نمرّ جميعنا بأيام نعود فيها إلى منازلنا مرهقين، فنرتمي على السرير، ونطفئ الأنوار ونغرق في نوم متقطّع. ويتكرر ذلك السيناريو كل يوم تقريباً بالنسبة للبعض منا. وقد نعزو ذلك الإرهاق إلى مشروع عمل شائك أو عميل أو مدير يضغط علينا. لكن ما قد لا ندركه هو وجود كثير من العوامل الأخرى التي تساهم في شعورنا بالإرهاق. إذ يتسلل التوتر إلى حياتنا نتيجة متطلبات صغيرة جداً تعترضنا على مدار اليوم، وهي ما نُطلق عليها اسم "الضغوط الصغيرة" التي تأتينا من مصادر لم تخطر على بالنا من قبل. فحجم التواصل وإقامة العلاقات مع الآخرين وتنوعهما وسرعتهما (أي الطريقة التي نتواصل بها بشكل روتيني مع الآخرين ونتعاون معهم) والذي نمارسه جميعاً في يومنا المعتاد يتجاوز كل أنواع التواصل الأخرى، ويكون أثره تراكمياً على صحتنا ويلحق ضرراً كبيراً بها، فضلاً عن تأثيره على إنتاجيتنا في العمل.
أضرار الضغوط الصغيرة
وقد لا تكون بحاجة أصلاً لمن يحذّرك من أضرار التوتر ويبيّن لك أن التوتر يجعلنا أكثر عرضة للإصابة بأمراض مزمنة وأمراض نفسية، كالاكتئاب. فوفقاً لبعض التقديرات، تبلغ الشكاوى المرضية المرتبطة بالتوتر حوالي 60 إلى 80% من مجموع زيارات المرضى للأطباء. كما أن التوتر مضر جداً بصحة الموظفين لدرجة أن الإدارة الاتحادية للصحة والسلامة المهنية (OSHA) لجأت إلى تصنيف التوتر كعامل من عوامل الخطر في مكان العمل، فهو يقتطع جزءاً كبيراً من إنتاجية الموظفين، إذ يميل الموظفون الذين يشعرون بالتوتر إلى اتخاذ قرارات منخفضة الجودة، كما نجد أنهم يفتقرون إلى الدافع والابتكار والإنتاجية في عملهم. باختصار، يمكن للتوتر المتواصل الذي نفشل في التعامل معه أن يقودنا إلى حالة من الإنهاك الشديد، وهي حالة تتسم بالإرهاق والانعزال وضعف الأداء في العمل.
وتكمن المشكلة في أن معظمنا قد وصل إلى مرحلة من تقبّل الضغوط الصغيرة في حياته وكأنها جزء طبيعي من اليوم، وعلى الرغم من أننا بالكاد نلحظ تلك الضغوط، نجدها تتراكم من حولنا إلى درجة تجعلنا نشعر بالإرهاق. والأسوأ من ذلك هو أن مصادر تلك الضغوط الصغيرة كثيراً ما تكون الأشخاص الأقرب إلينا داخل العمل وخارجه. حددنا في هذه المقالة 12 عاملاً من عوامل التوتر الشائعة ذات الصلة "بالعلاقات" (انظر الرسم البياني أدناه) والتي من المحتمل أن تلحق أضراراً كبيرة برفاهنا دون أن نكون بالضرورة على دراية بتأثيرها، ولن نتمكن من معالجة مصادر التوتر هذه إلا حين نتعرف عليها أولاً.
كما أن استنتاجاتنا حول الضغوط الصغيرة مبنية على بحوث أجريناها خلال العقد الماضي بمشاركة العشرات من الشركات الكبرى التي تعاملنا من خلالها مع مئات الأشخاص من مختلف القطاعات، مثل التكنولوجيا والمستحضرات الدوائية الحيوية والقطاع المالي والتصنيع، حيث طلبنا من المشاركين مشاركة تجاربهم المتعلقة بالتوتر الناجم عن العلاقات، واستخدمنا لذلك كلاً من الدراسات الكمية والمقابلات الشخصية المتعمقة. كان هدفنا تحديد مصادر الضغوط الصغيرة التي تتراكم نتيجة للطريقة التي نتفاعل بها عادة مع بعضنا البعض في العمل والمنزل. وقمنا بتصنيف تلك الضغوط إلى ثلاث مجموعات: 1) الضغوط الصغيرة التي تستنزف قدراتنا الشخصية، أي وقتنا ومخزون الطاقة الذي يُعيننا على التعامل مع متطلبات الحياة، 2) والضغوط الصغيرة التي تستنزف مخزوننا العاطفي، 3) والضغوط الصغيرة التي تشكّل تحدّياً لهويتنا وقيَمنا. هل تبدو لك تلك الضغوط مألوفة؟
ما الذي يسبب لك التوتر؟
من المهم هنا أن نشير إلى أن تلك الضغوط الصغيرة تشكّل جزءاً روتينياً من يومنا المعتاد، وأننا نادراً ما نتوقف للتفكير في كيفية تأثيرها علينا، إلا أنها تتراكم مع مرور الوقت. وعلى الرغم من أنها قد تعترض سبيلنا على هيئة تحديات مؤقتة، قد يدوم أثرها ساعات أو أيام. وقد صادفنا خلال بحثنا عدداً كبيراً من أصحاب الأداء العالي الذين ما لبثوا أن وصلوا لحالة الاحتراق الوظيفي بشكل لا يمكن تفسيره. لكن إجراء دراسة عليهم عن قرب جعل السبب وراء إصابتهم بالاحتراق الوظيفي واضحاً، والذي تمثل في مجموعة من الضغوط الصغيرة التي تراكمت بمرور الوقت.
ما الإجراءات التي يمكن لها التخفيف من الضغوط الصغيرة في حياتنا إذاً؟ لن تجدي النصائح التقليدية حول التأقلم مع التفاعلات السلبية أو الباعثة على التوتر نفعاً، وذلك لأن الضغوط الصغيرة متأصلة بعمق وبصورة خفية في حياتنا، وهي تعترض سبيلنا من خلال العلاقات والتفاعلات الكثيرة والمتغيرة لدرجة يصعب علينا التخلص من تلك الضغوط بسهولة. تأمل واحدة فقط من الضغوط الصغيرة التي تواجهها خلال يومك، كالإحباط الذي ينتابك حين يفشل زميلك في تحقيق النجاح في مشروع مشترك بينكما، أو الأثر العاطفي الذي يخلفه انتقال زميلك الذي تثق به في العمل إلى شركة أخرى، ثم حاول شرح تلك المشاعر لشخص مقرب منك. يساعد ذلك النوع من النقاش عادة الأشخاص على معالجة التوتر والتعامل معه، إلا أنك قد تستغرق 30 دقيقة لوصف الحادثة وتبعاتها وسياقها حتى يتمكن ذلك الشخص من التعاطف معك وربما تقديم اقتراحات مفيدة خلال نصف الساعة القادمة. قد تشعر بتحسن بعد مضي تلك الساعة القيمة، لكن من المحتمل أن تكون قد أهدرت وقتك ووقت ذلك الشخص. نتعرّض في العديد من الأحيان إلى ما بين 20 إلى 30 ضغطاً من الضغوط الصغيرة في اليوم الواحد، لكن من منا يملك الوقت للتعبير عن كل تلك الضغوط؟ ومن تراه يود أن يستمع إليها؟
الأدوات التي تساعدك على التخلص من الضغوط الصغيرة
تشكّل الضغوط الصغيرة معضلة مختلفة عما اعتدنا عليه في السابق، لذلك، نحن بحاجة إلى أدوات جديدة تساعدنا في التخفيف من آثار تلك الضغوط. ويُظهر عملنا ثلاثة مناهج واعدة في هذا الصدد:
1- حدد اثنتين إلى ثلاثة ضغوط من عوامل الضغط وركز عليها. قد يساعدك الرسم البياني أعلاه في تحديد اثنين إلى ثلاثة عوامل من عوامل الضغط الصغيرة ذات التأثير المتواصل على حياتك، تلك الضغوط التي أصبحت "طبيعية" في حياتنا والتي قد نجد أن تغييرها سيكون ذو أثر كبير علينا. تخلق الضغوط الصغيرة تراكماً عاطفياً يلزم تفريغه حتى نتمكن من التفكير بعقلانية في تكوين استجابة بناءة. لذلك، تتمثل الخطوة الأولى في تفريغ تلك الضغوط من خلال التوقف عن العمل برهة من الوقت وإطفاء الكمبيوتر وتأدية نشاط يتطلب منك حصر كامل تركيزك عليه، بحيث يستحوذ ذلك النشاط على كامل انتباهك "ويرمي جانباً كل التفاصيل التي تسبب لك الانزعاج". عندما تقوم بتقليص قائمة الضغوط الصغيرة التي تركز عليها إلى واحدة فقط أو اثنتين، يصبح من السهل عليك أن تجد الوقت والطاقة اللازمين للتنفيس عن تلك الضغوط، شرط أن تلاحظ أثر تلك الخطوة في نفسك. وكثيراً ما تبدو لنا عوامل الضغط مختلفة بعد أن تتاح لنا فرصة إقصاء أنفسنا عن "الضوضاء" التي يسببها القلق أو الموقف الدفاعي الذي نتبناه. ويمكن للمحادثات التي نجريها مع أشخاص نثق بهم في شبكة معارفنا أن تساعدنا في اكتشاف ما يزعجنا بالفعل وفي معرفة سبب شعورنا بالانزعاج، أو في إعادة تقييم عوامل الضغط تلك وفهمها من منظور مختلف. وحينها فقط يمكننا أن نتصرف ونحن متأكدون بأننا نستهدف مصدر التوتر لدينا بشكل مباشر، كأن نجري محادثة صعبة ولكنها حاسمة وقادرة على أن تحوّل شكل علاقة ما، وذلك عبر رفض الطلبات غير المعقولة أو ترك السلوكيات المفككة جانباً، أو من خلال تعزيز شبكة الأشخاص الذين يمكنهم المساعدة في حمايتنا من التفاعلات السلبية.
2- استثمر وقتك وجهدك في تكريس العلاقات والأنشطة التي تُبقي الضغوط الصغيرة عديمة الأهمية في إطارها الصحيح. ومن المؤكد أن ممارسة التمارين الذهنية مهمة بالفعل وتُعتبر ذات نفع في هذا الشأن، مثل تمارين التأمل أو كتابة اليوميات للتعبير عن الامتنان. كما أن الحفاظ على الصحة البدنية من خلال المواظبة على ممارسة الرياضة ومراعاة التغذية السليمة وعادات النوم الجيدة تمثل أهم الوسائل لمواجهة ما يُشعرنا بالتوتر خلال اليوم، ويوجد حلول علائقية مهمة أيضاً، إذ لا يعاني الأشخاص الذين استثمروا في تطوير شخصياتهم وتعزيز علاقاتهم من الضغوط الصغيرة بالطريقة ذاتها التي نشهدها لدى الآخرين، وهم قادرون على إبقاء عوامل الضغط تلك في إطارها الصحيح. فعندما نتحدث إلى أشخاص يروون قصصاً إيجابية عن الحياة، نجد أنهم استثمروا في بناء علاقات حقيقية في مختلف جوانب حياتهم، على سبيل المثال، خلال مشاركتهم في الأنشطة الرياضية والأعمال التطوعية والمجتمعات المدنية أو الدينية ونوادي الكتب أو تجمعات العشاء والأصدقاء من المجتمع المحلي وما إلى ذلك، وكانوا قادرين على الحفاظ على تلك العلاقات، إذ يمكن للعلاقات القائمة على تلك التفاعلات أن توسع من هويتهم وأن "تغير" من الطريقة التي ينظرون فيها إلى حياتهم. لذلك، ينطوي الحل الرئيس لتجاوز الضغوط الصغيرة على بناء العلاقات التي تولد لدينا دافعاً لتحقيق أهدافنا في الحياة، ليس في العمل فحسب وإنما في العلاقات التي تمدنا بالدعم وتحدد هويتنا خارج نطاق العمل.
3- اعتزل الأشخاص أو الأنشطة المسببة للتوتر وابتعد عنها. ليس من السهل دائماً أن نكتشف فيما إذا كان أحد الأصدقاء أو الزملاء سبباً للتوتر المتواصل في حياتنا بدلاً من اعتبارهم عاملاً يحفزنا ويرفع من معنوياتنا، وهذا ما يجعل الأمر أكثر ضرراً، إذ قد نصبح مرتبطين على الصعيدين الشخصي والمهني بأشخاص يخلّفون فينا دائماً شعوراً بالاستنزاف العاطفي. لذلك، ارجع خطوة إلى الوراء وقيّم تلك العلاقات في حياتك، أي العلاقات التي تمتلك القدرة على التحكم فيها، ثمّ ابذل جهداً لتنأى بنفسك عن العلاقات التي تسبب لك التوتر بدلاً من الفرح. ولا بد أن تدرك أن العلاقات التي تسبب لك التوتر ليست بالضرورة هي العلاقات السلبية أو الضارة فحسب، بل قد تكون علاقات مع أشخاص نستمتع بقضاء أوقاتنا معهم، لكنها تفتح المجال لسلوكيات غير مثمرة ("لنجرب المطعم الجديد هذا المساء ودع إنهاء المشروع للغد") أو مع أشخاص يزيدون من انهماكنا في الأعمال لتقصيرهم في وعودهم ومسؤولياتهم ("لم أفرغ من كتابة التقرير، سأرسل لك ملاحظاتي لتكمله أنت..."). لست مضطراً للابتعاد عن الأشخاص الذين تستمتع بصحبتهم، لكن عليك أن تدرك تأثيرهم على صحتك العقلية ورفاهك الجسدي وأن تحاول وضع بعض الحدود لتنظيم تلك العلاقات.
ولا يتعين عليك أيضاً تقبل الضغوط الصغيرة وكأنها قدر أُلزم بك، إذ كثيراً ما يمكننا التنبؤ بأنماط التوتر من حولنا، وفي حال أدركنا حقيقة عوامل التوتر تلك، يمكننا حينها بناء شبكة معارف من الأشخاص الداعمين لنا وتطوير العقلية المناسبة والاستجابات البناءة التي نحتاج إليها لتجاوز تلك الضغوط. وكما قال لنا أحد القادة: "أفرض بعض القواعد التي قد تكون مزعجة للبعض في البداية، لكنها ستجعلني مساهماً أفضل على المدى الطويل لأنني لن أشعر بالإنهاك باستمرار حينها". بمجرد أن تتعلم التعرف على أنماط الضغوط الصغيرة في حياتك، يصبح بإمكانك أن تخلق ظروفاً مناسبة للتخفيف من حدتها.