كيف تبدو القيادة التي تعتمد على روح التفاؤل؟

6 دقائق

قد يكون من الصعب أن تنصح الموظفين بالتحلي بالإيجابية حينما تجد أن الأخبار السلبية تنتشر في كل مكان وأينما يمّمت وجهك وجدت الكثير من الشركات تواجه تحديات مالية ولوجستية غير مسبوقة، إذ يبدي كثير من القادة الذين نعمل معهم تململهم من محاولات التأكيد على التحلي بروح الإيجابية والسعادة، خاصة الآن في ظل هذه الجائحة العالمية، ويخشون أنها ستجعلهم يبدون بعيدين عن الواقع، وبدلاً من مساعدة مرؤوسيهم، فإنها ستؤدي إلى نتائج عكسية.

بيد أن نتائج مشروع بحثي استمر لسنوات عدة في نظام المستشفيات بولاية آيوا الأميركية تشير إلى عكس ذلك تماماً، إذ يجب على القادة أن يحرصوا كل الحرص على تشجيع مرؤوسيهم على التحلي بالإيجابية في خضم الانتكاسات أو الأوقات العصيبة تحديداً لأنها ستساعد الفرق على الصمود في وجه العاصفة.

قبل ثلاث سنوات، غابت الأرباح عن مجموعة “جينسيس هيلث سيستم” (Genesis Health System) للرعاية الصحية التي تتألف من خمسة مستشفيات ومركز إقليمي للخدمات الصحية، وهو ما كان ينطبق على الكثير من المستشفيات التي شهدت أدنى معدلات الربح منذ اندلاع الأزمة المالية عام 2008، ونتيجة لذلك، راح بعض القادة في “جينسيس” يتحدثون عن السعادة في العمل، إذ كان جوردان فويغت، رئيس أكبر مركز طبي (مركز جينسيس الطبي في دافنبورت)، يواجه معضلة عويصة، فقد أراد أن يبث مزيداً من الإيجابية في ثقافة المركز الطبي، لكنهم كانوا بصدد جولتين هائلتين من خفض التكاليف وتسريح العمالة، بالإضافة إلى ذلك، كانوا يطلبون من الموظفين تقليل ساعات عملهم وأخذ إجازة مدفوعة أو غير مدفوعة الأجر.

لكنه شعر بضرورة التركيز على ثقافة الشركة وافترض أن الإيجابية يمكن أن تساعد المركز في هذا الوقت الحاسم، فعملنا مع المركز الطبي لطرح سلسلة من التدخلات النفسية الإيجابية في كل قسم على حدة حتى نتمكن من اختبار الفاعلية مقارنة بالمجموعات التي لم تتعرض للتدخلات، حيث صمم كل قسم تغييرات إيجابية معدة خصيصاً بما يناسب ثقافته الفرعية التي تتراوح ما بين تمارين الامتنان وزيادة جرعة الثناء والتقدير من المدراء وسلوكيات اللطف الواعية والقائمة على الفريق بأكمله.

وقع الاختيار على اللون “البرتقالي” بحيث يرمز إلى التغييرات الإيجابية، فعند عودة الموظفين من الإجازة في بعض الأقسام، على سبيل المثال، يقوم زملاؤهم بتغطية مكاتبهم بكلمات تنم عن التقدير على لاصقات برتقالية اللون. وقام موظفو قسم السلوك التنظيمي بشراء اليرقات لكل قسم في المستشفى بأكمله وأطلقوا معاً الفراشات الملكية بعد خروجها من الشرنقة تعبيراً عن التغيير. وعندما تنجب الأمهات أطفالاً جدداً، يقدم الموظفون للأشقاء والشقيقات الكبار الضفادع البرتقالية المصنوعة من القطيفة التي تسمى “بيبي سباركس” (Baby Sparks) تعبيراً عن الطابع اللطيف للقسم، فيما يحصل الموظفون على جائزة “سبارك أوورد” لنشر السعادة من خلال سلوكهم اللطيف، حتى إنك قد تجد في بعض الأقسام قبعات شعر شبكية برتقالية اللون وعربات أسطوانات أكسجين برتقالية.

علاوة على ذلك، كُلّف رؤساء الأقسام والموظفون بدراسة سبل تغيير إجراءات العمل الحالية لخلق مزيد من السعادة في العمل، مثل استهلال اجتماعاتهم بذكر ثلاث إيجابيات أو اعتماد برنامج للثناء والتقدير، وعملنا على اتباع سياسة تدوير الفرق المدربة حتى نتمكن من اختبار مدى نجاح مختلف الإدارات في التعامل مع الانتكاسات لحظة وقوعها.

وبصفتنا باحثين في مجال السعادة، توقعنا ارتفاع مستوى أداء الأقسام التي طُبّقت عليها استراتيجية التدخلات الإيجابية، ولكننا لم نكن نتوقع أن يصل التحسن إلى هذه الدرجة،

فقد أفاد 23% فقط من أعضاء الفرق التي لم يتعرض أفرادها للتدخل الإيجابي بأنهم “معبرون جداً عن التفاؤل في العمل”، وقفزت هذه النسبة إلى 40% بعد المشاركة في تدريب ثقافة علم النفس الإيجابي (تم قياسها بعد ستة أسابيع من التدخل)، بل إن نسبة المشاركين الذين أفادوا بأنهم سعداء في العمل ارتفعت من 43% إلى 62% حتى في خضم التغييرات التنظيمية الهائلة، فيما انخفضت نسبة الأفراد الذين يشعرون بالإرهاق “كثيراً” من 11% إلى 6%، وانخفضت نسبة الأفراد الذين أفادوا أنهم “يشعرون بالتوتر الشديد في العمل” بنسبة 30% بعد مشاركتهم في ورشة العمل حول اكتساب عقليات إيجابية في الفريق، كما شهد مستوى التواصل الاجتماعي تحسناً ملحوظاً أيضاً، فقد ارتفع عدد المشاركين الذين قالوا “أشعر بالارتباط مع زملائي في العمل” من 68% إلى 85%، علماً بأن هذا التحسن جاء بعد إجراءات خفض عدد الموظفين حيث لم يعد بعض الزملاء والأصدقاء يعملون في المؤسسة.

وقد ادعى 37% فقط من المشاركين في الأقسام التي لم تكن جزءاً من استراتيجية التدخلات الإيجابية أن “جينسيس” تسير في الاتجاه الصحيح، مقارنة بـ 63% في المجموعات التي طُبِّقت عليها الاستراتيجية ذاتها. تخيل لو أن ضعف عدد الأشخاص في فريقك شعروا بأن الشركة تسير في الاتجاه الصحيح حتى في الأوقات العصيبة المليئة بالتحديات.

لماذا نجحت هذه الاستراتيجية وما الدروس المستفادة منها؟ كنا قد كتبنا في السابق عن فاعلية تدخلات علم النفس الإيجابي وأثرها على الأداء، لذلك لن نكرر الحديث عن هذه المسألة هنا، ولكن نسوق فيما يلي أربع نصائح رئيسية للقادة الذين يريدون معرفة كيفية بدء المحادثة.

كن مثلاً أعلى يُحتذَى به

يتحدث القادة في كثير من الأحيان عن قيمة العقلية الإيجابية وكيف أن العنصر البشري هو أعظم أصولهم، لكنهم لا يكلفون أنفسهم بعد ذلك عناء حضور ورشات عمل القيادة الإيجابية الداخلية المعدة لهم خصيصاً بحجة أنهم مشغولون للغاية، وهو ما يوحي لبقية أفراد المؤسسة بأن الثقافة الإيجابية تحتل في الواقع درجة أدنى بكثير على سلم أولويات القادة بخلاف ما يزعمون. أما “فويغت” فقد افتتح كل ورشة عمل بنفسه وبصفته رئيساً للمركز الطبي، وحرص على متابعة نتائج كل جولة من جولات جمع البيانات للوقوف على الإيجابيات وما إن كان يجب الاستمرار في العملية من عدمه، وأكد أن السعادة تمثل لهم أولوية قصوى، ما جعل الموضوع أكثر وضوحاً في أذهان موظفيه. هذه هي الخطوة الأولى للقادة الذين يرغبون في خلق عقلية إيجابية في خضم الانتكاسات: أظهر هذه العقلية وكن قدوة يحتذي بها الآخرون.

ساعد الموظفين على الارتباط بالهدف قبل مطالبتهم بالتغيير

لا يُقدِم الموظفون عادة على إجراء تغييرات إيجابية من تلقاء أنفسهم أو بمعزل عن الآخرين، وغالباً ما تكون العقلية الإيجابية في العمل ممارسة جماعية لأن السلوكيات والمواقف تتعزز عندما يقوم أفراد المجموعة بذلك معاً وفي الوقت ذاته. كان التركيز في ورشات العمل منصباً على اكتساب عادات إيجابية، والتوصل إلى أفكار مبتكرة حول وضع روتين جديد للعمل ومناقشة الثقافة معاً في مجموعات، وهو ما أتاح الفرصة أمام المشاركين لإتقان العقليات الجديدة والروتين الجديد وطرق العمل الجديدة، فقد راحوا يكتبون سيناريوهات اجتماعية جديدة في اللحظة الآنية ويربطون هذه التغييرات بالغرض، ويوضحون الأثر الكبير الذي يمكن أن تحدثه سعادتهم وإيجابيتهم على مرضاهم. من الضروري أن يساعد القادة مرؤوسيهم على الشعور بالارتباط بالهدف أولاً ثم تفويضهم لإحداث تغيير إيجابي.

اجعل التغييرات جزءاً من الطريقة الروتينية لأداء العمل

لا يصح أن تكتفي كقائد بأن تقول لمرؤوسيك بكل بساطة: “لا تقلقوا ، كونوا سعداء”، فالعمل معهم لخلق أنماط تعزز الإيجابية، ومحاولة ابتكار طرق جديدة للإيجابية في خضم أجواء مشحونة بالتوتر من أصعب ما يمكن، لذا فإن إنشاء أنماط منتظمة للمؤسسة أو القسم ككل من شأنه أن يسهم في الحفاظ على الإيجابية دون الحاجة إلى استدعاء موارد فكرية جديدة، فقد لا يزيد الأمر عن تنظيم حفل بسيط. كان قسم المناظير، على سبيل المثال، معروفاً بثقافته السلبية حتى إن معدل الوظائف الشاغرة فيه وصل إلى 35%، لكنه قام الآن بتحديد مواعيد منتظمة لتناول وجبات غداء مشتركة، وكانت النتيجة نزول معدل الوظائف الشاغرة في القسم إلى 0% على مدى ستة أشهر، فيما أرسى بعض رؤساء الأقسام روتيناً يقضي بأن يقول كل موظف شيئاً واحداً ينم عن شعوره بالامتنان في مستهل الاجتماعات الداخلية كافة، وخصصت بعض الأقسام مناطق يمكن للأشخاص استخدامها لتعليق رسائل تعبر عن الشكر أو لصق صور تعبر عن النجاحات المتحققة بحيث يتم إعطاء جرعة من الإيجابية البصرية لأي موظف أو مريض يدخل إلى هذا القسم.

تتبع النتائج لإضفاء صفة الاستدامة على التغييرات

إذا لم يكن هناك تغيير محسوس، أو إذا لم تكن هناك بيانات تبرر النهج المتبع، فلن يتجذَّر التغيير الثقافي بسهولة. وإذا لم نلمس الإيجابيات بأنفسنا، فسوف نفتقر إلى الدافع لإضفاء صفة الاستدامة على هذا التغيير أو لوضعه على رأس اهتماماتنا، وستتعرض التدخلات الإيجابية للإهمال على وجه الخصوص في الأوقات العصيبة ما لم تربط بوضوح بين الطاقة المطلوبة لمواصلة التغيير الإيجابي والنتائج المرجوة. سمعت الفرق الأخرى في النهاية عن التدخل والنتائج المتحققة، بعد اتباع النهج التدريجي المنتظم، وطالبت في الواقع بتطبيق التدخل الإيجابي في فرقها.

لم تكن كل هذه التغييرات مفيدة لموظفي المستشفى وحسب، بل أفادت المرضى أيضاً، فقد تضاعفت معدلات تجربة المرضى خلال فترة 12 شهراً تقريباً، وعاد “مركز جينسيس الطبي في دافنبورت” إلى تحقيق الربح من جديد بعد التدخل، واستطاع تغطية ميزانيته التشغيلية بل وتجاوزها بنسبة 35% خلال النصف الأول من عام 2019، فحقق أرباحاً بقيمة 8 ملايين دولار بعد أن كان يتكبد خسارة تشغيلية بقيمة 2 مليون دولار، ونال المركز الطبي الإشادة في عام 2019 من قبل مؤسسة “برس غاني” (Press Ganey) كواحد من أكثر المراكز الطبية تطوراً في البلاد من حيث الأداء، وبعد ستة أشهر من السنة المالية ارتفع إجمالي الإيرادات التشغيلية بمقدار 15 مليون دولار أي بنسبة 8.7%، بينما زادت النفقات بقيمة 1.9 مليون دولار فقط أي بنسبة 1.1%، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حقق المركز رقماً قياسياً في تاريخه بإجمالي إيرادات بقيمة 114 مليون دولار. حدث كل هذا في وقت كانت فيه عدة مؤسسات عاملة في القطاع الطبي تعاني خسائر مالية.

يمكنك خلق عقلية إيجابية في شركتك، عقلية تعود بالنفع على كلّ من موظفيك وعملائك، حتى في أصعب الظروف. ما هو أفضل وقت لبدء الحديث عن الإيجابية في العمل؟ ربما الآن.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .