أثارت جائحة فيروس كورونا مستويات غير مسبوقة من الاضطرابات النفسية والمهنية لدى كثير من الموظفين. وقد تؤدي إلى تحولات لا رجعة عنها في الطرق التي نتبعها في العمل والتواصل وتناول الطعام والتسوق والتعارف والسفر. من الواضح أننا لسنا في أوقات "طبيعية"، ومع ذلك، فالمجتمع يمضي قدماً.
في خضم هذه المعمعة، اضطر كثير من الموظفين وبشكل مفاجئ إلى قبول تغييرات جوهرية في روتين أعمالهم، فهل فقدت إحساسك بالسيطرة على مجريات الأمور؟ لقد تسببت هذه التغييرات بإثارة التوتر، إذ يقول قرابة 7 من كل 10 موظفين أميركيين إن فترة الجائحة تسببت في أكبر توتر شهدوه في حياتهم المهنية بأكملها. وأحد أسباب ذلك هو أنها جردت الموظفين من استقلاليتهم، أو القدر الذي كان متاحاً لهم ليكونوا على طبيعتهم ويتمتعوا بحرية التصرف. لطالما اعتبر التمتع بقدر معين من الاستقلالية حاجة نفسية فطرية، وأشارت الدراسات إلى أن نقص الاستقلالية يضرّ بأداء الموظف ورفاهته.
تمثل جائحة فيروس كورونا تهديداً صريحاً لاستقلالية الموظف بسبب خطرها المحدق على الصحة الجسدية وعدم القدرة على التحكم بعمليات التسريح المستقبلية للموظفين والقيود التي تفرضها على حركة الجسد واقتراب الشخص من الآخرين وترتيبات العمل الإلزامي من المنزل. لذا، فإن فهم طريقة استعادة الموظفين لشعورهم بالاستقلالية ومعرفة من يتمتع منهم باستعداد أكبر أو أقل للتعافي بسرعة هو أمر حاسم في فهم التأثير الحالي لجائحة "كوفيد-19" على سير العمل.
في دراسة ستنشر قريباً في "مجلة علم النفس التطبيقي"، بحثنا في تجربة التعافي النفسي التي خاضتها مجموعة موظفين يعملون بدوام كامل ويتبعون 41 كلية مجتمعية مختلفة على مدى أسبوعين منذ بدء الجائحة. (أي من يوم الاثنين، 16 مارس/آذار 2020، عقب إعلان منظمة الصحة العالمية أن "كوفيد-19" هو "جائحة عالمية" وإعلان الحكومة الأميركية أنه "حالة طوارئ عالمية"). أجرينا في بحثنا استطلاعات لآراء الموظفين 3 مرات في اليوم لمدة 10 أيام عمل متتالية، وشمل كل استطلاع الأسئلة ذاتها حول شعورهم في اللحظة الراهنة. هذا الأسلوب في البحث معروف باسم "أخذ عينات التجربة"، واستطعنا من خلاله تتبع مسار مشاعر الموظفين وسلوكهم مع مرور الوقت. كان اهتمامنا منصباً بصورة خاصة على اختبار الموظفين لمظهرين من مظاهر الاستقلالية المهددة، وهما الضعف والزيف (التصنع). بعبارة أخرى، أردنا معرفة إلى أي درجة كان الموظفون يشعرون بالسيطرة على تصرفاتهم وقدرتهم على البقاء على طبيعتهم مع تفاقم جائحة "كوفيد-19".
وعلى الرغم من أن الموظفين الذين أجرينا استطلاعات لآرائهم شعروا بمستويات عالية من الضعف ومستويات متدنية من الأصالة (ضعف القدرة على تصرف الشخص على طبيعته)، (مقارنة بعينة مماثلة عن الموظفين كنا قد أجرينا استطلاعات لآرائهم قبل الجائحة)، فإنهم تعافوا بسرعة على نحو مفاجئ. وعلى وجه الخصوص، على مدى أسبوعي الدراسة الاستقصائية، أبلغ الموظفون عن تراجع الشعور بالضعف وتزايد الشعور بالأصالة على الرغم من استمرار مستويات التوتر المرتفعة (والمتزايدة في بعض الحالات) على مدى نفس الفترة. أي أن الموظفين استردوا جزءاً كبيراً من استقلاليتهم في فترة زمنية قصيرة نسبياً، على الرغم من أن الوضع لم يتحسن على أي من الصعيدين الشخصي أو الموضوعي. وهذا أمر رائع، فهو يشير إلى أن الموظفين تأقلموا مع وضع "طبيعي جديد" وبدؤوا باسترداد إحساسهم بالاستقلالية على نحو أسرع بكثير مما يتوقعه كثيرون ومما وثقته الأبحاث السابقة حول التعافي النفسي.
والمثير للاهتمام أيضاً، أن الموظفين الذي استردوا إحساسهم بالاستقلالية على نحو أسرع، كانوا هم الذين سجلوا درجات مرتفعة من "العصابية"، وهي سمة شخصية تعكس نزعة الشخص للشعور بالتوتر والقلق. تتمتع العصابية عادة بسمعة سيئة، إذ قال البعض إنها "السمة التي تحظى بأقل تأييد على الأرجح" بين جميع الأبعاد الشخصية الأخرى. تتوافق بعض نتائجنا مع هذه الصورة المعتمة عن العصابية، فهي تشير إلى أنه في المراحل الأولى من الجائحة، شعر الموظفون العصبيون بضعف وزيف شديدين. لكن نتائجنا تشير أيضاً إلى أن ثمة جانب مشرق لدى الموظفين العصبيين، ففي حين أنهم شعروا بادئ الأمر بضعف وزيف أشد، إلا أنهم تمكنوا من التعافي على نحو أسرع مع مرور الوقت (أي أن شعورهم بالضعف تضاءل وشعورهم بالأصالة ازداد بسرعة أكبر مقارنة بالموظفين الأقل عصبية). تشير هذه الفكرة حول العصابية الصحية إلى احتمال ترافق الحذر والقلق في البيئات الخطيرة مع بعض الفوائد التشغيلية. وبالفعل، في المواقف التي تتسم بالفوضى وانعدام الأمان، كما هو الحال أثناء الجائحة، قد يتسبب مقدار معين من العصبية بشعور المرء بالراحة في منزله ويساعده على التعامل مع الوضع والتكيف مع الوضع "الطبيعي الجديد".
سلطت نتائجنا ضوءاً مبدئياً على آثار جائحة "كوفيد-19" وطرق الاستجابة المتبعة لمواجهتها، لكن لا يزال لدينا الكثير لنتعلمه عن الآثار الحالية للجائحة على الحياة اليومية. على سبيل المثال، هل سيؤدي التعافي السريع الذي لحظناه لدى الموظفين العصبيين إلى مساعدتهم على امتلاك إحساس أقوى بالاستقلالية مقارنة مع زملائهم الأقل عصبية؟ هل سيختبر الموظفون تراجعاً في الإحساس بالاستقلالية مرة أخرى إذا استمرت الجائحة وثبت أننا لن نتمكن من التغلب على بعض القيود المفروضة؟
في الوقت الراهن، جمعنا بعض النصائح حول الطريقة التي تمكّن الموظفين والمدراء والمؤسسات من تسريع عملية استرداد الإحساس بالاستقلالية، وخصوصاً إذا كنت تواجه صعوبة في أن تكون على طبيعتك أو أن تسيطر على حياتك الشخصية أو المهنية.
فيما يخص الموظفين
قيّم محيطك وأجر تعديلات عليه. العمل من المنزل ليس مرادفاً للشعور بالاستقلالية، ويستلزم تحقيق الاستقلالية في هذه البيئة جهداً. ابدأ بوضع حدود واضحة بين بيئتي "العمل" و"المنزل" (مثلاً، "عندما أكون في هذه الغرفة أو أرتدي هذه الملابس فأنا في العمل"). سيساعدك ذلك في الانفصال نفسياً عن العمل في نهاية اليوم والعودة إلى بيئة المنزل وذهنيته، الأمر الذي أثبتت الأبحاث فائدته على رفاهة الموظفين وأدائهم. ومن المرجح أن يؤدي امتداد "العمل" إلى "المنزل" أو العكس إلى تقويض الإحساس بالأصالة والسيطرة في كلتا البيئتين.
هذا لا يعني أن عليك بناء حجرة صغيرة في منزلك ووضع إضاءة قوية والبدء بالعمل في نفس الوقت كل صباح، وإنما أن تجري التعديلات على مكان عملك وطريقة سيره بحرّية كي تشعر أنه مفيد ومريح قدر الإمكان. ففي نهاية المطاف، تتمتع ترتيبات العمل من المنزل بطابع شخصي عميق، وستكون على الأرجح جزءاً من حياتنا المهنية على مدى الأعوام المقبلة.
تمتع بامتيازات العمل من المنزل. في عام 2018، كان الأميركيون يمضون قرابة أسبوعي عمل كاملين سنوياً في ركوب المواصلات من العمل وإليه، ومنهم قرابة 4.3 مليون موظف يعتبرون "متنقلين خارقين"، إذ يمضون ثلاث ساعات أو أكثر في التنقل بين العمل والمنزل يومياً. ليس هناك كثير من التجارب التي تقيد الاستقلالية أكثر من الجلوس في وسائل النقل. لذا، فاستعادة هذا الوقت ستعزز إحساسك بالاستقلالية. يمكنك الاستفادة من هذا الوقت الإضافي في الحصول على ساعات نوم أكثر، وقضاء مزيد من الوقت مع عائلتك، أو التواصل مع أصدقائك أو ممارسة هواية ما، أو تعلم مهارة جديدة أو ممارسة التمارين الرياضية أو ممارسة أي نوع من الأنشطة التي تولد الرضا الشخصي. المهم هو أن تستفيد من هذا الوقت كي تملك إحساساً أقوى بأنك على طبيعتك ومتحكم بحياتك، لذا حاول أن تقاوم الرغبة بزيادة عدد ساعات العمل.
لا تنس العناية بنفسك. من الجلي أن الجائحة فرضت قيوداً على الحياة الشخصية والمهنية لكثير من الناس بطرق تخرج عن نطاق سيطرتك كفرد، بدءاً من الإغلاق العام واسع النطاق للشركات والمدارس، وصولاً إلى سياسات الصحة العامة الصارمة. بيد أنه يمكنك السيطرة على طريقة تعاملك مع نفسك. لذا، من الضروري في الأوقات التي يملؤها التوتر أن تعتني بنفسك من خلال استثمار الوقت أو المال أو الاهتمام في تحسين بعض جوانب رفاهتك. لم لا تخصص المال الذي توفره من مصروف الوقود والمطاعم للعناية بنفسك؟ وإذا كانت إمكاناتك المالية محدودة، لم لا تفكر بطرق مجانية للعناية بنفسك، كممارسة الرياضة أو اليقظة الذهنية التي يمكن أن تساعدك في استعادة سيطرتك على جسمك وعقلك؟ تذكر أن "مرحلة التعافي تشير إلى بداية تحدّ أوسع، وليس نهاية الأزمة" لذا، فالاعتناء بنفسك يجب أن يكون أولوية دائمة وليس أمراً تقوم به مرة واحدة، فخطط له بناء على ذلك.
فيما يخص المدراء
استبدل الإدارة التفصيلية باتصالات المراجعة الدورية. قد يصعب على المشرفين اتباع نهج يقوم على مشاركة فعلية أقل إذا كان حدسهم يدفعهم نحو الإدارة التفصيلية والدخول في كل تفاصيل العمل. وبالفعل، استثمرت بعض الشركات في تقنيات جديدة لمراقبة الموظفين تتيح للمدراء تعقباً دقيقاً لطريقة قضاء موظفيهم الوقت وهم يعملون من المنزل. والاعتماد على مراقبة الموظفين يعتبر مؤشراً لمشكلات أساسية في الثقة والثقافة أكثر من اعتباره استجابة إدارية مستدامة وفعّالة للجائحة، ناهيك عن أن هذه الممارسات تهدد استقلالية الموظفين. يمكن أن يستقي المدراء دروساً من شركات مثل "أوتوماتيك" (Automattic)، وهي الشركة الأم لمنصتي "ووردبرس" (WordPress) و"تامبلر" (Tumblr)، إذ حققت نجاحاً في تعزيز موظفيها ومنحهم القوة للعمل في الوقت والمكان اللذان يريدون. وقد يكون التركيز على النتائج لا على العملية مجدياً في هذا الخصوص.
لكن التخلي عن الموظفين ليس نقيض الإدارة التفصيلية، واتصالات المراجعة الدورية مع الموظفين أمر أساسي. سلهم عن أحوالهم وعما يحتاجون إليه كي يشعروا بأنهم يحظون بالدعم وينجحوا، فأنتم جميعاً تعيشون الأزمة ذاتها على كل حال.
زد اهتمامك بالموظفين العصبيين. غالباً ما تعتبر العصابية عيباً أو ضعفاً في الشخصية. وقد يكون لهذه الانتقادات ما يسوغها عندما تسير الأمور بسلاسة. ومع ذلك، فإن العصابية تضفي ميزة تطورية لأنها تترافق مع حساسية وحذر أكبر تجاه التهديدات في المحيط. فعندما تضم البيئة المحيطة تهديدات، يشهد الموظفون العصبيون تطابقاً بين سماتهم الشخصية وحالة البيئة المحيطة بهم يترجم إلى كفاءة أكبر في إدراكهم وسلوكهم.
أضف أنه من الممكن أن يُثبت الموظف العصبي كفاءته وإمكانية الاعتماد عليه بوصفه عضواً في الفريق أثناء الجائحة. إذ بينت البحوث أنه، في المهمات الجماعية، يكتسب الموظفون العصبيون مكانة لأنهم يتفوقون على التوقعات. لذا، يجب على المدراء التفكير بإعادة النظر في معتقداتهم القديمة حول بعض الموظفين، وربما تحديثها. قد يفيدك أن يكون لديك بعض الموظفين الذين يبدون الشجاعة في الظروف الصعبة.
فيما يخص المؤسسات
تذكرنا هذه الجائحة صراحة بأن الثقافة المؤسسية هي عنصر حاسم. يصعب دعم سياسات الشركة ومساءلة الموظفين بدرجة كبيرة عندما يعمل الموظفون عن بعد. وقد يشكل ذلك مشكلة عند التعامل مع موظفين منحرفين أو ليس لديهم حماس. كما يمكن أن تترك الاستقلالية آثاراً سلبية في الجهة المقابلة، إذ يتعرض الموظفون أصحاب الرغبة القوية في العمل المضني إلى خطر الإنهاك الشديد إذا مُنحوا قدراً كبيراً من الاستقلالية، لأنه ليس من السهل ملاحظة الفروق في الأداء بينهم وبين زملائهم. وفي غياب المقارنة الاجتماعية، قد يلجأ بعض الموظفين إلى العمل لفترة طويلة جداً والتعرض لفترات ضغط شديد كي يبقوا مواكبين لمعيار وهمي للأداء. وهكذا، تصبح الاستقلالية سيفاً ذا حدين.
تكشف هذه التعقيدات عن أهمية الاستثمار في الثقافة المؤسسية القوية، ووضع قواعد وتوقعات واضحة وحساسة فيما يتعلق بالعمل من المنزل والعمل بعد ساعات الدوام المحددة سيساعد في تخفيف هذه المخاوف. إلى جانب أن تمييز الموظفين الذين يجسدون قيم المؤسسة ومكافأتهم ستكون طريقة رائعة لتعزيز المعنويات وتشجيع الآخرين في المؤسسة ليحذوا حذوهم. هذا مهم بصورة خاصة في سياق العمل عن بعد، لأن الثقافة المؤسسية تمثل يداً خفية تحفز سلوكيات معينة حتى في غياب المراقبة.
بالطبع، بعض الثقافات المؤسسية ستكون ملائمة للازدهار في هذه الفترة أكثر من غيرها، كالثقافات التي تعزز قابلية التكيف وترتقي إليها فعلاً بوصفها قيمة جوهرية ومصدراً للميزة التنافسية، لكن يجب ألا تثبط هذه الحقيقة من عزيمة المؤسسات الأخرى في سعيها لتقييم ثقافاتها وآثارها المقصودة وغير المقصودة التي قد توقعها على سلوك الموظف ومعنوياته أثناء الجائحة.
تجاوز بتفكيرك تسهيل عملية التعافي وصمم مستقبل العمل. سرعت الجائحة توجهات كانت قد بدأت بالتحرك فعلاً عن طريق تسليط الضوء على بعض الأعمال المكتبية التقليدية غير الفعّالة. مثلاً، الأساس المنطقي للمطالبة بالعمل المكتبي الخاضع للمراقبة الدقيقة بين الساعة 8 صباحاً و5 مساء يفقد شرعيته بسرعة مع تزايد الأدلة التي تثبت أن ترتيبات العمل التي تتمتع بمرونة واستقلالية أكبر تترافق مع مبادرات أكثر ودعم أكبر من الموظفين فيما يتعلق بإجراء التغييرات المؤسسية والابتكار الوظيفي والأداء.
والآن، آن الأوان لنفكر قليلاً ونسأل: "كيف يبدو عالم العمل المثالي بالنسبة لهذه المؤسسة، وما هي الخطوات التي يمكننا اتخاذها الآن لننشئ هذا المستقبل؟" في هذا الصدد، سأل البعض: "هل نحتاج حقاً إلى هذه المكاتب؟" لا يعتقد جاك دورسي، الرئيس التنفيذي لشركة "تويتر"، أنه بحاجة إليها، فقد أعلنت شركته مؤخراً أنها ستسمح لكثير من الموظفين العمل من المنزل بصورة دائمة.
عموماً، كشفت الجائحة عن عدد من الممارسات القديمة في الشركات وعن مواضع قصور محددة سيصعب على الشركات التغاضي عنها في تقدمها. وكلما كانت الشركات أسرع في استيعاب هذه الدروس، كانت الميزة التنافسية التي ستحظى بها في المستقبل أكبر.
مهما بدا المستقبل كئيباً، فالجائحة ستنحسر في نهاية المطاف. وفي خضم فوضى اليوم، ثمة فرصة لا تتاح إلا مرة واحدة في كل جيل كي تعيد المؤسسات تخيل أماكن العمل المستقبلية الجديدة، التي ستمنح الأولوية بالتأكيد لفهم استقلالية الموظف وإدارتها بحيث يستعيد الموظفون سيطرتهم على مستقبل أعمالهم.