في العام 2007 واجه جوزيف غولن تحدياً بصفته رئيس قطاع في إحدى شركات الكهرباء الضوئية.
وقد أدرك بخبرته الإدارية أنّ نجاح القطاع في التصنيع والتشغيل يعتمد على الأفكار المبدعة التي يطرحها موظفيه. ولكنه أدرك أيضاً أنّ النظام القائم لا يساعد على تحقيق النتائج المرجوة، حيث لم تقم إلا مجموعة صغيرة نسبياً من الموظفين بتقديم أفكارهم عبر ذلك النظام، الذي يتطلب منهم إثبات الميزة الاقتصادية لأفكارهم عبر عملية طويلة ومعقدة. وبمرور الوقت اكتشف الموظفون أنّ تطوير وتقديم أفكار جديدة لا يستحق المجهود المبذول.
وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، قمنا بالبحث في كيفية تحفيز القادة لموظفيهم حتى نتوصل إلى حلول خلاقة للمشاكل المؤسسية. كما قمنا بدراسة نمطية للشركات "المبدعة" مثل شركات التصميمات والبحث والتطوير وتقنية المعلومات. بل قمنا أيضاً بعمل دراسة نمطية للبيئات "غير الخلاقة" مثل قطاع التصنيع الذي يعمل به جولن في شركة الكهربائيات الضوئية. وكما هو متوقع كشفت دراستنا أنّ التشجيع على الإبداع يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية إذا افتقر الموظفون إلى المصادر أو الدعم أو الآليات التي تطور وتنفذ أفكارهم. في الواقع عندما يلح المدراء على الموظفين لبذل المزيد من الجهد للتوصل لأفكار مبدعة وخلاقة، لكنهم بعد ذلك يرفضون أفكارهم (غالباً بسبب تركيزهم بشكل منفرد وأساسي على الإنتاجية والكفاءة)، عندها يصاب الموظفون بالإحباط وتتراجع روح الإبداع لديهم بمرور الوقت، كما يمكن أن يتوقف الابتكار نتيجة لذلك.
ويهدف جزء من البحث إلى اكتشاف كيفية إطلاق عنان الإبداع لدى الموظف والحفاظ على استمراره، إذ قمنا بتحليل البيانات المجمعة على مدار تسعة أعوام من نظام إدارة الإبداع الذي طوره جولن لمعالجة المشكلة الموجودة في القطاع الصناعي الذي يترأسه بشركة الكهربائيات الضوئية، حيث كان معدل سن الموظف في هذه الشركة هو 48 سنة، وفترة العمل بالشركة تزيد على 20 سنة، والعديد من الموظفين من المهاجرين. وعلى عكس نظم الاقتراحات التقليدية، يعد نظام الاقتراحات في هذه الشركة عملية شاملة لإدارة دورة حياة الإبداع بالكامل. صمم هذا النظام للتأكد من أنّ الأفكار لن تضيع هباء، ولتحفيز الموظف لعرض أفكاره وعدم إحباطه. يبدأ النظام بتقديم الأفكار ولا يتوقف عند ذلك، ولكنه يتضمن المساعدة على تطوير هذه الأفكار من خلال تقييم موضوعي وعادل وشفافية واضحة للجميع، علاوة على التقدير العلني وتنفيذ الأفكار الواعدة.
وقد ارتفع عدد الأفكار المقدمة بشكل هائل منذ أن قام جولن بتنفيذ النظام الجديد.
إزالة عوائق الإبداع
ركز جولن على إزالة العوائق المؤسسية والنفسية مثل الخوف من ارتكاب الأخطاء وأسلوب الإدارة الرديء ونقص الموارد المناسبة والبيروقراطية الخانقة. وعلى الرغم من أنّ العديد من الموظفين لديهم أفكار جيدة، إلا أنهم يتخوفون في بعض الأحيان من طرحها بسبب مكانتهم المتدنية في المؤسسة، ولأنهم يعتقدون أنّ أفكارهم غير مدروسة بشكل كاف ولن يتم تنفيذها. فعندما كانوا يقترحون أفكاراً، غالباً ما كانوا يفشلون في توضيح القيمة المحتملة لهذه الأفكار لمدرائهم. لذا، كان من المفهوم امتناعهم عن استثمار الوقت والجهد اللازمين لتطوير الأفكار بعد ساعات العمل. وفي نظام الاقتراحات القديم ارتاب الموظفون خلال عملياته وإجراءاته، ما أدى إلى اعتقاد الكثير من الموظفين أنّ أفكارهم لن يتم دراستها بجدية، وأنّ مدراءهم لن يبذلوا الجهد اللازم لإيجاد الموارد المطلوبة لتنفيذها. بالإضافة إلى ذلك، شعر بعض الموظفين بالقلق من أن يتم استغلال أفكارهم وأن تُنسب لآخرين، أو أن يقع عليهم اللوم لفشل أفكارهم.
طور جولن منصة داخلية يستطيع من خلالها الموظفون تقديم أفكارهم عن طريق ملء نموذج بسيط، إذ تُعرض كافة المعلومات على هذه المنصة بشكل مرئي للجميع في المؤسسة. وقد أدت شفافية النظام إلى التقييم العادل للأفكار اعتماداً على مجموعة ضوابط محددة ومعروفة ومشتركة.
بمقتضى النظام الجديد، يكون مدراء الإدارة المتوسطة، الذين يتسلمون جميع النماذج من تقاريرهم المباشرة، مسؤولين عن تقديم جميع أفكار الموظفين التابعين لهم إلى الإدارة العليا، وكذلك توفير الموارد اللازمة لتنفيذ الأفكار المقبولة. وهكذا تلاشى قلق الموظفين من إقناع الغير بأفكارهم، بل أصبحوا يتلقون الثناء على أفكارهم والدعم والموارد الضرورية لتنفيذ الأفكار المقبولة. وبنفس القدر من الأهمية تم تحفيز المدراء على دراسة الأفكار بجدية والعمل مع الموظفين على تنقيح وتحسين الأفكار قبل تقديمها للإدارة العليا، حيث يتم تقييم المدراء بناء على قيامهم بذلك بطريقة عادلة. ويعد أحد أهم جوانب ذلك النظام هو إرسال التقييم والملاحظات للموظفين عن كل فكرة يتم تقديمها.
في أغلب أنظمة الاقتراحات المعمول بها في المؤسسات يتم مكافأة الموظفين فقط بناء على جودة أفكارهم المبتكرة. أما النهج الشامل لشركة الكهربائيات الضوئية، فإنه يقوم بتقدير الموظفين وفقاً لمستوى مجهودهم المبذول وليس لمستوى النتائج فقط، ما يعزز الرغبة في التعلم. فكل فكرة يتم تقديمها تُكسب الموظف "نقاط إبداع" تُمنح من قبل لجنة من الخبراء. وتمنح اللجنة عدداً أكبر من النقاط للأفكار الأصلية التي تدفع الموظفين إلى القيام بأعمال غير تقليدية وللأفكار التي يمكن أن تفيد العديد من الأفراد في المؤسسة. إنّ كل من يقوم بتقديم أفكار يتسلم مكافآت رمزية بسيطة (على سبيل المثال شهادة أو قلم، بإشعار شخصي من المدير). يقول الموظفون: "أنّ التقييم والتقدير يؤديان إلى اكتساب ثقتنا ويزيد من تحفيزنا"، كما أخبرنا أحد الموظفين في مقابلة "كنت أحد الأشخاص الذين لم يفوزوا بأي شيء، وعندما عرضت الشهادة التي استلمتها عن مشاركاتي المبدعة على عائلتي، قاموا بالاحتفال بإنجازاتي. إنّ رؤية مدى إعجاب أحفادي يساوي العالم كله بالنسبة لي، وقد منحني قوة وطاقة للاستمرار في إيجاد أفكار خلاقة جديدة".
بالطبع لا تستحق جميع الأفكار مكافأتها وتنفيذها، ولكن إذا قام المدراء بنقل قرارتهم المتعلقة بالأفكار بشكل يسمح للموظفين أن يتيقّنوا من أنّ تقييمهم يتم بشكل عادل، ستظل الأفراد على نفس درجة التحفيز حتى لو لم تُنفذ أفكارهم. في الواقع، تعد العدالة الملموسة لعملية التقييم من العوامل الحاسمة للنجاح طويل المدى. وقد اكتشفنا أنّ موظفي شركة الكهربائيات الضوئية يشعرون بأنّ العملية عادلة عندما يقوم المدراء بثلاثة أمور: (1) الحصول على معلومات دقيقة وكاملة من الموظف قبل اتخاذ القرار، (2) استخدام معايير واضحة وغير متحيزة لتقييم الأفكار، (3) تفسير قرارتهم بشكل واضح فيما يخص الأفكار. وبذلك، عندما تتسم عملية التقييم بالعدالة، يواصل الموظفون المشاركة ويستخدمون التقييم المرسل إليهم في تحسين أفكارهم.
نتائج مبهرة
لا يمكن أن نصف نتائج شركة الكهربائيات الضوئية بأقل من المذهلة، فبين عامي 2007 و2014 قدم موظفو جولن أكثر من 5,000 فكرة بمعدل تنفيذ استثنائي لأكثر من 70% منها. (وتم تنفيذ الأفكار البسيطة بمعدل أكبر من الأفكار المعقدة).
تعد هذه النتائج أكثر من مذهلة عندما تأخذ بعين الاعتبار أنّ قطاع جولن يتكون من 430 موظفاً تقريباً، قدم 81% منهم أفكاراً بمعدل أكثر من 14 فكرة لكل مشارك.
لقد ضاعف النظام الجديد من عدد الأفكار المقترحة والموظفين المشاركين؛ حيث قدم 37% من الموظفين أفكارهم في النظام القديم بمعدل أقل من 6 أفكار لكل مشارك. وبحلول العام 2015 تسببت الأفكار المقدمة عبر هذا النظام في توفير ملايين الدولارات للشركة وتحسين كفاءة العمل وتغيير الثقافة المؤسسية بشكل كبير.