متنفّس للتعبير عن المشاعر، 3) والانغماس في حالة من التدفق الذهني، 4) وتوسيع شبكة علاقاتنا مع الآخرين، 5) وقضاء بعض الوقت في الطبيعة.
لقد تضاءل حجم عوالمنا على مدى الأشهر السبعة الماضية، وذلك مع استمرار انتشار فيروس "كوفيد-19". وتحوّل نهج العمل من المنزل من بدعة إلى أمر عادي. كما اختفت أنشطة السفر بغرض العمل أو الاستجمام بعد أن كانت أموراً روتينية فيما مضى. فيما أُدرجت أنشطة الاجتماع مع الأصدقاء وتناول الطعام في مطاعمنا المفضلة وزيارة العائلة ضمن قائمة لا حصر لها من المحظورات التي مُنعنا من ممارستها اليوم ولأشهر قادمة.
وقد تؤثر تلك الرتابة وعدم التجديد في حياتنا في ظل جائحة "كوفيد-19" سلباً على حسنا الإبداعي، وقد تزعزع حتى قدرتنا على تجميع الأفكار معاً بهدف التوصل إلى حلول جديدة ومفيدة للمشكلات التي تعترضنا. تتعزز الروح الإبداعية في الواقع عندما نخوض مواقف وأحداث جديدة. على سبيل المثال، قسّم الباحثون القائمون على إحدى التجارب المدعومة بالواقع الافتراضي المشاركين إلى 3 مجموعات؛ فخضعت المجموعة الأولى لتجربة محاكاة جامحة تتحدى قوانين الفيزياء، حيث تجولوا في غرفة تتطاير فيها الأجسام والعناصر بدلاً من أن تسقط على الأرض، أو تصغر في الحجم عند الاقتراب منها. وخضعت المجموعة الثانية لتجربة محاكاة مماثلة باستثناء أن حركة الأجسام والعناصر كانت طبيعية. في حين شاهدت المجموعة الثالثة من المشاركين مقطع فيلم حول تجربة المحاكاة التي خاضتها المجموعة الأولى. أظهر المشاركون في المجموعة الأولى زيادة في المرونة الإدراكية التي تُعتبر جزءاً أساسياً من الإبداع، في حين لم يُبد الآخرون تلك المرونة.
وعلى الرغم من أن خوض تجارب مدعمة بتقنيات الواقع الافتراضي هو أمر نادر، كان تعرضنا لمواقف جديدة قبل انتشار جائحة "كوفيد-19" أمراً روتينياً، وكانت الأنشطة العادية مفيدة في زيادة مرونتنا المعرفية، مثل سلك طريق جديد للعمل بسبب التحويلات في الشارع نتيجة أعمال البناء، أو إجراء محادثة مفاجئة في الردهة مع أحد الزملاء.
وللأسف، نرزح اليوم تحت وطأة قدر هائل من التوتر والضغوط، كالمخاوف المرتبطة بأمننا الوظيفي وصحة أحبائنا وتعليم أطفالنا. وتُظهر البحوث التي تدور حول صناعة القرار أن أدمغتنا تميل إلى اتباع نهج رجعي تحت وطأة الضغوط، وهو ما قد يؤثر سلباً بدوره على روحنا الإبداعية، كأن نلجأ في عملية صناعة القرار إلى حصر تفكيرنا في خيارين اثنين.
لكن هل يجب علينا أن نتخلى عن روحنا الإبداعية في العمل والحياة وأن ننساق لعزلة الجائحة ونحشر أنفسنا ضمن نطاق عوالمنا المحدودة والباعثة على التوتر خلال المستقبل المنظور؟
ليس بالضرورة أن نستسلم طالما أننا نعرف الخطوات التي يجب علينا اتباعها، وهي نتيجة توصّل إليها خبراء القيادة والإبداع. وفيما يلي 5 استراتيجيات مدعومة بالبحوث تهدف إلى توسيع وجهة نظرك للعالم وتعزيز روحك الإبداعية.
استراتيجيات قائمة على البحوث للحفاظ على روحنا الإبداعية
تطويع المشاعر السلبية
يجمع عدد متزايد من علماء النفس وعلماء الدماغ أدلة تفيد بأن المشاعر السلبية قد تكون عنصراً حيوياً في مجموعة أحساسينا العاطفية. ويُعتبر الغضب على وجه الخصوص إحدى تلك القوى الدافعة، ذلك لأنه يحصر تركيز عقولنا وأحاسيسنا المزاجية بطرق مجدية تثير حماسنا وتحثّنا على تحقيق أهدافنا. وعندما يدرك الأفراد قدرة المشاعر على تحسين حالاتهم العاطفية، يمكنهم تطويع مشاعرهم السلبية والمتشائمة لتنشيط مركز المكافأة في الدماغ.
وقد شهدت بنفسي في جلسات تدريب التنفيذيين أهمية مشاعر الغضب والإحباط التي تنتاب عملائي بسبب الجائحة وغيرها من العلل المجتمعية في تأجيج قرارات التخلي عن الرواتب الكبيرة لصالح تحقيق مساع أكثر إبداعاً.
على سبيل المثال، كانت إحدى عميلاتي، وهي الدكتورة سوزان أبو كير، تشغل منصب الرئيسة التنفيذية للخدمات الطبية في أحد المستشفيات وتتقاضى راتباً جيداً قبل أن تتنحّى عن منصبها مؤخراً بهدف إعداد برنامج جديد لتدريب الأطباء وفق منهج مبتكر يعزز أواصر الترابط بين الطبيعة والطب، ومثّل ذلك البرنامج استراتيجية جديدة لتحسين الصحة العامة واعتُبر بمثابة تغيير جذري في نهج التدريب التقليدي الذي يتلقاه الأطباء. وتقول سوزان: "أعتقد أن الجائحة عززت من روحي الإبداعية ومكّنتني من السيطرة على حالات صرف الانتباه التي كانت تعيقني عن التركيز وتبعثر أفكاري وتستنزف طاقتي. فقدرتنا على تعزيز روحنا الإبداعية تزداد عندما نكرس وقتاً متواصلاً لما نأمل في ابتكاره".
إيجاد متنفّس للتعبير عن المشاعر
أظهرت الدراسات أن التعبير عن نفسك من خلال الفن قد يساعدك في إدارة مشاعر التوتر والقلق وتحسين صحتك العامة.
على سبيل المثال، قررت إحدى عميلاتي التي سأدعوها جوليا والتي تشغل منصب قائدة ضمن المناصب التنفيذية العليا لمؤسسة غير ربحية للرعاية الصحية الاشتراك في برنامج ينطوي على حضور جلسات تمثيل ارتجالي لمساعدتها في إدارة مشاعر التوتر التي كانت تنتابها قبل انتشار جائحة "كوفيد-19". إلا أن حصولها على ترقية غير متوقعة إلى منصب الرئيسة التنفيذية المؤقتة بعد انتشار الجائحة جعلها تدرك أن جلسات تطوير المهارات الارتجالية التي لا زالت تحضرها عن بُعد قد ساعدتها في التوصل إلى حلول إبداعية لمشكلات غير متوقعة. على سبيل المثال، ساعدها الارتجال في التنبه إلى الإشارات غير اللفظية التي لا تنطوي على الكلمات فحسب وإنما على المعنى الضمني ونوايا المتحدثين. وقررت عميلة أخرى تعلم العزف على القيثارة في الوقت الذي كانت تخصصه للتنقل بين المنزل والمكتب. وساعدها ذلك القرار في التواصل مع مجتمع جديد من المتعلمين، وهو ما قلل من عزلتها وفتح أبواب التجارب الجديدة والمبتكرة أمامها.
الانغماس في حالة التدفق الذهني.
هل سبق لك أن انخرطت تماماً في نشاط ما لدرجة أنك فقدت الإحساس بالوقت؟ تُدعى تلك الحالة العقلية "بالتدفق الذهني"، والتي يعرّفها عالم النفس ميهاي تشيكسنتميهاي، بأنها "الانغماس التام في نشاط واحد".
وأظهرت البحوث التي أجرتها الأستاذة بجامعة هارفارد، تيريزا آمابيل، أن الأشخاص الذين يختبرون حالة التدفق الذهني يبلغون عن مستويات أعلى من الإبداع والإنتاجية والسعادة. واكتشفت آمابيل أن الإبداع لدى الأفراد يتعزز لحظة انغماسهم في حالة التدفق الذهني وبعد مضي أيام حتى، وهو ما يشير إلى أن التدفق الذهني يزيد الإبداع في الوقت الحالي وعلى المدى الطويل على حد سواء. بمعنى آخر، يساعدنا التدفق الذهني في أن نكون أكثر إبداعاً.
ويمكنك تنمية حالة التدفق الذهني دون أن تُجبر نفسك على أن تكون مبدعاً. فكّر في اللحظات التي تفقد فيها الإحساس بالوقت، ما هي الأنشطة التي تمارسها خلال تلك اللحظات؟ هل تكون تمارس الجري؟ أم تقرأ كتاباً ممتعاً؟ يتمثّل أحد الخيارات التي أوصت بها جورجيا لوبي في كتابها الذي يحمل عنوان "راقب واجمع وارسم" (Observe, Collect, Draw) في توثيق تفاصيل حياتك الشخصية بشكل يومي.
توسيع نطاق شبكة علاقاتك
تظهر البحوث أن شبكة العلاقات المتنوعة تعزز الإبداع، وأن تنوع المعرفة يرتبط بالإبداع الفردي بشكل إيجابي. لطالما اعتُبرت مهمة خلق المعرفة نشاطاً يعتمد على قدرتنا على معالجة البيانات والمعلومات في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. ومع ذلك، يفسّر العلم الحالي عملية خلق المعرفة على أنها عملية اجتماعية تعززها التفاعلات مع أشخاص يتمتعون بخلفيات ورؤى ثاقبة مختلفة.
وعلى الرغم من أن معظمنا مُنع من السفر أو حضور الفعاليات بشكل شخصي في الوقت الحالي، لا يزال بإمكاننا التواصل بشكل افتراضي، ويمكنك حتى استضافة حدثك الخاص. على سبيل المثال، ساعدتُ في تكوين مجموعة توجيه وإرشاد تضم رائدات أعمال تجتمعن كل أسبوعين على منصة "زووم" وأصبحتُ جزءاً من تلك المجموعة، حيث نجتمع معاً بصفتنا رائدات أعمال تتمتعن بمهارات تكميلية وتسعين للحصول على آراء الأخريات اللواتي يتصفن بالذكاء ويتمتعن بالحماس فيما يتعلق بكيفية النهوض بأعمالنا وتطويرها. وبالإضافة إلى الحديث عن الأعمال التجارية، شاركنا في جلسة حول فن التجديد بهدف تنشيط معنوياتنا وانضممنا إلى تجربة ممتعة لحل الأحجيات عبر الإنترنت.
قضاء وقت في الطبيعة
أظهرت دراسة نفسية بحثت في تأثير الطبيعة على الإبداع أن قضاء وقت ممتع في الخارج يحسّن القدرات الإبداعية لدى الأفراد، حيث أجرى 56 شخصاً ممن شاركوا في رحلة مشي لمسافات طويلة تقييماً يقيس الإمكانات الإبداعية باستخدام اختبار روابط الكلمات، وخضع 24 شخصاً منهم للاختبار قبل بدء الرحلة، في حين خضع 32 آخرين للاختبار في اليوم الرابع. وكان أداء الأشخاص في المجموعة الأخيرة أفضل بكثير. ووجد الباحثون في النهاية أن قضاء الوقت في الطبيعة أدى إلى تحسين درجات اختبار الإبداع بنسبة 50%.
أما سوزان التي تعمل طبيبة متدربة بعد أن كانت تشغل منصب الرئيسة التنفيذية للخدمات الطبية، فقد استغلت شهادتها لتصبح مرشدة للعلاج بالغابات بهدف تعليم الأطباء الشباب عن مواضيع الأنظمة والقيادة. وعزز ذلك المشروع روحها الإبداعية في الوقت ذاته. وتقول: "لقد وفّرت لي الجائحة مساحة أكثر هدوءاً للتركيز على المساعي الإبداعية وتحقيق تلك المساعي بالفعل".
تُمثّل جميع الاستراتيجيات المذكورة أعلاه أهم الخطوات التي يجب عليك اتخاذها إذا كنت تأمل في إيقاد شعلة بعض الأفكار الجديدة؛ وكما يقول الخبير في الإبداع ديفيد بوركس: "قد تتضاءل روحنا الإبداعية ما لم نبذل جهوداً واعية لمواجهة نطاق الحياة الضيق الذي نعيشه حالياً ونتخطى مشاعر القلق التي تنتابنا"، وتلك هي نصيحة جيدة. باختصار، لا ينبغي أن تكون روحك الإبداعية أمراً تتنازل عنه في وقت تكون في أمس الحاجة إليه.