عقب ذلك الطوفان من الدعاية والإعلانات حول السجل الصحي الإلكتروني، فإنّ المهنيين في مجال الصحة الآن في وضع رد فعل عنيف كامل ضد هذه الأداة الجديدة والمعقدة. إذ يُنظر إلى هذه الأمور كمصدر أساسي للإرهاق المهني بين الأطباء والممرضين: حيث يمضي الأطباء قرابة نصف وقتهم المهني في إكمال واستيفاء النماذج والسجلات الإلكترونية من كتابة ونقر على المفاتيح على أجهزة الحاسوب واختيار للمربعات هنا وهناك. إلا أنه بالإمكان تحويل هذه الأمور، بل ربما يجب تحويلها، إلى أدوات نافعة وسهلة الاستخدام تحرر الأطباء من الأعباء الإضافية لا أن تثقلهم بالضغوط والاضطهاد.
إنجاز مهام متعددة، على نحو رديء
إنّ السجل الصحي الإلكتروني أكبر بكثير من مجرد كونه نسخة إلكترونية من ملف المريض. بل إنّ السجل الصحي الإلكتروني أصبح لوحة التحكم الخاصة بإدارة المقابلة السريرية من خلال إدخال الأمر السريري. علاوة على ذلك، ومن خلال العملية المحاسبية. وكذلك الامتثال التنظيمي، أصبح أيضاً نقطة محورية تدور حولها جهود تحسين الجودة. في حين أنّ بعض الجهود قد عملت بالفعل على تحسين الجودة وسلامة المرضى، إلا أنّ الكثير من الجهود الأخرى لم تفعل شيئاً سوى أن جعلت عمل الطبيب يبدو أفضل من حيث الإجراءات والتدابير التي يتبعها، بينما هي في نفس الوقت تزيد الفواتير على المريض.
إنّ صهر كل هذه الوظائف (ملفات المريض، والتعليمات والأوامر السريرية، والفواتير/الامتثال وتحسين الجودة) ودمجها في السجل الصحي الإلكتروني أصبح كارثة بالنسبة للمستخدم السريري، ويعود السبب في ذلك في الجزء الأكبر منه لأن وظيفة الفواتير/الامتثال قد صارت لها السيادة والغلبة. وقد نتج عن الضغوط التي مارسها المستخدمون الغاضبون من الأطباء حلاً جديراً بالعصور الوسطى. لقد وظفت المستشفيات والعيادات عشرات الآلاف من الناسخين والذين يقومون بالطباعة الحرفية لمتابعة الأطباء أينما تحركوا، وتسجيل ملاحظاتهم وأوامرهم في السجل الصحي الإلكتروني. وكما يبدو، فإنه في الرعاية الصحية فقط، أمكننا العثور على طريق للأتمتة، وانتهى الأمر في النهاية بتوظيف المزيد من العاملين وإضافة المزيد من التكاليف.
وبرغم سوء الإجراءات ومتطلباتها من وثائق وخطوات تنظيمية أخرى، إلا أنها ليست أسوأ المصائب. إنّ الأنظمة الإلكترونية التي استخدمتها المستشفيات وأنفقت عليها المبالغ الباهظة اصطدمت بواجهات المستخدم التي جاءت من أواسط التسعينيات: (ويندوز 95)، بأسلوب شاشاته وقوائمه المنسدلة، وإدخال البيانات فيه عن طريق الطباعة والتصفح والتنقل عن طريق الإشارة والنقر. (واجهات المستخدم العتيقة هذه صعبة إلى حد لا يطاق من حيث التصفح والتنقل. المعلومات السريرية المهمة لعملية اتخاذ القرارات بشأن الرعاية الصحية تندفن تحت العشرات من النقرات أسفل صفحات مخططات وملفات المريض التي يبحث عنها المستخدم ويريدها).
رسم صورة للمريض
حتى تصبح السجلات الصحية الإلكترونية أدوات نافعة ومفيدة حقاً، وحتى تحرر الأطباء من الانشغال بكل تلك الأعمال المكتبية، فإنّ هذا يتطلب ثورة في استخدام هذه الأدوات. يجب أن تصبح العناية بالمريض الوظيفة المركزية للسجل الصحي الإلكتروني. يجب أن يأتي في قلب هذه السجلات صورة للوضع الطبي للمريض في اللحظة المطلوبة، بما في ذلك التشخيص، والمخاطر السريرية الجسيمة ومسار تلك المخاطر، بالإضافة إلى تلك المشاكل التي يتوجب على فريق الطب السريري حلها والتغلب عليها. إنّ عملية التقييم هذه ينبغي كتابتها بلغة بسيطة وسلسة ويكون لها حد معقول من عدد الحروف والكلمات تماماً كتلك الحدود التي يفرضها تويتر، ما يجبر الأطباء على الحد من تقييمهم واختصاره.
يجب تحديث صورة المريض هذه بشكل مستمر ومنتظم، كأن يكون ذلك عند تغيير ورديات عمل الفرق المعالجة. وسوف تكون قواعد القرارات التي تحدد بكل دقة الشخص المسؤول عن رسم تلك الصورة غاية في الأهمية. ففي حالة المريض المقيم في المستشفى، فإنّ الشخص الرئيسي المسؤول عن رسم صورة المريض قد يكون طبيباً من أطباء المستشفى، أو طبيب جراحة رئيسي، أو طبيب مقيم أول. في حالة المريض الخارجي، من المحتمل أن يكون الشخص الرئيسي المسؤول عن رسم صورة المريض طبيب الرعاية الأولية أو مقدم خدمة غير طبية. في حين ينبغي على أن يقوم أحد الأفراد بأخذ زمام المبادرة، فإنّ هذا التقييم ينبغي أن يكون برعاية تعاونية، على نمط وغرار ويكيبيديا.
يجب أن تصبح هذه الصورة السريرية نقطة التجمع والتلاقي للفريق القائم على رعاية المريض. ولإنجاز هذا الهدف، ينبغي أن يصبح السجل الصحي الإلكتروني قائماً على العمل الجماعي من جانب فريق الأطباء السريريين، بما يعطي الفرصة للتواصل المستمر في ما بين أعضاء الفريق. يجب أن تقوم صورة المريض بوظيفة الجدار الذي يقوم أعضاء الفريق بوضع ملاحظاتهم عليه فيما يتصل بالتغيرات في حالة المريض، والإجراءات التي أخذها أعضاء الفريق بشأنه، بالإضافة إلى المشاكل التي يحاولون التعامل معها والتغلب عليها. يجب أن ينقل هذا الجهد الجماعي صورة دقيقة (صورة بالإضافة إلى التحديثات) بالنسبة للأطباء السريريين الجدد الذين يبدأون وردية العمل الخاصة بهم أو ينضمون إلى الفريق كاستشاريين.
إنّ الاختبارات أو العقاقير أو الإجراءات التي يأمر الطبيب بها، وكذلك نتائج الاختبارات ومتابعة قراءات النظام، ينبغي أن تُضاف جميعها (تلقائياً) إلى ملفات المريض. ولكن هناك أيضاً حاجة إلى عملية إعادة تصميم رئيسية. مع إعادة تصوير ملفات المريض، نحتاج إلى تعديل وظيفة الاستيراد الحالية، التي تشجع المستخدمين على القيام عشوائياً بإغراق السرد السريري بأطنان من البيانات الغربية. أما تعليقات الفريق التي تجري كل دقيقة ويضعها أعضاء الفريق على الجدار فيجب إزالتها في نطاق يوم أو يومين، مثل الصور في سناب شات (SnapChat)، وعدم إدخال وتعقيد السجل الدائم.
يجب التخلص من أعمال الطباعة والإشارة والنقر على المفاتيح
يجب أن تحل الواجهات البينية القائمة على الإيماءات محل لوحة المفاتيح غير الصحية والمحدثة للضجيج، بحيث تكون هي طريقة بناء التفاعل مع سجل المريض. يجب القيام بعمليتي توثيق المقابلة السريرية والترتيب وإصدار الأوامر عن طريق الأوامر الصوتية، ويجب أن يتم تعزيزها عن طريق لمس الشاشة. يجب أن تعرض الأوامر كلاً من المخاطر الرئيسية والتكاليف فيما يتصل بالاختبارات أو الإجراءات التي تُطلب قبل تأكيد الأمر. هناك شركات عديدة من بينها جوجل ومايكروسوفت تقوم بالفعل بمشروعات تجريبية في مجال الناسخ "الرقمي" الذي يحول المحادثة الأساسية بين الطبيب والمريض إلى مذكرة سريرية رقمية.
علاوة على ذلك، ينبغي أن يحل التصور التفاعلي للبيانات محل تلك العاصفة من نقرات الفأرة التي تضيع الوقت والتي يلزم القيام بها للكشف عن البيانات الخاصة بالمريض. يجب أن تكون نتائج البحث الصوتي الخاصة بسجل المريض متاحة للعرض في محطة التمريض وغرفة الأطباء المجهزة. كما ينبغي أن تكون هناك إمكانية لعرضها وتقديمها للمريض على لوحات بيضاء تفاعلية في غرف المرضى. ينبغي أن يكون بمقدور الأطباء قول أشياء من هذا القبيل: "أظهر لي قيم الغلوكوز والكرياتين الخاصة برامي المرسومة بيانياً ابتداء من إقامته في المستشفى"، أو يقول "أظهر لي كل صور الأشعة المقطعية على البطن الخاصة بسامر والتي تم إجراؤها له قبل إجراء العملية الجراحية وبعدها". كما ينبغي أن يكون بمقدور الطبيب كذلك أن يصف الأدوية عن طريق الأوامر الصوتية بداية من الأدوية الجديدة إلى رسائل التذكير المبرمجة التي يتم إرسالها للمريض على جهاز الآيفون الخاص به على فترات منتظمة.
كما أنّ بيانات صحة السكان ونتائج البحوث ينبغي أن تكون متاحة عن طريق الأوامر الصوتية. على سبيل المثال، يجب أن يكون بمقدور الطبيب أن يقول: "أرني كل البيانات المنشورة حول مخاطر الآثار الجانبية المرتبطة باستخدام عقار بامبرليزماب Pembrolizumab لدى مرضى سرطان الرئة، مرتبة من الأعلى إلى الأدنى"، أو "أرني انتشار المضاعفات بعد العمليات الجراحية حسب نوع المضاعفات لدى الألف مريض الذين خضعوا للعلاج قبل ذلك والذين أجريت لهم عمليات استبدال ركبة في منظومتنا الصحية، مرتبة تدريجياً حسب عمر المريض".
الذكاء الاصطناعي يجب أن يجعل المنظومة السريرية أكثر ذكاء
تملك السجلات الصحية الإلكترونية أنظمة ذكاء اصطناعي بدائي للمساعدة في عملية إعداد الفواتير والمحاسبة والترميز وعمليات الامتثال التشريعي. ولكن الحالة البدائية للذكاء الاصطناعي في السجلات الصحية الإلكترونية تمثل حاجزاً رئيسياً أمام الرعاية الفعالة. يجب أن تصبح أنظمة السجلات السريرية أكثر ذكاء إذا كان يُراد للرعاية السريرية أن تصبح سائدة ومتطورة، وعلى وجه الخصوص من خلال الحد من متطلبات الوثائق التي لا حاجة إليها والمزدوجة. ولعل مراجعة سياسة الدفع مقابل الرعاية الطبية، ستكون نقطة بداية عظيمة ورائعة في هذا الخصوص، وخاصة إذا بدأنا بمتطلبات البيانات التفصيلية السخيفة الخاصة بزيارات التقييم والإدارة.
كما ينبغي تعزيز دور المريض بواسطة السجل الصحي الإلكتروني والأدوات المرتبطة به. وينبغي أن يكون بمقدور المرضى إدخال تاريخهم الصحي والعقاقير التي استخدموها والتاريخ الصحي للعائلة عن بعد، بحيث يحد ذلك من المتطلبات التي تقع على عاتق فريق الرعاية والطاقم المساعد له. وينبغي أن تتدفق بيانات المريض تلقائياً من المختبرات السريرية، بالإضافة إلى البيانات من الأجهزة الموصلة بالمريض، مباشرة إلى السجل، من دون الحاجة إلى العنصر البشري لإدخال أي بيانات.
بالطبع، سوف تكون هناك حاجة إلى طريقة جديدة لسير العمل السريري لتنظيم كل تلك البيانات التي يُنتجها المريض، مع الاستجابة لها والرد عليها طبقاً لذلك. ولا يمكن السماح بأية حالة من الفوضى على الجدار أو أن يتم تمرير كل ذلك إلى فريق الطب السريري الرئيسي؛ فضلاً عن ذلك، يجب أن يتم ترتيب الأمور حسب أولوياتها طبقاً للمخاطر التي قد يتعرض لها المريض أو المنافع التي يحصل عليها وتتحقق له، ويتم تقديمها عن طريق عملية سير عمل مصممة بشكل واضح وصريح لهذا الغرض. كما ينبغي استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في التعامل مع السجل الصحي الإلكتروني لتجميع المعلومات المطلوبة لتخصيص درجات الحدة واقتراح التشخيصات التي تعكس بدقة الحالة الراهنة للمريض.
بالنظر إلى ما تقوم به أنظمة التنبيه السريرية في الوقت الحالي من إغراق مقدمي الرعاية في المراحل المتقدمة وإثقالهم بأعبائها، فمن غير المدهش أن يتم تجاهل معظم هذه التنبيهات. ولذلك فمن الأهمية بمكان أن تتمكن السجلات الصحية الإلكترونية من ترتيب التنبيهات حسب أولوياتها على نحو يتعامل فقط مع التهديدات والمخاطر الفورية على صحة المريض في الوقت الحقيقي. يمكن أن تتعلم الرعاية الصحية الكثير مما تتسم به عملية التنبيه في قُمرة القيادة في شركة الطيران من الصرامة والانضباط المعقولين. يجب تقديم التنبيهات السريرية بطريقة سهلة القراءة، صعبة التجاهل وبنسق مرمز لونياً يوضحها ويبرزها. وبالمثل، فإنّ التوقفات المفاجئة ـ التوقفات التي يوجهها النظام نفسه في عملية العلاج أو غيرها من عمليات العلاج الأخرى ـ يجب أن تكون ذكية هي أيضاً؛ بمعنى، يجب أن تكون مرتبطة بالوضع الحالي الحقيقي لحالة المريض ومقتصرة على الإجراءات السريرية التي تمثل تهديداً حقيقياً لصحة المريض أو حياته.
من سجناء إلى مدافعين
إنّ إخفاق السجلات الصحية الإلكترونية حتى الآن في تحقيق أهداف تحسين إنتاجية الرعاية الصحية ونتائجها، وتحقيق الرضا السريري، هي نتاج كل من التقنيات غير الناضجة وإخفاق البنى الخاصة بتلك السجلات في أن تأخذ بعين الاعتبار مدى تعقيد تحويل نظام الرعاية الصحية الجماعي من هذه الطريقة لإنجاز العمل المطلوب إلى تلك. في الوقت الحالي، يمكن أن نرى مساراً نحو تحويل السجل الصحي الإلكتروني إلى شريك نافع ومفيد وجيد التصميم للأطباء وللمرضى في عملية الرعاية الصحية. وحتى يمكن إنجاز هذا، يجب أن نستخدم بيانات الذكاء الاصطناعي، ومؤثرات عرض البيانات التي تحسنت تحسناً كبيراً، وكذلك تصميم الواجهات البينية الحديثة لتحسين إمكانية استخدامها. عندما يتم الانتهاء من كل هذا وإنجازه، فإننا نعتقد أنّ الأطباء سيتحولون من سجناء لتقنية لم تتحقق بالشكل الجيد والملائم إلى دعاة ومدافعين عن الأنظمة نفسها وقادة متحمسين للجهود التي تدفع تحسين هذه الأنظمة.