تحدّت جائحة "كوفيد-19" قرارات الشركات التي وُضعت منذ عقود بخصوص العقارات وتصميم أماكن العمل دون سابق إنذار، من خلال التشكيك في الهدف من تأسيس المكاتب المركزية الكبيرة. وعلى الرغم من اتخاذ العديد من المؤسسات قراراً بالاستمرار في متابعة سياسات العمل من المنزل في المستقبل المنظور، إلا أننا نعتقد أن الوقت مثالي اليوم للتخطيط لاستراتيجية ومستقبل أماكن العمل في المدن بعد تجربة الأزمة من خلال إعادة النظر في الفكر السائد وراء تأسيس المكاتب المركزية. ونعتقد أن اتباع نموذج يعتمد على توزيع أماكن العمل في جميع أنحاء المدن والمناطق الجغرافية سيدعم أداء الموظفين، ويحقق مرونة تنظيمية أفضل، ويسهم في تحسين المجتمع الحضري والمجتمعات المحلية.
على مدى السنوات العديدة الماضية، درسنا دور البيئات المكتبية في مساعدة الموظفين على الازدهار في العمل يُعرّف الازدهار في الواقع، أنه الخبرة القائمة على النشاط والتعلم، ويرتبط بتحسين الأداء الوظيفي والإبداع والرفاهة والتفاعلات الإيجابية بين الزملاء. فضلاً عن أنه يتأثر أيضاً بتصميم المكاتب، إذ قد تسهم قاعات الاجتماعات المصممة جيداً في تعزيز ثقافة التعلم ومشاركة المعرفة، بينما تعزز مرافق المكاتب وتعرّضها إلى الضوء الطبيعي والميزات الجمالية الأخرى مشاعر النشاط.
يرتبط الازدهار أيضاً بالأوضاع السائدة، وقد عرّضتنا الأشهر الأخيرة بالفعل إلى ضغوط جعلت من الصعب على الموظفين بلا شك أداء أفضل ما لديهم، بغض النظر عن أماكن عملهم. وبدلاً من تحقيق الازدهار في بيئات العمل المُعدّة لتطوير الأداء الوظيفي، يحاول العديد من الموظفين اليوم تحقيق المواءمة بين أعمالهم وبين واجبات رعاية أفراد الأسرة في الحيز المكاني نفسه، أي المنزل، وقد ترتّب على عاتق البعض الآخر منهم حتى مسؤولية إضافية في متابعة التعليم المنزلي لأطفالهم.
لكن على الرغم من التحديات المرتبطة "بالوضع الطبيعي الجديد"، شهد الموظفون والمؤسسات والمجتمعات أيضاً فوائد يصعب إنكارها. فالهواء في المدن الكبرى أصبح أنظف. ولم يعد الموظفون يقضون أوقاتاً طويلة في التنقل. ومنحت المؤسسات العمال المرونة التي كانوا يسعون إلى الحصول عليها منذ فترة طويلة. ونحن متفائلون في تحقيق مزيد من الفوائد على المدى البعيد إذا جرى تبني مبادئ التخطيط والتصميم الجديدة.
هل يمكن أن تختفي "المكاتب" في المستقبل؟
لن تختفي المكاتب، لكن تأسيسها سيعتمد على اتباع نهج جديد. وسيبقى الموظفون بحاجة إلى أماكن تتيح لهم الالتقاء والتواصل وتعزيز العلاقات وتطوير مساراتهم المهنية، لكن قد يضرّ حجم المكتب الحديث ومدى اتساعه وكيفية تصميمه بجودة تلك العلاقات.
وقد وجد عالم الاجتماع ريتشارد سينيه منذ أكثر من 40 عاماً في دراساته حول طبيعة الحياة العامة في المدن وأماكن العمل، أن الموظفين في بيئات العمل يحتاجون إلى التمتع بخيار إقصاء أنفسهم في بعض الأحيان من أجل الحفاظ على جودة علاقاتهم الاجتماعية. لكن حاجتنا إلى أماكن خاصة نلجأ إليها عندما نلتمس العزلة لا تقل أهمية عن حاجتنا إلى أماكن عامة تجمعنا معاً. ويجادل بحث آخر أن المرء يمكنه الحفاظ على استقرار 100 إلى 200 علاقة قبل أن تبدأ جودة تلك العلاقات في التضاؤل. وتشير تلك النتائج مجتمعة إلى أنه إذا أردنا الحفاظ على استقرار علاقاتنا المهنية في العمل، وتحقيق أداء أفضل، فيجب علينا إعادة النظر في حجم مكاتبنا وكيفية تصميمها لتحقيق توازن أفضل بين مستويات التواصلية والمسافة بيننا وبين زملائنا.
وبغض النظر عن بناء العلاقات، تُعتبر المكاتب مهمة لمجموعة من الأسباب الأخرى. إذ يستخدم كل من الموظفين والمؤسسات أماكن العمل وسيلة للتعبير عن قيمهم وتطلعاتهم. ويساعدنا تصميم أماكن العمل تلك في التعبير عن هوياتنا المهنية. وعلى الرغم من انتشار العمل الافتراضي على نطاق واسع اليوم، لا يزال العديد منا يعمل استناداً إلى الثقافات والأعراف والعلاقات والممارسات المتّبعة قبل الجائحة. لكن إذا كنا نرغب في تغيير أي من تلك العوامل في المستقبل أو تكييفها مع الوضع الحالي، سنواجه صعوبة في تحقيق ذلك دون امتلاك أي حيّز مكاني. وكما أخبرنا الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات في ورشة حديثة، "لا يمكنك تغيير ثقافة ما عبر منصة "زووم"".
كيف يمكننا تصميم مكاتب وأماكن عمل أفضل؟
شاركنا بصفتنا باحثين ومصممين في برنامج للدراسات التصميمية لتصور الشكل الذي قد تبدو عليه أي مؤسسة نموذجية في حال جرى إعادة توزيع مقرها الرئيس التقليدي إلى سلسلة مترابطة من العقد عبر مدينة أو منطقة جغرافية محددة على نطاقات مختلفة. ماذا يتطلب هذا النموذج الجديد؟ كيف يمكنه تحسين حياة المدينة؟ وكيف ستساعد تلك التغييرات المؤسسات؟
افترضنا أن توزيع العمال في جميع أنحاء المدينة أو المنطقة ضمن أماكن عمل أصغر ومنحهم فرصة تعاون أكبر مع الزملاء الذين يعيشون على مقربة منهم قد يُسفر عن فوائد عديدة.
عند دراسة هذا النموذج من منظور القدرة على التحمل، وجدنا أنه يُتيح مزيداً من الخيارات فيما يتعلق بإمكانية اختيار مكان العمل في حال حدوث زعزعات، مثل الكوارث الطبيعية أو انقطاع التيار الكهربائي أو البنية التحتية المعرضة للخطر أو تعطل حركة المرور. أما عند دراسته من منظور تطوير الأعمال، وجدنا أنه يجعل المؤسسات أقرب إلى عملائها أو زبائنها، وقد يمنحها حتى خيار مشاركة مواقعها مع أولئك العملاء والزبائن. وقد يجعل الشركات أيضاً أقرب من الأشخاص الباحثين عن عمل أو شبكات المواهب الأخرى.
على سبيل المثال، فتحت بعض شركات الخدمات المالية الكبيرة الموجودة في الحي المالي في نيويورك مؤخراً، مكاتب للعمليات البرمجية وغيرها من العمليات الأخرى المتعلقة بالتكنولوجيا بالقرب من مجتمع الشركات الناشئة في المدينة باعتبارها وسيلة للتواصل معها. وتلك كانت الاستراتيجية المتبعة وراء تأسيس شركة "كابيتال وان لابس"، في مدينة نيويورك في حي فلاتيرون بعيداً عن شارع وول ستريت. حيث أتاح ذلك الموقع للشركة تعزيز العلاقات مع مجتمع التكنولوجيا القريب وجذب المواهب.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التحول التنظيمي الواسع النطاق من المكاتب التي تشغل طوابق كبيرة في مبنى واحد إلى سلسلة من العقد الموزعة في مواقع متعددة يؤدي إلى وجود مزيد من مباني المكاتب متعددة الاستخدامات التي تخدم مجموعات أكثر تنوعاً من العمال. ونفترض أن نموذج التصميم الجديد هذا قد يسهل تنمية مزيد من العلاقات رفيعة المستوى، وهو أمر ضروري لتعزيز الفرق الحالية وتطوير علاقات جديدة داخل المؤسسات وفيما بينها.
كيف ستبدو تلك المكاتب؟
أحد أكبر التغييرات التي أثّرت على عقارات الشركات على مدى العقد الماضي هو ظهور أماكن العمل المشتركة وتطورها، خاصة بعد أن مكّنت تلك الأماكن الموظفين والمؤسسات من استخدام مكاتب مشتركة أصغر وأكثر مرونة مع إيجارات قصيرة الأجل. وعلى الرغم من أن العدد الإجمالي لأماكن العمل المشتركة آخذ في الازدياد، إلا أنه لا يزال يمثّل جزءاً صغيراً فقط من أماكن عمل الشركات. (يوجد حوالي 22,000 مكتب من مكاتب العمل المشتركة في جميع أنحاء العالم، وتخدم تلك المكاتب حوالي مليوني عامل). ونفترض أن الخيارات الشبيهة بأماكن العمل المشتركة هي نماذج مثالية لما يمكن أن تبدو عليه شبكة أماكن العمل الموزعة.
يتمثّل أحد التحديات التي تواجه المكتب المركزي التقليدي في أن التواصل بين الأشخاص عبر الطوابق والمباني نادر الحدوث، ذلك أننا نميل إلى التواصل أكثر مع أولئك الذين يعملون على بعد ستة أقدام منا. إلا أن تقسيم مباني المكاتب الحضرية إلى وحدات عمل أصغر تخدم العديد من الشركات مع توفير مرافق مشتركة قد يساعد في حل تلك المشكلة. كما أن تخصيص المزيد من أماكن العمل المتاحة للعامة قد يجعل تلك المكاتب أكثر جاذبية؛ ذلك أنها تتيح للموظفين التفاعل مع بعضهم البعض، وتطوير العلاقات عبر الوحدات، أو العمل في أماكن خاصة حسب رغبتهم.
بالإضافة إلى ذلك، لاحظنا عند دمج المرافق مع مكاتب الشركات، مثل أماكن إقامة الفعاليات والمطاعم والصالات الرياضية داخل المباني التجارية، أن ذلك النهج يُتيح لتلك القطاعات التكامل بدلاً من التنافس مع بعضها البعض. على سبيل المثال، يمكن وضع المطاعم على أسطح المباني للتمتع بالمناظر التي تُطل عليها تلك المباني، بينما يمكن وضع صالات اللياقة البدنية في طابقي الميزانين أو الطوابق المتوسطة للاستفادة من مساحات الطوابق الأكبر. ويعود أصل تلك الفكرة في توزيع أماكن العمل والخدمات بعناية ضمن طابق واحد من العقار إلى الاستراتيجية التي تبناها قطاع الفنادق على مدار العقد الماضي. إذ تجمع الفنادق خدمات الوجهات السياحية مثل أماكن العمل المشتركة مع متاجر البيع بالتجزئة والمقاهي وأماكن تناول الطعام ذات الطابع الخاص لجذب الزوار والسكان المحليين على حد سواء. وقد يزيد ذلك النهج بدوره من جاذبية بعض الأحياء في نظر الشركات التي تقدم خدمات تكميلية.
ويمكن لاستراتيجيات إعادة الاستخدام القابلة للتكيف تلك تغيير السمة التي تطغى على الأحياء الحضرية، مثل مناطق الأعمال المركزية في مدينتي لوس أنجلس وديترويت وأقصى غرب مدينة مانهاتن. حيث انخفض عدد المباني التجارية الشاغرة في كل من تلك المناطق وازداد عدد الوحدات السكنية. لذلك، نتصور مستقبلاً حضرياً توفر فيه تلك التغييرات الخدمات وأماكن الإقامة والوظائف للأشخاص من مختلف أطياف الدخل، وهو ما يجعل المدن تقدم مزيداً من الدعم لمواطنيها بطريقة عادلة في النهاية.
وأصبحت التغييرات التي أوصينا بها لأبراج المكاتب في المدن قيد التطبيق في بعض مناطق الضواحي بالفعل. وعند دراستها من منظور استراتيجيات إعادة التقسيم، نجد أن مكاتب الضواحي تقدّم العديد من خيارات إعادة الاستخدام القابلة للتكيف. وعلى الرغم من أن مباني المكاتب في المدن تزيد من حيوية الشوارع التي توجد فيها، يمكن إعادة توجيه هدف مباني المكاتب في الضواحي لجعلها مقصداً جديداً. إذ ستشجع تلك الاستراتيجية الأشخاص على استخدام مزيد من المباني الفردية لأغراض متعددة وتقليل حاجتهم إلى القيادة بين المواقع المختلفة.
ويقدم مبنى "بيل ووركس" (Bell Works) في هولمديل في نيو جيرسي مثالاً مثيراً للاهتمام حول هذا النموذج (الشكل 2). فقد كان المبنى سابقاً موقعاً تبلغ مساحته مليوني قدم مربع يضم مختبرات "أيه تي آند تي بيل" (AT&T Bell)، في منطقة ضواحي معزولة نسبياً، ليُعاد تطوير المبنى بصفته مركزاً متعدد الاستخدامات مع توفير أماكن عمل مقسمة وأماكن للعمل المشترك وتجارة التجزئة والمطاعم، وغيرها من الميزات الموجهة لخدمة المجتمع. وما كان في السابق مبنى لمؤسسة واحدة أصبح يضم اليوم أكثر من 100 شركة مختلفة في أجنحة فردية.
وينمّي المركز اليوم أوجه الترابط بين مجموعات المستخدمين: العاملون في المكاتب الذين يمكنهم تناول الطعام في الشركة، والمتسوقون الذين يمكنهم حضور الفعاليات الميدانية. ويجري الاستفادة من المركز اليوم بطريقة أكثر توازناً، حيث تتجاوز ساعات العمل الأساسية من الساعة التاسعة صباحاً حتى الساعة الخامسة مساءً. فما يقرب من 25% من الأشخاص الذين يقصدون مبنى "بيل ووركس" على أساس يومي لا يعملون فيه حتى. كما أن مطور المبنى على وشك افتتاح موقع ثانٍ في إحدى ضواحي مدينة شيكاغو يضم مجمعاً سكنياً في حيّزه المكاني.
ما التقنيات التي قد تتطلبها أماكن العمل تلك؟
حتى مع وجود مجموعات من الأشخاص العاملين معاً عبر شبكة من المواقع، ستبقى الحاجة إلى التعاون الافتراضي قائمة. يتكون المكتب المركزي التقليدي من قاعات اجتماعات بأحجام وسعات مختلفة. لكن قد لا يكون الشخص الذي يحضر الاجتماع عبر الهاتف في وضع مكافئ لزملائه المجتمعين في الغرفة ذاتها في هذا النموذج. إذ لن نسمع من العامل عن بُعد إلا صوته، سواء عبر الهاتف أو من خلال نافذة عرض على الشاشة.
ومع ذلك، أسفرت الجائحة اليوم عن تحييد تلك الاجتماعات الافتراضية. وأصبح الجميع يظهرون بالتساوي في نافذة العرض على الشاشة. ونتصور تنظيم الاجتماعات بطريقة مماثلة في المستقبل، باستخدام التقنية الغامرة التي تهدف إلى ربط مجموعات المشاركين في أحد مواقع الأعمال المشتركة بطريقة أكثر سلاسة وإنصافاً مع مجموعات زملائهم في مواقع الأعمال المشتركة الأخرى. وقد تتمثّل السمة الرئيسة للمكتب اللامركزي في وجود قاعة اجتماعات هجينة أو مركز بث مزود بتقنية الواقع الافتراضي/ الواقع المعزز. (الشكل 3).
أين يمكن بناء أماكن العمل تلك؟
يتوفر لدى الأفراد اليوم المزيد من الخيارات حول مكان ووقت أداء أعمالهم. وما بين انتشار أماكن العمل المشتركة وأماكن العمل العامة المجهزة بخدمة الواي فاي (مثل المقاهي والمكتبات وقاعات الانتظار وما إلى ذلك)، شهدنا نهج تجميع العمل وبيعه باعتباره خدمة للمستهلكين. وتتمثل إحدى فوائد أماكن العمل الموجهة للمستهلكين في قربها من قاعدة مستخدميها. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، نتصور مستقبلاً يمكن فيه لأماكن العمل الأصغر المتمركزة في الأحياء دعم المؤسسات التي قد يقطن عمالها على مقربة من بعضهم البعض.
أما في المدن الكبيرة المزودة بخدمة مترويات الأنفاق، مثل نيويورك وواشنطن وبوسطن، حيث تكون أوقات التنقل طويلة وحيث لا يزال التواجد المشترك مع الزملاء مهماً، يمكن دمج المكاتب الثانوية أو مجموعات العمل في أماكن العمل المشتركة ضمن واجهات المحال التجارية أو غيرها من المباني التي تضم مسارات مخصصة للمشاة. ومن شأن مفهوم "مكان العمل كخدمة للمستهلكين" أن يسهم في المزيج التأجيري المحتمل للمباني الصغيرة وأصحاب الخدمات الإضافية، مثل المطاعم ومتاجر البيع بالتجزئة.
بالنسبة للمؤسسات التي تتطلع إلى اعتبار ذلك النهج جزءاً من استراتيجيتها العقارية، فإننا نتصور أن مكان العمل الذي يستهدف الأحياء سيمثل نموذجاً ثقافياً هجيناً من المكتب التقليدي والعمل من المنزل. ويساعد العمل بالقرب من المنزل في مجتمع الفرد على تعزيز وجود المؤسسة في الحي من خلال تجمع العمال في مجموعة محلية، وقد يسهم أيضاً في تعزيز التواصل الاجتماعي بين هؤلاء العمال.
من الفوائد المهمة لهذه الاستراتيجية قدرتها على تعزيز الأهداف التنظيمية المتعلقة بالصحة والعافية من خلال تقليل أوقات التنقل وتشجيع الأشخاص على المشي أو ركوب الدراجة إلى العمل علاوة على ذلك، ستوفر تلك الاستراتيجية مزيداً من المرونة للعمال، وهو ما يتيح للفرق المحلية اختيار موقع العمل بناءً على تفضيلاتهم المشتركة.
أخيراً، يستفيد أعضاء الفرق الموجودون بالقرب من مناطق إقامتهم من إنشاء شبكات مجموعات صغيرة متعددة الوظائف التي قد يستحيل إنشاؤها في حال كان الموظفون يعملون في مكتب مركزي يضم وحدات عمل تؤدي وظيفة واحدة. إن إفساح المجال أمام العمال لتطوير هذه الأنواع من العلاقات الشخصية سيعزز التعاون على المستوى الجغرافي المحلي.
وقد تزيد كل من هذه الفوائد الاجتماعية والمكانية من احتمالية ازدهار الفرق.
وعلى مستوى المجتمع، قد يؤدي توزيع المؤسسات عبر مواقع متعددة إلى إعادة الحياة إلى الأماكن غير المستغلة في كل من المدن والضواحي. ولعل أحد أهم آثار الجائحة هو إغلاق شركات التجزئة والشركات الصغيرة في جميع أنحاء المجتمعات. وفي حال عدم إعادة فتح تلك الشركات، ستترك أماكن العمل الشاغرة في متاجر البيع بالتجزئة وغيرها من واجهات المتاجر فراغاً في هذه الأحياء. في حين قد يساعد تحويل واجهات المتاجر أو أماكن البيع بالتجزئة المتقادمة (الشكل 4) أو المباني الكبيرة الأخرى إلى أماكن عمل مكتبية في تنشيط المناطق التجارية المتضررة والمساعدة في ضمان حيويتها. ويمكن تطبيق هذا الحل في الأحياء التي تضم مسارات مخصصة للمشاة، وفي المدن التي تركز على استخدام السيارات، من خلال إعادة توجيه أهداف المباني لتضم مسارات مخصصة للمشاة.
ويتضمن أحد الأمثلة على هذا النوع من التحول إعادة تطويع متاجر التجزئة متعددة الأقسام في قطاع تجاري مزدهر في لوس أنجلس إلى مكان عمل متعدد الاستخدامات مزود بمرافق عامة على مستوى الشارع (الشكل 5).
ماذا عن العمل من المنزل؟
الأمر الوحيد الذي أثبتته الجائحة، هو جدوى العمل من المنزل لمجموعة واسعة من القطاعات والمناصب الوظيفية. يُعدّ العمل من المنزل لبعض الأشخاص أو المؤسسات خياراً أخيراً وغير مرغوب فيه كثيراً بسبب طبيعة الظروف الشخصية أو المهنية. أما بالنسبة للآخرين، أدت تجربة العمل من المنزل إلى زيادة الإنتاجية وتوفير الوقت وخفض التكاليف وتقليل استهلاك الموارد.
في الواقع، يُدرك العديد من الأفراد المهنيين الفوائد طويلة الأجل للعمل من المنزل. وقد كشفت دراستنا الأخيرة للمقر الرئيس لشركة تضم 700 شخص أن 82% من الموظفين يرغبون في الاحتفاظ بخيار العمل من المنزل عندما تعود الأمور إلى طبيعتها. ويدرك قادة الشركة أيضاً الفوائد المحتملة للعمل من المنزل، ويتفق الكثيرون منهم على احتمالية اعتماد العمل عن بُعد نهجاً طويل الأجل من استراتيجيات مكان العمل.
نتصور مستقبلاً يبقى فيه العمل من المنزل خياراً دائماً للعديد من المؤسسات والموظفين الذين يعملون داخلها، لكنه خيار يبقى مرتبطاً بالحيز المكاني للمؤسسات. وتقدم بعض المؤسسات بالفعل تعويضات مالية للموظفين لإنشاء أماكن عمل مكتبية في منازلهم مع مراعاة إمكانية تعويض مثل تلك الاستثمارات نتيجة انخفاض تكاليف العقارات التجارية على المدى الطويل.
لقد أسفرت الزعزعة في روتين الحياة المكتبية عن توفير فرصة للتعلم هدفها إعادة تصور حجم مكان العمل وكيفية تصميمه. وندرك جميعاً الرغبة في عودة الحياة إلى طبيعتها. وزودت تجربة العمل من المنزل نسبة أكبر من قوة العمل بالأدوات اللازمة للازدهار في مشهد ما بعد الجائحة بطريقة قد تحدث تغييراً إيجابياً في مدننا ومجتمعاتنا وحياتنا المهنية.