الاستفادة من الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة لتعزيز الابتكار

17 دقيقة
تعزيز الابتكار
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إليك هذه القصة عن تعزيز الابتكار تحديداً. خلال السنوات القليلة الأولى في مطلع الألفية الجديدة، وفي ذروة ازدهار قطاع مراكز الاتصالات (Call Centers) الخارجية، اتخذت شركة الخدمات التكنولوجية الهندية العملاقة تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز (Tata Consultancy Services) قراراً بدا نوعاً من السباحة عكس التيّار، حيث قرّرت التخلّص من عملياتها في مجال مراكز الاتصالات.

فلماذا فعلت ذلك؟ لأنّه على الرغم من كون مراكز الاتصالات التي عهدت بها إلى شركات خارجية تشكّل شريحة سريعة النمو ضمن أعمالها في ذلك الوقت، إلا أن قيادة تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز توصّلت إلى قناعة مفادها بأنّ هذه المراكز ستتحوّل إلى عبء كبير عليها قريباً. فنسبة تقلّب الموظفين كانت مرتفعة للغاية وبأرقام استثنائية، الأمر الذي دفع قسم الموارد البشرية إلى العمل على مدار الساعة من أجل توظيف وتدريب ما يصل إلى نصف مليون مندوب جديد سنوياً. وقد شكّل ذلك ضغطاً على الموارد، وشتّت انتباه الشركة عن هدفها الحقيقي ألا وهو تعزيز الابتكار وتطوير قدرات وخدمات ذات طابع أكثر تقدّماً وتعقيداً. وبخروج تاتا من عملياتها في مجال مراكز الاتصالات على الرغم من أنّ الطلب عليها كان أقوى من أي وقت مضى، إلا أنّها كانت تتّخذ الإجراءات المناسبة والمطلوبة لمنع المستقبل الخاطئ من الطغيان على المستقبل الصحيح.

لقد كانت الخطوة التي اتّخذتها شركة تاتا ناتجة عمّا اسميته أنا “اقتناص الفرص المخطط” (Planned Opportunism)، حيث تبدأ الفكرة بإدراك أنّ المستقبل سيتّخذ مساراً لا يمكن التنبؤ به سلفاً، وبأنّ ما يحدّد شكل هذا المستقبل هو تعزيز الابتكار وتغيّرات لاخطّية وأحداث تحصل بمحض المصادفة – وهذا هو الجزء المتعلق بـ”اقتناص الفرص”. أمّا الطريقة التي تتجاوب بها أنت كقائد فهي الجزء الذي يتعلّق “بالتخطيط”. يحتاج اقتناص الفرص المخطط إلى وجود قدر معيّن من الحساسية يسمح بالتقاط الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة، والمقصود هنا هو البراهين المبكّرة على اتجاهات ناشئة يمكن الاعتماد عليها لاستقراء تغيّرات هامّة أخذت تطرأ على السكّان (الديموغرافيا)، والتكنولوجيا، وأذواق الزبائن واحتياجاتهم، وعلى القوى الاقتصادية والبيئية والتشريعية والسياسية. كما أنّ الانتباه إلى هذه الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة يفسح المجال أمام ظهور منظور جديد للأمور، وأمام التفكير بطريقة لاخطية، وهو أمر يساعد المؤسسة على تخيّل الأشكال المختلفة المحتملة للمستقبل والتخطيط للتعامل معها.

وكان قادة شركة تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز قد التقطوا عدّة إشارات من هذا النوع. فقد انتبهوا إلى أنّ التكنولوجيات كانت آخذة بالتحوّل نحو الحوسبة السحابية، الأمر الذي يسمح بتقديم خدمات قطاع الأعمال عن طريق الإنترنت وتعزيز الابتكار بالفعل، عوضاً عن تقديمها عبر بنى تحتية تكنولوجية مملوكة من الشركة ذاتها. كما كانوا يعتقدون، وعن حق، بأنّ الشركات العالمية ستحتاج في نهاية المطاف إلى خدمات ذات مستوى رفيع وأكثر استراتيجية تعهد بها إلى جهات خارجية لتنفّذها لحسابها. (لقد كانت إيرادات المبيعات للموظف الواحد أعلى عادة في حالة خدمات القيمة المضافة، وبالتالي فإنّ تركيز تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز على هذه الخدمات كان سيساعدها على تحسين إيراداتها تحسيناً كبيراً وبعدد أقل من الموظفين). كما كان قادة تاتا يعلمون بحاجة الشركة إلى استقطاب أشخاص يمتلكون مواهب يتزايد مستوى تعقيدها، الأمر الذي كان يستدعي بذل جهد كبير من قبل قسم الموارد البشرية. وقد خلصوا إلى أن مراكز الاتصالات لن تقود الشركة إلى المستقبل الذي تطمح إليه، لا بل ستكون حجر عثرة في طريقهم.

تُعتبرُ ظاهرة “اقتناص الفرص المخطط” بمثابة عملية منهجية، لا يقتصر دورها على إدراك التغيّرات الوشيكة الحصول واستقراء الفرص التي قد تحملها هذه التغيّرات، وإنّما يمتد ليشمل تعزيز الابتكار وصياغة تجارب تسمح باستخلاص الأفكار التجارية الواعدة واللاخطّية وتنفيذها على نطاق واسع. كما أنّها تحقّق ثلاثة أشياء ذات أهمّية استثنائية لأي شركة: أولاً، هي تخلق نظاماً يسمح بتبادل الأفكار الجديدة؛ ثانياً، هي تطوّر قدرة الشركة على ترتيب هذه الأفكار بحسب أولويتها واستقصائها واتّخاذ الإجراءات المطلوبة لتنفيذها؛ ثالثاً، هي تبني نوعاً من الثقافة القابلة للتكيّف والتي تتبنّى مفهوم التغيّر المتواصل. وهي سوف تمكّن مؤسستكم من استباق الأحداث عوضاً عن الاضطرار إلى التجاوب معها بعد وقوع الواقعة. لكنّ المؤكّد في الأمر هو أنّ ظاهرة اقتناص الفرص المخطط قادرة أيضاً على استيعاب عملية تخطيط تسلسل الأحداث (Scenario Planning) المختلفة وغيرها من الأدوات التقليدية والطموحات الثقافية، مثل بناء مؤسسة ذات طابع أقل هرمية وتمتلك موظفين يتمتّعون بصلاحيات كبيرة. لكنّها ليست مجرّد حدث أو نشاط أو أداة. وإنّما هي عبارة عن عمليات وسلوكيات تنطوي على قدر من الانضباط في عدد من الوظائف وهي ستعزّز من مرونة الشركة، ومن قدرتها على مواجهة الصدمات والخروج منها كما ستفضي إلى النمو.

تحديد الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة والتقاطها من أجل تعزيز الابتكار

تبدأ المرونة المؤسسية بوجود فهم واضح لظروف المؤسسة التي قد تكون لمصلحتها أو تشكّل تهديداً لها. ولنأخذ مثالاً من شركة هازبرو (Hasbro) التي تصنع الدمى والألعاب. فبحلول أواسط تسعينيات القرن الماضي، كان هناك الكثير من الإشارات الصادرة التي تدلّ على أنّ التكنولوجيا سوف تسهم على الأغلب في زعزعة قطاع الألعاب وتغيير قواعد اللعبة فيه. وقد شملت هذه الإشارات صعود الحواسب الشخصية ودخول ألعاب الفيديو من شركة أتاري (Atari). وقد لاحظت هازبرو وجود مجموعة من الإشارات التي تُنبئ بحصول تغيّرات هامّة قادمة: فقد كان معدّل الولادات في الولايات المتّحدة الأمريكية يتراجع، وكانت التركيبة العرقية للسكّان تزداد تنوّعاً، كما كان عدد الأسر التي تضمّ زوجين عاملين يؤمّنان الدخل للأسرة يتنامى. ولكن في الوقت ذاته، أسهمت العولمة المتسارعة في تحفيز شهيّة الشركة على النمو في الأسواق غير المستغلّة في أنحاء العالم. لكن هازبرو لم تكن قادرة على التنبؤ بجميع التغيّرات التي ستؤثّر عليها خلال السنوات العشرين التالية (راجع الفقرة الواردة في هذه المقالة والتي تحمل عنوان: “كيف تجاوبت شركة هازبرو مع التغيّر اللاخطي”)، غير أنّها التقطت ما يكفي من الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة لكي تدفعها إلى السير في الاتجاهات المفيدة.

تعزيز الابتكار

لا تزال هازبرو بارعة في التأقلم مع التحوّلات الدائمة الحاصلة في هذا القطاع، لأنّها تمتلك عملية منهجيّة وضعها الرئيس التنفيذي بريان غولدنير، بهدف التقاط الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة للاستفادة منها، واستقراء التطوّرات المستقبلية التي قد تنجم عنها. وتشمل هذه العملية طرح ثلاثة أسئلة أساسية: ما هي العوامل والظروف التي يعتمد عليها نجاحنا الحالي؟ وأيّ منها قد يتغيّر مع مرور الوقت (أو أنّه قيد التغيّر حالياً)، وبالتالي فإنّه قد يعرّض النجاح الحالي للخطر؟ وكيف يمكننا تهيئة أنفسنا لمواجهة هذه التغيّرات المحتملة بحيث نقي أنفسنا من تأثيرها أو نستغلّها لمصلحتنا حتى؟

تُعتبرُ هذه العملية التي وضعها غولدنر ناجحة في حالة هازبرو، ولكن يمكن للمؤسسات الأخرى أن توظّف مقاربات مختلفة وتتمتّع بذات القدر من الفعالية. فعلى سبيل المثال، تستعمل تاتا كونسالتنسي سيرفيسيز منصّة رقميّة داخلية اسمها آلتيماتيكس (Ultimatix) لتشجيع موظفيها الذين يزيد عددهم على 300 ألف شخص على طرح تصوّراتهم بخصوص التحوّلات غير المترابطة الحاصلة في القطاع على الإدارة ومناقشتها مع بعضهم البعض. وقد طوّرت الشركة تطبيقاً يقوم بغربلة الحجم الضخم من الاستجابات وتحديد المواضيع المشتركة. ويُعتبرُ آلتيماتيكس مثالاً جيّداً على مقاربة متاحة للجميع تهدف إلى تجميع الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة من الموظفين. وثمّة خيار آخر يتمثّل في تأليف فريق عمل لأداء هذه الوظيفة ذاتها. فعندما عملت بصفة استشاري مع شركة جي إي (GE) خلال الفترة الواقعة بين العامين 2008 و2009، قمنا بتصميم عملية عصف ذهني (brainstorming) تهدف إلى تجميع الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة والتي قد تؤثّر على مستقبل أعمال قسم الرعاية الصحية في شركة جي إي في الهند. وقد تمثّل التحدّي بالنسبة لنا في بناء عملية تهدف إلى خدمة الأشخاص الذين لا يُعتبرون من الزبائن بعد، وفي هذه الحالة كانت الفئة المستهدفة هي أبناء الريف الهندي غير القادرين على الحصول على خدمات الرعاية الصحية إلا بشكل محدود، وفي الوقت ذاته منافسة المنافسين غير التقليديين، بما في ذلك الشركات المحلية الصغيرة. وقد قمنا بتكوين فريق اخترنا أعضاءه بعناية. كان الفريق مؤلفاً من 20 مديراً تنفيذياً في الشركة (لم يكونوا من الذين يشغلون مناصب عليا في الشركة بالضرورة) و20 شخصاً من خارجها، بمن فيهم المدراء الإداريون للمستشفيات، والأكاديميون المتخصّصون بالرعاية الصحية، والمسؤولون الحكوميون، وأفراد لا يُعتبرون من الزبائن بعد، وممثلو الجهات الناظمة. ولم يكن لأعضاء فريق العمل أي مصالح سابقة في قسم الرعاية الصحية التابع لشركة جي إي، وبالتحديد أجهزة التصوير الطبية ذات الجودة العالية التي تبيعها بأسعار مرتفعة إلى مستشفيات هندية بارزة. وقد قضى أعضاء الفريق أسبوعاً من الزمن في محاولة تحديد الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة والتي أشارت إلى مجموعة متنوّعة من التحوّلات اللاخطّية، بما في ذلك الاحتياجات الواسعة غير الملبّاة في مجال الرعاية الصحية، وعدم قدرة الزبائن على تحمّل التكاليف، والنقص في المستشفيات والأطباء المؤهلين، ووجود قطاع غير متطوّر في مجال التأمين الصحي، وبنية تحتية مادّية ضعيفة، واتصالات رقمية جيّدة.

من الممكن من حيث المبدأ الجمع بين مقاربة فريق العمل، وغيرها من المقاربات التي تسمح بمشاركة الجميع. فالأفكار التي يجري تجميعها عبر نظام مشابه لنظام آلتيماتيكس يمكن أن تخضع لنوع من الغربلة والتوضيح من قبل فريق عمل، أو يمكن اختبار الآراء التي يتوصّل إليها فريق العمل هذا وسط جمهور واسع. ومهما كانت المقاربة التي تتبنّاها المؤسسة، من المهم أن نتذكّر بأنّ أي عملية جيّدة ينبغي أن تجيب عن الأسئلة التالية:

  • من هم زبائنكم في المستقبل؟ وماذا ستكون أولوياتهم؟
  • ما هي التكنولوجيات المُزعزعة التي قد تفتح المجال أمام وجود فرص جديدة؟
  • من هي الجهات التي سنتنافس معها مستقبلاً، وعلى أي أساس؟
  • هل ستتغيّر طريقتكم في الدخول إلى السوق بشكل جوهري في المستقبل؟
  • ما هي الإصلاحات التنظيمية والتشريعية المحتملة؟

في هذه المرحلة من العملية، ليس من الضروري اختزال قائمة الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة. بل يجب أن تكون هذه القائمة أشمل وأوسع ما يمكن.

وضع الفرضيات المتعلّقة بالمستقبل

لا تُعتبرُ الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة ذات قيمة إلا بمقدار ما تولّده من أفكار بخصوص كيفية الوصول إلى الأجزاء غير المخدّمة حالياً من السوق، أو كيفية خلق أسواق جديدة بالكامل. ولتحويل هذه الأفكار إلى فرص حقيقية، يتعيّن عليكم حل بضع قضايا غامضة يمكن التعبير عنها على شكل فرضيات. ويمكنكم وضع هذه الفرضيات من خلال تكوين فريق يضمّ أفراداً من جميع الأقسام الوظيفية، ومن ثم الطلب من هذا الفريق مناقشة السؤال البسيط التالي: ما هي الفرضيات التي يجب أن تكون صحيحة لكي تكون هذه الفكرة مربحة جدّاً؟

واجهت هازبرو قدراً كبيراً من التحدّيات الغامضة عندما اختارت أن تندفع بشكل مخطط نحو قطاع الألعاب المعتمدة على التكنولوجيا. ففي العام 1995، لم يكن أحد يعلم السرعة التي ستتحوّل بها الانترنت إلى قناة واسعة الانتشار والنفوذ. كما كان يتعيّن على هازبرو أن تحدّد المنافسين والشركاء المحتملين، ولم يكن واضحاً ما إذا كان الحاسب الشخصي سيظل المنصّة المهيمنة للتكنولوجيا المنزلية أمّ أنّ شيئاً آخر سيحل مكانه كالتلفزيون أو ربما جهاز جديد بالكامل. ومع وصول الانترنت إلى مرحلة النضج، طَفَت أسئلة أخرى إلى السطح: كيف ستقوم الشركات بخدمة زبائنها سواء في العالم المادي أو في العالم الافتراضي؟ وكيف سيتغيّر النموذج الاقتصادي عندما ينتقل القطاع من الدولارات التي يؤمّنها النظام التماثلي (analog) (أي ما قبل الرقمي) إلى السنتات القليلة التي يوفّرها النظام الرقمي؟

عملت هازبرو على إعادة صياغة هذه التحدّيات الغامضة على شكل فرضيات حدّدت وبمنتهى الصراحة الفرص المحتملة. ومن ذلك على سبيل المثال: بوسعنا تطوير ألعاب ناجحة استناداً إلى العلامات التجارية التابعة لهازبرو. بوسعنا أن نطوّر ألعاب ناجحة من الصفر أيضاً. بوسعنا المحافظة على تكاليف عمليات التطوير والأزمنة المطلوبة للتطوير عند الحدود الدنيا الكافية لضمان الربحية، حتّى عندما تصبح الحواسب وغير ذلك من منصّات الألعاب أكثر تعقيداً. مع تزايد أعداد الناس الذين يشترون الحواسب المنزلية، بوسعنا خفض التكاليف عبر اللجوء إلى نقاط البيع الإلكترونية. بوسعنا أن نزيد من وعي الناس بعلامتنا التجارية من خلال إثبات حضورنا على شبكة الانترنت. بمقدورنا زيادة حصّتنا السوقية من خلال اجتذاب مناطق جغرافية جديدة. بوسعنا زيادة مبيعاتنا بين صفوف زبائننا الحاليين من خلال توسيع خط منتجاتنا.

وعلى المنوال ذاته وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي، اضطرت الشركة المتخصصة بالسيّارات ماهيندرا آند ماهيندرا (Mahindra & Mahindra) والتي كانت جزءاً من مجموعة ماهيندرا غروب (Mahindra Group) إلى وضع مجموعة متنوّعة من الفرضيات في خضم عملية التحوّل التي كانت ترمي إلى صياغة مستقبل الشركة. ففي الفترات التاريخية السابقة، كانت شركة ماهيندرا آند ماهيندرا التي تُعرف أيضاً بالإنكليزية باسم مختصر هو (M&M) متخصّصة بتجميع المركبات لصالح شركات السيّارات الغربية لكي يجري تسويقها بين صفوف الزبائن الهنود. أمّا الآن، فقد باتت الشركة تعتقد بأنّ الوقت المناسب قد حان لإطلاق قسم جديد متخصّص بتصميم المركبات الأصلية وتصنيعها، وتحديداً خطّها الخاص بها من سيّارات الدفع الرباعي.

في أعقاب تحرير الاقتصاد الهندي، أخذت الطبقة الوسطى في ذلك البلد تتنامى بسرعة. وقد أظهرت الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة بأنّ هؤلاء الزبائن الجدد سيقتنون المركبات الهندية المنشأ ذات الأداء الجيّد والتي صُمِّمت وفقاً للأذواق المحلية وسُعِّرت بطريقة تتناسب مع الأوضاع المادّية للسكّان المحليين. بيد أن ربحية القسم الجديد كانت تتطلّب من شركة (M&M) اختبار الفرضيات المبنيّة على أساس فهم الشركة للخيارات المفضّلة لدى الزبائن، وحجم السوق التي ستجري تلبية احتياجاتها، ومدى جاذبية سيّارات الدفع الرباعي بالنسبة للطبقة الوسطى الآخذة بالنمو عند الحد السعري الصحيح، والقدرات الذاتية للشركة، بما في ذلك قدرتها على تصميم سيّارات الدفع الرباعي وتصنيعها بتكلفة مناسبة، وخفض التكاليف من خلال الاعتماد على نقاط قوّة المورّدين. وعادة ما تكون الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة حيادية من حيث مضامينها ويمكن تفسيرها بوصفها فرصاً، أو مخاطر، أو كلا الأمرين معاً. وعلاوة على ما سبق، هي يمكن أن تكون إشارات حقيقية أو قد تكون مجرّد ضجيج. وبالتالي فإنّ الفائدة من هذه الإشارات تتنامى عندما تبدأ شركتكم باختبار مضامين هذه الإشارات من خلال تحويلها إلى أفكار تجارية جديدة، وتحويل الأفكار إلى فرضيات، ومن ثمّ اختبارها.

اختبار الفرضيات بواسطة تجارب منخفضة التكلفة والمخاطر

لقد كان مشروع سيّارة الدفع الرباعي من شركة ماهيندرا آند ماهيندرا، التي حملت اسم سكوربيو (Scorpio) وبكل تأكيد بمثابة مقامرة عالية الخطورة. فالشركة لم تكن تمتلك أي كفاءة مثبتة في مجال تصميم السيارات، في حين بلغت التكلفة المتوقّعة لتطوير سيارة سكوربيو 120 مليون دولار، وكان ذلك سيصبح أكبر استثمار تقوم به الشركة حتّى ذلك التاريخ. قرّرت الشركة انتهاج استراتيجية هندسية تقوم على الاقتصاد في النفقات. وبالتالي فإنّ هذا الاقتصاد في النفقات إلى جانب عدم الخبرة قادا إلى بعض الحلول المبتكرة التي كان لا بدّ أن تخضع للتجريب، حيث كان ذلك عاملاً حاسماً لتمكين الشركة من المضي قدماً. وقد تمثّلت إحدى تجارب (M&M) في تطوير نسخة جديدة من سيّارة حالية من طراز جيب (مرخّصة من شركة جيب الأمريكية للسيّارات) يمكن استعمالها بمثابة حقل تجارب لأجزاء سكوربيو وتكنولوجياتها، وعناصرها التصميمية، وتطويرها، واستراتيجيات تسويقها. ووفقاً لباون جوينكا، الذي ترأس مشروع سكوربيو، وهو الآن يشغل منصب المدير التنفيذي لشركة (M&M)، فإنّ المركبة التي شكّلت حقل التجارب المطلوب، وكانت تدعى بوليرو (Bolero)، كان يجب أن تكون أصغر حجماً من سكوربيو وأرخص ثمناً منها. وقد جرى تسريع إنتاجها لتدخل السوق قبل عامين كاملين من سكوربيو، حيث شكّل ذلك وقتاً كافياً للتجارب التي طبّقتها لكي تعطي النتائج ولكي يجري تعديل سكوربيو بناءً عليها. فعلى سبيل المثال، استعملت شركة (M&M) السيّارة بوليرو لتختبر قدرتها على تصميم وتصنيع ألواح جسم السيّارة، وهي أجزاء كانت الشركة تلجأ سابقاً إلى شركات خارجية لتصنيعها. يقول جوينكا: “لقد كانت سكوربيو بمثابة ابتكار كامل تماماً. كانت عبارة عن فئة جديدة من المنتجات الموجّهة إلى سوق جديدة وتعتمد على استراتيجية تطوير جديدة، وعلى أهداف جذرية في مجال التكاليف، وكذلك على نموذج تجاري جديد. لذلك استخدمنا بوليرو كتجربة لم نستثمر فيها أكثر من 5 ملايين دولار. وتعلّمنا الكثير من بوليرو قبل أن نضع رهاناتنا الكبيرة على سيارة سكوربيو”.

ورغم أنّ بوليرو لم تكن تتمتّع بالصفات الرفيعة التي كانت سكوربيو ستتمتّع بها، إلا أنّها كانت مصمّمة لتكون سيّارة أنيقة ومريحة ولكي تكون ممتعة بقدر كونها تؤدّي الوظيفة المطلوبة منها. كما أنّها اختبرت مقاربات تسويقية جديدة ركّزت على رسائل ومفاهيم أكثر ذكاء وحذاقة بالمقارنة مع الرسائل التي كانت (M&M) قد اعتادت على استعمالها. فالاستراتيجية التسويقية للشركة كانت في السابق “استراتيجية عمومية” بحسب ما قال جوينكا وتركّز بشكل أكبر على وظيفة السيّارة وفوائدها، أكثر من تركيزها على الأناقة والألق. وقد حقّقت بوليرو نجاحات جديدة غير مسبوقة من خلال طرح هذه الفضائل الجديدة، وترسيخ مصداقيتها بين صفوف المشترين في المدن المركزية. وقد أثبت القبول الذي أبداه الزبائن لأناقة التصميم والتجهيزات صحّة الفرضية القائلة بأنّ سكوربيو ستحظى بالجاذبية في أوساط الطبقة الوسطى الهندية التي تقطن المدن الكبرى. كما أدرك الفريق أيضاً بأنّه لم تكن هناك سوق بعد لسيّارات الدفع الرباعي في الهند، لذلك فإنّ استعمال هذا التوصيف لم يكن ذات معنى. “لذلك عوضاً عن استعمال عبارة سيّارات الدفع الرباعي، اسميناها سيّارة فقط،” كما يقول جوينكا.

كما خفّفت الحملة التسويقية من تركيزها على العلامة التجارية لشركة ماهيندرا التي ارتبط اسمها بقوّة بتصنيع المركبات الشبيهة بسيّارات الجيب، والتي كانت مخصّصة بصورة رئيسية للزبائن في المناطق الريفية. يقول جوينكا: “في الإعلانات، اسميناها سكوربيو وأضفنا عبارة بخط صغير في أسفل الصورة تقول “من صنع ماهيندرا”. أمّا الإعلانات التلفزيونية، فقد حاولت أن تقلّد اللمسة الطموحة التي تراها في إعلانات رولز رويس، وقد تفاعل الجمهور الهندي معها تفاعلاً جيّداً.”

أخيراً، كانت تجربة بوليرو بمثابة فرصة لاختبار فكرة إمكانية زيادة درجة اقتصادية سيّارة سكوربيو من خلال اتّباع مقاربة مبتكرة في العلاقة من المورّدين. وقد شكّل افتقار (M&M) إلى الخبرة حافزاً للشركة لكي تتعلم من المورّدين عوضاً عن أن تملي عليهم ما يتوجّب عليهم فعله. لذلك وضعت خصائص واضحة للأداء، وأهدافاً رقمية محدّدة للموازنة، كما تعاملت مع المورّدين بوصفهم شركاء في التصميم. وبما أنّ هذا الأمر لم يكن مألوفاً في قطاع صناعة السيّارات، فقد استغرق وقتاً لكي يحظى بالقبول. لكنّ (M&M) اكتشفت بأنّ العديد من المورّدين شعروا بالسعادة جرّاء التقدير الذي حظيت به خبراتهم وجرّاء منحهم هامش تحرّك أكبر ممّا تقدّمه شركات صنع السيّارات الأخرى عادة. وبعد أن صقلت (M&M) قدراتها في مجال الهندسة القائمة على الاقتصاد في التكاليف عبر سيّارة بوليرو، تمكّنت من تسعير سيّارتها سكوربيو ذات الجودة العالية والتكلفة المنخفضة بثمن يقل 30% إلى 40% عن أثمان سيّارات المنافسين. أمّا اليوم فإنّ مبيعات سكوربيو تفوق مبيعات السيّارات المنافسة التي تصنعها فورد ورينو وغيرهما.

يمكن للتجارب المنخفضة التكلفة والمنخفضة المخاطر أن تشكّل تحدّياً للعديد من المؤسسات، كما تبيّن لشركة آي بي إم (IBM) عام 1993 عندما حاولت إطلاق فكرة جديدة اسمتها “الحوسبة المنتشرة” (Pervasive Computing). وقد كان هذا المفهوم مستنداً إلى الاعتقاد القائل بأنّ التجارة عبر الانترنت سوف تنتشر بسرعة وتتجاوز الحواسب بحيث تتمّ عبر أجهزة أخرى، مثل الهواتف الخلوية، وأجهزة المساعد الرقمي الشخصي (PDAs)، والسيّارات، والأدوات الكهربائية المنزلية، وغير ذلك من الأجهزة والأشياء التي يمكن ربطها شبكياً. وكانت هذه الفكرة بمثابة تنبؤ بما يُسمّى اليوم “انترنت الأشياء” (Internet of Things). لكنّ مبادرة الحوسبة المنتشرة واجهت صعوبة في إثبات نفسها. وقد كان السبب في ذلك يعود جزئياً إلى أنّها غطت مجالاً بحثياً واسعاً ولم تكن وحدة منظمّة بشكل رسمي. وبالتالي فإن مجموعة المشاريع غير المترابطة بشكل كبير فيما بينها والتي كانت تخصّ فكرة الحوسبة المنتشرة انتهى بها المطاف وقد أوكلت إلى أقسام أساسية مختلفة في الشركة يعمل كل واحد منها بمعزل عن الأقسام الأخرى. وقد طَبّقت هذه الأقسام المنعزلة عن بعضها البعض مجموعة واسعة من المقاربات التطويرية التي كانت أنسب لحالة الشركات الراسخة وليس الشركات الناشئة التي تستهدف أسواقاً لا تزال في مرحلة الارتقاء.

عملت (IBM) على حلّ هذه المشكلة في أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما طبّقت هيكلية تنظيمية تُدعى الفرص التجارية الناشئة (EBO) بهدف احتضان المشاريع الوليدة ومساعدة الشركة على مواكبة الصعود الصاروخي لشبكة الانترنت كمنصّة لممارسة الأعمال بشكل مباشر. وقد تبنّت هذه الهيكلية التنظيمية إطاراً مناسباً تماماً للشركات الناشئة كان يختلف اختلافاً جذريّاً عن الطريقة التي أدارت بها (IBM) مجموعة أقسامها الراسخة. وقد ركّزت تركيزاً هائلاً على التعرّف على أسواق التكنولوجيا الناشئة.

في نهاية المطاف، قام كبار المدراء بتوحيد مختلف المشاريع ذات الصلة بمفهوم الحوسبة المنتشرة ووضعوها ضمن وحدة تجارية وحيدة، كانت تعمل وفق قواعد جديدة محدّدة بوضوح ودقّة ضمن آلية عمل هذه الهيكلية الجديدة. وعوضاً عن وضع مشروع الحوسبة المنتشرة تحت سيطرة أحد رؤساء الأقسام التشغيلية، جرى تعزيز الابتكار عبر تكوين فريق متخصّص بهذا الموضوع ومتفرّغ للعمل عليه، وقد وُضِعَ هذا الفريق تحت أمرة نائب رئيس مجلس إدارة (IBM) جون طمسون، وبالتالي جرى عزل هذا الفريق عن الضغوط التي تمارسها الأقسام الأساسية على المدى القصير. وقد مكّنه ذلك من إجراء التجارب المطلوبة بأناة وتروٍّ، ومن تقويم أوضاع السوق التي كانت ذات طبيعة مائعة وغير واضحة المعالم، ومن وضع صياغة أدق للاستراتيجية.

لم تكن مقاييس التقدّم المحرز تستند إلى الأداء المالي على المدى القصير، وإنّما إلى الأشياء الجديدة التي يجري تعلّمها، مثل اختبار الفرضيات الأساسية، ووضع صياغة أدق للاستراتيجية، وتحقيق إنجازات رئيسية في مجال تحديد المصادر الأساسية للأرباح المستقبلية بعدما تكون الأسواق الوليدة قد نضجت. يقول رود آدكينز، الذي ترأسّ هذه الوحدة خلال السنوات التي حملت اسم “الفرص التجارية الناشئة”: “لقد بدأ كل شيء فعلناه تقريباً على شكل تجربة داخل السوق” كانت تجري بالتعاون مع أحد زبائن (IBM). فعلى سبيل المثال، عمل فريق متخصّص بالحوسبة المنتشرة مع إحدى شركات صناعة الهواتف الخلوية من أجل تطوير منصّة قادرة على عرض بيانات غنيّة بواسطة أشكال مختلفة من الوسائط المتعدّدة. وقد شملت هذه العملية تطوير خدمة مفصّلة بحسب احتياجات الزبون. وجرى تحويل ثمار هذا التعاون في نهاية المطاف إلى منتجات يمكن تقليدها مع الزبائن الآخرين. وبعد مرور بعض الوقت، أصبحت وحدة الحوسبة المنتشرة أحد أقسام (IBM) التي تبلغ قيمتها مليار دولار.

ومنذ تطبيقها، استطاعت هيكلية الفرص التجارية الناشئة في (IBM)، أن تساعد الشركة في تعزيز الابتكار عبر تحويل المزيد من قدراتها البحثية إلى أقسام تجارية جديدة. فقد ثَبُتَ بأنّ اللجوء إلى استعمال فرق تمتلك صلاحيات قويّة بهدف اختبار بعض الفرضيات هو استراتيجية فعّالة تنطوي على مخاطر قليلة بالنسبة للشركة.

وثمّة تجربة من تاريخ شركة هازبرو في مجال تأسيس المشاريع يمكن أن تكون درساً مفيداً يبيّن مخاطر الاندفاع نحو الدخول إلى سوق جديدة دون اتّباع آلية التعلّم المتسلسل التي تطرّقنا إليها. ففي العام 1970، كانت إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون قد أطلقت برنامجاً يقوم على توفير الدعم المالي لخدمة حضانة الأطفال على سبيل الدعم للأمّهات العاملات. وبغية اغتنام هذه الفرصة، أطلقت هازبرو سلسلة من حضانات الأطفال تحت اسم العلامة التجارية رومبر روم (Romper Room) (والتي شهرها برنامج أمريكي للأطفال يحظى بشعبية كبيرة). وعوضاً عن الاستعانة بتجارب منخفضة التكلفة لخلق دورات تسمح للشركة بالتعلّم السريع، اتّخذت هازبرو مقاربة مختلفة تقوم على المبدأ التالي: “إذا بنينا الحضانات، فإنّهم سيأتون إلينا”. وقد كانت الشركة واثقة من أنّ هذه الحضانات سوف تستفيد من خطّ إنتاجها الناجح من الألعاب التي تحمل اسم رومبر روم. لكنّ هازبرو كانت شركة للمنتجات وليس شركة معنية بتقديم الخدمات؛ وبذلك فإنّها ابتعدت عن مجال تخصّصها الذي تدركه بالعمق. وقد قال آلان هاسينفيلد، أحد أفراد العائلة المؤسسة لشركة هازبرو لصحيفة وول ستريت جورنال: “كنّا نتلقّى اتصالات هاتفية يقول الشخص فيها “لا نستطيع العثور على أحد الأطفال” فكانت الشركة بأكملها تتوقّف عن العمل”. وبعد خمس سنوات من تطبيق استراتيجية جريئة ولكن غير مدروسة جيّداً، أعلنت هازبرو عن خروجها من العمل في مجال حضانات الأطفال.

الاستثمار في “الحصان الذي تستطيع السيطرة عليه”

غالباً ما تجهل الشركات والمدراء التنفيذيون الطريقة المثالية للنظر إلى المستقبل، ناهيك عن الطريقة الأنسب لاتخاذ الإجراءات المطلوبة بناءً على تلك النظرة. ورغم أنّهم يعترفون وعن حق بأن التنبؤ بالمستقبل هو أمر غير ممكن، إلا أنهم قد ينظرون إلى المستقبل بوصفه نقطة بعيدة في الأفق – أي بوصفه واقعاً سوف يتعاملون معه عندما يأتي الوقت المناسب. لكنّ المستقبل “ليس” نقطة بعيدة. وإنّما هو يشبه البرنامج الحاسوبي الذي يجري تحديثه على الدوام: فهو يصل على شكل جرعات يومية ينبغي ملاحظتها وفهمها. وفقط عندما تعمل شركتك على بناء المستقبل يوماً بيوم يمكنها عندها أن تتجاوب بمرونة عندما تواجه فرصاً لاخطّية (nonlinear opportunities)، أو تهديدات خطرة محتملة.

إنّ اقتناص الفرص المخطط هو عبارة عن استراتيجية تقتضي تعزيز الابتكار وممارسة بعض السيطرة على الظروف التي لا يمكن التنبؤ بها “قبل” وقوعها. وبطبيعة الحال، ينطوي هذا الأمر على واحدة من أكبر معضلات الحياة هيمنةً علينا. فكما تقول إليزابيث غيلبرت في مذكراتها التي تحمل عنوان “طعام – صلاة – حب” (Eat, Pray, Love): “نحن نعدو في حياتنا مثل لاعبي السيرك الذين يوازنون أنفسهم على حصانين يجريان بسرعة بجوار بعضهما بعضاً، حيث نضع قدماً على الحصان الذي يدعى “القدر”، ونضع القدم الأخرى على الحصان الآخر الذي يسمّى “الإرادة الحرّة” (أي شعورنا بأننا مخيّرون ومسيّرون في الوقت نفسه). والسؤال الذي ينبغي عليك أن تطرحه على نفسك كلّ يوم هو التالي: أي الحصانين هو “القدر” وأي الحصانين هو “الإرادة الحرةّ”؟” وأي الحصانين يقع خارج سيطرتي ويتعيّن عليّ ألا أقلق بشأنه، وأيّهما يجب أن أسوسه بطريقة مدروسة؟”

رغم أنّ جيلبرت تكتب هذا الكلام عن السلوك الشخصي للإنسان، إلا أنّ الاستعارة التي تستعملها تنطبق أيضاً على المؤسسات وعلى قادتها. ففي كلّ نشاط من النشاطات يتعيّن على الشركة أن تطرح على نفسها السؤال التالي على الدوام: أي الحصانين هو “القدر” وأي الحصانين هو “الإرادة الحرةّ”؟” فحصان الإرادة الحرّة يمكنك أن تسوسه، لكنّك لا تستطيع أن تسوس حصان القدر. وبالتالي فإنّ اقتناص الفرص المخطط يفرض على القادة تخصيص طاقتهم للحصان الأول.

أنا لا أقول هنا بأنّكم يجب أن تتجاهلوا الحصان الذي لا تستطيعون السيطرة عليه. بل على العكس من ذلك، أنتم بحاجة إلى فهم الاحتمالات المدمّرة التي قد يجلبها القدر الذي لا يمكن السيطرة عليه واحترامها والتحوّط منها. وأكثر الطرق فعالية للسيطرة على الحصان الذي لا تستطيعون التحكّم به هو التركيز على الحصان الذي تستطيعون التحكّم به. فالعملية التي اتبعتها شركة هازبرو من أجل تحديد الإشارات الدالّة على التغيّر القادم والتصرّف بناء على ذلك، والمعرفة التي اكتسبتها شركة (M&M) من خلال التجريب، وبرنامج الفرص التجارية الناشئة في (IBM)، كلّها أسهمت في زيادة استعداد هذه الشركات وجاهزيتها لمواجهة المستقبل.

كيف تجاوبت شركة هازبرو مع التغيّر اللاخطي من أجل تعزيز الابتكار

خلال الفترة الواقعة بين العامين 2001 و2015، وهي الفترة التي شهدت انفجار فقاعة الإنترنت والركود العظيم، ارتفع سعر سهم شركة هازبرو من 11$ إلى 72$، في حين ارتفع سعر سهم منافستها الرئيسية شركة ماتيل (Mattel) من 15$ إلى 25$ فقط. وقد كان السبب في ازدهار هازبرو، هو تجاوبها السريع مع الإشارات الدالّة على التغيّرات القادمة، والتي كانت عبارة عن تغيّرات لاخطية دراماتيكية في قطاع الترفيه العائلي. وفيما يلي بعضاً منها.

التكنولوجيات المُزعزعة

كانت مونوبولي وغيرها من ألعاب الطاولة (Board Games) هي الألعاب التي هيمنت في مطلع تسعينيات القرن العشرين، لكن سرعان ما ظهرت تكنولوجيات جديدة تسبّبت بزعزعة قطاع الألعاب:

  • وجدت الألعاب منصّة جديدة على الأجهزة الرقمية والأجهزة المحمولة.
  • تسبّبت الألعاب التي أخذت شكل التطبيقات الهاتفية في تخفيض العوائق أمام دخول الألعاب إلى السوق بسهولة.
  • انتشرت الألعاب الرقمية انتشار النار في الهشيم وبكميات كبيرة أدّت إلى حصول انقلاب في النماذج التقليدية لتحقيق الإيرادات.

أقنية التوزيع الجديدة

في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت الألعاب والدمى توزّع بصورة رئيسية عبر متاجر التجزئة المبنية من الحجر والاسمنت. وبعد ذلك:

  • بدأت متاجر التجزئة المتناهية في ضخامتها وحجمها الكبير في الضغط على المتاجر والدكاكين الصغيرة.
  • ظهرت شركة أمازون وغيرها من شركات التجارة الإلكترونية.

التحوّلات الجذرية التي طالت الزبائن

في عام 1995، كانت الفئة الأساسية التي استهدفتها شركة هازبرو هي الزبائن الذين يبلغ عمرهم 15 عاماً أو أقل. ولكن خلال العقدين التاليين:

  • بدأ الأب والأم العاملان يقضيان وقتاً أقل مع أطفالهما، لكنّ دخلهما بات في الوقت ذاته أكبر. وبالتالي فإنّ حجم الإنفاق على الطفل الواحد ازداد.
  • بدأ الأهل يفضّلون الدمى والألعاب التي رأوا فيها قيمة “تشكّل إغناءً لشخصية الطفل”.
  • بما أنّ ازدحام الجدول الزمني للأطفال بدأ يتزايد بشكل كبير، استعرت حدّة المنافسة من أجل كسب وقتهم ولفت انتباههم.
  • بات الأولاد يقضون وقتاً أطول بمفردهم وأصبحوا يفضّلون ألعاب الفيديو ذات الإيقاع السريع.
  • أصبح الجدّ والجدّة، واللذان كانا غالباً يعتنيان بالأطفال الصغار وبات لديهما دخل أكبر متاح للإنفاق، زبائن مستهدفين جذّابين.
  • ازداد عدد الناس الذين يمارسون الألعاب أثناء تنقّلهم بين البيت والعمل في القطار أو في الباص.

المنافسون غير التقليديين

منذ العام 1995، ظهر منافسون جدد:

  • شركات التكنولوجيا والأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية مثل إلكترونيك آرتس، ومايكروسوفت، وسوني، ونينتندو.
  • الهواتف الذكية وغير ذلك من المنتجات القائمة على التزاوج بين الاتصالات والحوسبة والإلكترونيات الاستهلاكية.
  • شركات الإعلام والترفيه مثل ديزني.
  • شركات الألعاب المحلية الصينية والهندية البارعة في مجال التكنولوجيا.
  • كبريات الشركات التي توفّر منتجات تحمل العلامة التجارية للمتاجر التي تباع فيها.

العولمة

في العام 1995، كانت هازبرو بصورة أساسية شركة أمريكية. أمّا العولمة فقد باتت توفّر الآن فرصاً جديدة:

  • معدّل الولادات آخذ بالتزايد في الدول الفقيرة في حين أنّه يشهد تراجعاً في الدول الغنية.
  • تحتاج الأسواق الناشئة – والتي تمتلك مفهوماً مختلفاً للّعب، وقدرات مالية أقل، وأقنية توزيع فريدة من نوعها – إلى كفاءات جديدة ونماذج تجارية جديدة.
  • هي توفّر قاعدة تصنيعية منخفضة التكلفة، وتشكّل مصدراً لليد العاملة الموهوبة الرخيصة التي تمتلك مهارات رفيعة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .